كيف أصبحت علامات الترقيم رموزًا تعبيرية؟

ظهرت علامات الترقيم بدايةً في اللغات الأوربية، فكيف تطورت دلالتها التعبيرية مع كل لغة جديدة تبنتها حتى وصولها لغة الانترنت؟

لطالما حاولت تخيّل الرسائل المكتوبة بأصوات مرسليها، فنبرة الصوت والإيماءات المصاحبة عوامل قوية في نقل الدلالة. إذ يمكن للكلمات ذاتها أن تنقل الغضب أو الرضا أو التوتر، ونبرة الصوت وإيماءات اليد تنقل لنا المعاني العاطفية المضمنة فيها. لكن قد تضيع تلك المعاني بسهولة في النص المكتوب، وهنا يكمن دور علامات الترقيم.

فمثلًا ما الذي يُشعر القارئ بالهدوء حين قراءته «عادي، صدق عادي» بينما تثير الجملة ذاتها القلق عند اختلاف علامات الترقيم «عادي؟! صدق عادي؟!»؟

تاريخ علامات الترقيم وغرضها اللغوي

المبدأ الأساس وراء العلامات إشعار القارئ بعاطفة النص؛ فيتوقف عند نقطة ويرفع صوته عند علامة تعجّب ويغير نبرته عند علامة استفهام. علامة التعجب باللغات الأوربية خير مثال على إثراء المعنى في النص المكتوب. فأتت كي تشد انتباه القارئ عند نهاية عبارات مثل «انظر!» و«انتبه!». ومثلها النقطة التي تدل على اكتمال معنى الجملة ونهايتها.

ورغم أن تلك العلامات بدأت بأشكال ودلالات محددة وواضحة، تطوَّر استخدامها مع تبنِّي لغات مختلفة لها وتغييرها بما يناسب ثقافة اللغة ونظام كتابتها.

على سبيل المثال، لم يقتصر استخدام علامة التعجب على نهاية الجملة فقط في اللغة الإسبانية، بل توضع مقلوبة في بداية الجملة أيضًا كـ«¡Hola!». أما الأردية فتستخدم الشَّرطة (-) كنقطة بنهاية الجملة. وعكست العربية علامات كالفاصلة وعلامة الاستفهام لتنسجم مع نظام كتابتها.

ولعل اللغة اليابانية أكثر اللغات تميزًا بعلامات ترقيمها. فهي تستخدم هاتين العلامتين للتنصيص «「…」» ودائرة مفرغة للنقطة الموضوعة نهاية الجملة «。 ». وبينما تعني التلدة «~» بالإنقليزية «تقريبًا» – فمثلًا تدل 42~ على «نحو اثنين وأربعين» – ففي اليابانية تجمع العلامة بين عدة أغراض. فتُستخدم لفصل عنوان رئيس عن عنوان فرعي أو تحل مكان النقطتين الرأسيتين أو القوسين.

لكن علامة التناوب الجزئية «〽» (part alternation mark) تظل أغربها، فهي خاصة باليابانية ولا تحمل معنىً لغويًّا خارجها. تُستخدم العلامة في تأليف الأغاني اليابانية للإشارة إلى بداية أغنية أو بداية فقرة العازف أو المغني. 

ورغم اندثارها في الكتابة الموسيقيّة الحديثة، تنتشر اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي حيث تُستخدم لشكلها المتميز دون التزام بدلالتها الأصلية. كما أصبحت رمزًا للفرق الرياضية في جامعة ميشيقان لشبهها بالحرف «M».

لم یتوقف انحراف علامات الترقيم عند تغير أشكالها فحسب، بل حتى في دلالتها المتغيرة عبر الزمن. فبينما كانت علامة التعجب لشدٍّ للانتباه تحوّلت إلى صوت صراخ مرتفع. وكثيرًا ما تسبق علامة التعجب حروف إضافية تدل على امتداد الصوت، مثل «لااا شلون نسييت!» أو «مررة حلوو!».

النقطة في أسطر العرب

على نقيض علامة التعجب تأتي النقطة دلالةً على انخفاض نبرة الصوت عند نهاية الجمل الجادة. ومنها انطلقت دلالتها الجديدة التي تعكس الصرامة أو الحزم أو حتى الغضب. وتتضح تلك الدلالة في العبارة الشهيرة «نقطة على السطر» التي يفرض بها المتكلم رأيه وعدم استعداده لخوض النقاش.

وتبدو لي العبارة «نقطة على السطر» دخيلة على اللغة العربية، فقد انتشر استخدامها مع تخلل علامات الترقيم إليها. فالعربية لم تفْصل بين جملها بعلامات ترقيم كاللغات الأوربية، بل كانت تتكئ إلى أدوات مختلفة تمامًا في نقلها دلالة النص.

فقد استخدم العرب أساليب مختلفة لتجزئة النّصوص أو لإبراز جزءٍ معيّن منها، كتمييز العناوين الفرعيّة في النص عن متنه بوضع خط فوقها. كما دلَّ الاختصار «اهـ.» المكتوب عند نهاية اقتباس باللغة العربية على انتهائه، لا بعلامات التنصيص كما الحال في اللغات الأوربية. 

أما الأداة العربية التي تشد انتباه القارئ أو السامع فهي بالأصل هاء التنبيه الداخلة على أسماء الإشارة كـ«هذا»، وعلى الضمائر كـ«ها أنتم». ناهيكم عن علامات الوقف والفواصل القرآنية الصوتية التي ميزت الأسلوب العربي الأصيل عن غيره من اللغات.

علامات الترقيم من المفهوم الأوربي إلى العربي

شجع انتشار اللغات الأجنبية في ظل الحكم الاستعماري الأوربي بعض العلماء العرب على إعادة النظر في تشكيل اللغة العربية. على رأس هؤلاء أحمد زكي باشا، أحد أعيان النهضة الأدبية في مصر. لكن قصة علامات الترقيم العربية بدأت قبل مساهمة أحمد زكي بفترة.

كانت الأديبة اللبنانية زينب فواز أولى من تحدثوا عن أهمية علامات الترقيم في أوربا، وضرورة نقلها إلى اللغة العربية. فرأت، مستلهمة من علامات الترقيم الفرنسية، أن العلامات «تدل على معان خفية لا تظهر من تركيب الحروف فقط».

واقترحت زينب فواز مجموعة من العلامات التي مهّدت الطريق لعلامات الترقيم العربية الحديثة. منها علامة «الصفرين» أي النقطتين الرأسيتين، وعلامة «الألف والصفر» التي دلّت على التفاجؤ وأصبحت تُسمّى علامة التعجّب. 

اتّبع خطاها حسن الطويريني، صاحب جريدة النيل، والذي سمّى علامات الترقيم «فن خط الإشارات» وقسَّمها إلى ثلاثة أنواع: إشارات المفاهيم والأصوات والأفعال. حاول الطويريني ابتكار إشارات عربية لتجنب استعارتها من لغة أجنبية، لكن محاولته باءت بالفشل لكثرة أعداد الإشارات وتشابهها مما جعلها عصية على التذكر.

أما أحمد زكي باشا فجاءت مقترحاته ختامًا لمرحلة تأسيس علامات الترقيم العربية إذ شكَّلتها على ما نعرفه اليوم. وأثرى أحمد زكي كتّاب زمنه بقواعد عامّة حول كيفية استخدام علامات الترقيم في نصوصهم. وترك للكاتب مرونة استخدام علامات ترقيم معيّنة بدلاً من أخرى، أو عدم استخدام بعضها، ما دام يحافظ على احترام قواعد الاستخدام العامة. 

ومن هذا الأساس شرعت علامات الترقيم العربية بالانتشار، إلى أن صارت جزءًا لا يتجزأ من الكتابة العربية الحديثة. 

التطوُّر الدلالي في لغة الإنترنت

في حين تجنّب أدباء مثل إرنست همينقوي علامة التعجب لدلالتها على الإثارة الإعلامية الرخيصة، جاءت كتب الكوميكس لتحتضنها بكل حب. فكثر حضور علامات التعجب فيها بعبارات مبالغة تعبّر عن أصوات كـ«بووووم!» و«أخخخ!!». ولا يخفى على أحد انتشارها الهائل في مجال التسويق لشد انتباه المشتري بعبارات مثل «طعم يخليك تنهااار من اللذة!» و«عجييييب!».

يكمن جمال اللغة ومرونتها في هذا التنوع، إذ يعكس التغيير الواقع في حياتنا اليومية. وسلاسة علامات الترقيم أصبحت عاملًا مهمًا في التطور الدلالي لأي لغة.

وهذا ما حصل مع دخول الإنترنت حياتنا اليومية. ففي الثمانينيات اقترح العالم سكوت فالمان استخدام الرمز التعبيري (emoticon) لأول مرة في العالم الافتراضي، كاتبًا الرمز «:-)» كإشارة جيدة للمزاح والنكت. من هنا انطلقت الرموز التعبيرية بأشكالها البدائية المتكوّنة من نقاط وأقواس. فأصبحت تنقل صوت مشاعرنا من الواقع إلى الساحة الافتراضية كالابتسامة «(:» أو الحزن «):» أو التفاجؤ «o:».

الأرض تتكلم إيموجي

في عام 1963، طلبت شركة تأمين أميركية من هارفي بال أن يصمم لهم رمزًا تعبيريًا مبتسمًا يعبر عن السعادة والتفاؤل ليوزعوه بين أفراد الشركة ويرفعوا معنوياتهم، بدأ هارفي بالتصميم وانتهى خلال عشر دقائق حصل مقابلها على 45$ من صناعة ثاني أشهر ابتسامة في التاريخ.

2 يونيو، 2017

بالتوازي اخترع المجتمع الياباني الافتراضي «آسكي نت» (ASCII-NET) رموزًا خاصة به. فبعد أربع سنوات فقط من اقتراح فالمان، ظهر أول وجه مبتسم (^_^) على آسكي نت ليصبح من أكثر الرموز شيوعًا في قاعدة بيانات الرموز اليابانية.

وعلى نقيض الرموز الغربية، يُقرأ الوجه المبتسم الياباني (^_^) عموديًا مع النص المصاحب. «كاوموجي» (kaomoji) -المقابل الياباني للرموز التعبيرية- خيرُ مثال على مواكبة اللغة التغيرات الاجتماعية من خلال تطوير علامات الترقيم. وتشير أشكال كاوموجي المتنوعة إلى مشاعر مختلفة. فبينما يدل الرمز (T_T) على البكاء، يشير الرمز (o_o) إلى الارتباك والصدمة والرمز (> д <) إلى الغضب.

ظهور الهاشتاق والمنشن

لم يكتفِ عالم الإنترنت بتطویر استخدام علامات الترقيم فقط، بل طوَّر استخدام الرموز والمفاتيح التي اعتدناها بهواتفنا الثابتة القديمة. فصار رمز الشبّاك (#) وسمًا أو «هاشتاق» يجمع آراء المغرّدين في تويتر بطريقة ذكية غير مسبوقة. 

مثله رمز (@) الذي سمّاه بعض العرب «الأُذن». كان يندر استخدامه قبل الإنترنت، لكن مع ظهور البريد الإلكتروني تحوَّل إلى عنصر أساسي، ثم انتشر في منصات التواصل الاجتماعي حيث أصبح يُعرف بـ«منشن».

وشاع في عصر الإنترنت أيضًا عدم استخدام علامات الترقيم كدلالة على العفوية أو حتى التكاسل والإهمال. نرى هذا التوجه في حساب تويتر الرسمي حيث يتعمّد استخدام الحروف الصغيرة ببداية الجمل الإنقليزية وترك نهايتها بلا نقطة.

كذلك ظهرت علامة الاستفهام بصورتها الإنترنتية الجديدة. فما عادت بالضرورة دلالةً على سؤال، بل على نبرة صوت مرتفعة تدل على عدم التأكد من أمر ما. وتساعد النقاط المتتالية في نقل هذا المعنى: «ما فهمت…؟» أو «أتوقع أنها موجودة؟». 

لم تنجُ النقطة من التطوّر الدلالي، إذ خضعت هي الأخرى لاستخدامات جديدة. وأصبحت توضع في منتصف الجملة للشدة والتأكيد: «ما. راح. يحصل.». 

التطورات التي نشهدها في استخدام علامات الترقيم جزء مما يُسمّى بـ«السجل اللغوي» (register)، أي مجموعة من الأدوات اللغوية المستخدمة لغرض معين أو في بيئة اجتماعية معينة. فطريقة مخاطبة أختك الصغيرة تختلف بالطبع عن مخاطبة مديرتك في بيئة العمل. وكذلك ستختلف طريقة كلامنا في الساحة الرقمية عن طريقتنا في الحياة الواقعية. 

مرونة القواعد في لغة الإنترنت 

يُعد تبنِّي المجالات المتنوعة لعلامات الترقيم أشبه بـ«ريمِكس» أغنية أصلية؛ الألحان والكلمات الأساسية لا تتغير، لكن لكلٍ استخدامه واختياره المتميز. فلا توجد طريقة واحدة صحيحة للكتابة، بل هناك معايير وسجلات لغوية للاستخدامات المختلفة.  Click To Tweet

وكل ما نراه ونلحظه من استخدام علامات الترقيم في الإنترنت ليست إلا سجلات لغوية متغيرة. لا شك أنها مختلفة عمّا تعودناه في السابق، لكنها متسقة ومفهومة لدى مستخدميها. 

إمكانية كسر القواعد لما يخدم متطلبات الإنترنت هي ما تجعل الساحة الافتراضية ممتعة ودائمة التجدد. فقد فتح تطور دلالة علامات الترقيم آفاقًا واسعة لنقل ما نقصد بطرق جديدة، وحرّرَنا من القوانين الصارمة التي تحكم النص المكتوب. فالإنترنت لا يزال في ريعان شبابه؛ قواعده ليست منقوشة في الحجر، وتتسع لغته للجميع. 

الثقافةالكتابةعلامات الترقيم
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية