كيف أعادت طالبان الإسلام السياسي إلى أفغانستان؟
بعد عشرين عامًا تعود طالبان إلى حكم أفغانستان في مشاهد انهيار متسارعة للدولة الأفغانية، وتطرح سؤالًا مؤرقًا حول مستقبل الإسلام السياسي.
طائرة عسكرية عملاقة تقلع بين جموع بشرية مذعورة حدَّ التشبث بالموت الحتميّ على عجلاتها، مشهدٌ مخزٍ ومفزع لن تنساه الإنسانية أبدًا. مع ذلك لا يسعنا وصفه بالمفاجئ، فانهيار العاصمة كابول أمام جحافل طالبان دونما مقاومة تذكر كان انهيارًا حتميًّا بدأت مفاعيله من 2020.
بدايةً، من هُم طالبان؟
في أعوام الحرب الباردة سيطرت اللعبة الأيديولوجية على الساحة. لم يكف الولايات المتحدة حينها الاعتماد على تصميم انقلابات عسكرية هنا وهناك، فلجأت لحشد ميليشيات المجاهدين وتدريبها وتمويلها في وجه الزحف السوفييتي في أفغانستان. حقّقت أميركا مرادها بإخراج الاتحاد السوفيتي من البلد عام 1989، تاركة خلفها فوضى حرب أهلية مستعرة بين جماعات المجاهدين المتناحرة.
في عام 1994 جمع الملا محمد عمر المقاتلين من قبائل البشتون تحت راية واحدة تحمل اسم «طالبان»، ليستولي بعد عامين على كابول. ونالت الحركة في بدايتها تأييدًا شعبيًّا إثر وعودها بتحقيق الاستقرار وإرساء حكم القانون بعد أعوام من حكم أمراء الحرب والعصابات. لكن آمنت طالبان أيضًا بأن الوضع المزدري في أفغانستان يعود أساسًا لعدم تطبيق الشريعة الإسلامية.
ما إن استولت على الحكم في 1996، أعلنت إمارة أفغانستان الإسلامية إسمًا لها، إمارة أنكرها العالم بأسره باستثناء السعودية والإمارات وباكستان. صيَّر هذا الإعلان أفغانستان موطنًا للجماعات المسلحة التي قاتلت معها ضد الاتحاد السوفيتي، وحاضنة للقادمين الجدد من أصحاب الفكر الإسلامي المتطرف. فاحتضنت أسامة بن لادن الذي فرّ إليها هاربًا من السودان في العام ذاته.
لماذا دخلت أميركا أفغانستان؟
نخطئ الظن إن اعتقدنا أنَّ الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 انطلق من مبدأ إنقاذ الشعب الأفغاني من طالبان. فطالبان حكمت أفغانستان منذ عام 1996، وطوال سنوات حكمها الخمس القائم على الحكم القبلي وتفسيرها المتشدد للشريعة الإسلامية ما كان في وارد أميركا لعب دور المنقذ.
فإذا صادفتَ تصريح الرئيس بايدن بعد الانسحاب وتصريحات وزير خارجيته ستجدهما يؤكدان على تحقيق الولايات المتحدة هدفها العسكري من غزو أفغانستان: القضاء على القاعدة المدبر الرئيس لهجمات الحادي عشر من سبتمبر. ما يعني أنَّ القضاء على طالبان ما كان يومًا الهدف، ولا كان الهدف -كما ذكر بايدن- بناء الدولة الأفغانية.
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ارتكبت طالبان خطأها القاتل برفضها تسليم أسامة بن لادن وإصرارها على استضافة القاعدة. فكان لا بد لأميركا الجريحة أن تعيد اعتبارها كقوة عظمى. فقررت إعلان الحرب على أفغانستان بالتحالف مع بريطانيا وقوات حلف الشمال الأطلسي.
وكما كان متوقعًا، سقطت طالبان عن الحكم سريعًا تحت وابل الهجوم بأعتى الأسلحة الجوية. لكن لم يعن هذا انتهاء طالبان بأي شكل من الأشكال، إذ عادت وتمركزت على الحدود الباكستانية. ومن هناك انطلقت عملياتها ضد الجيش الأميركي وحلفائه والحكومة الأفغانية، لتدخل أميركا من حيث لا تدري حرب العشرين عامًا، أطول حربٍ في تاريخها.
روَّجت الولايات المتحدة حربها الطويلة بأنها حربٌ ضد الجماعات الإرهابية الإسلامية على رأسها القاعدة. في هذه الحرب قُتل عشرات الآلاف من مجاهدي طالبان والقاعدة. لكن الحرب على جماعات أيديولوجية يقتضي اغتيال رموزها لإعلان الانتصار، مهما قتلت من أفراد.
وفي الثامن والعشرين من أبريل عام 2011 تسنى لأميركا هذا النصر. إذ أعطى أوباما الضوء الأخضر للقوات الخاصة باغتيال بن لادن في باكستان، في عملية مخابراتية يصفها المدير السابق للسي آي إيه بالصعبة والسرية. وهكذا أردت أميركا هدفها الأول الذي أعلنت لأجله الحرب قبلها بعشر سنوات.
لماذا لم تنسحب أميركا بعد اغتيال أسامة بن لادن؟
مذ كان نائبًا للرئيس دفع بايدن بضرورة الانسحاب الكلي من أفغانستان. فحاول جاهدًا إقناع أوباما بألا يقر رفع عدد القوات، إلا أنَّ أوباما وافق القيادات العسكرية ونفذ مطلبها بداعي دعم الحكومة الأفغانية والحفاظ على استقرار الدولة.
ففي أبريل من العام ذاته، جرت الانتخابات الرئاسية الأفغانية وأعلن كلا المرشحين أشرف غني وعبدالله عبدالله فوزهما. واضطرت الولايات المتحدة للتوسط في صفقة بينهما يصبح بموجبها أشرف غني رئيسًا وعبدالله رئيسًا تنفيذيًّا. لكن الوساطة لم تحل شيئًا إذ بدأت حقبة من الانقسام الحكومي أضعفت أركان الدولة.
ثم جاء التزوير في الانتخابات الرئاسية عام 2014 وتكرر في انتخابات 2020، ليؤكد الفساد والانشقاق المترسخ في الدولة. وهكذا، في سنواتها العشر اللاحقة لاغتيال بن لادن، عجزت أميركا عن بناء دولة أفغانية قوية موحدة تبرر انسحابها دون الخروج بصورة المنهزم.
إذ عجزت عن فهم التعدد القبلي والطائفي والعرقي في أفغانستان. وفشلت في الوقوف بحزم أمام الفساد المالي لرموز الحكم الذي ترك أغلب الشعب عرضة للفقر وولايات تحت سطوة طالبان. ليعلن بايدن أخيرًا في خطاب انسحاب الجيش الأميركي أنَّ انتظار حل المشكلة الأفغانية ما عاد خيارًا مقبولًا وليست مسؤولية الجيش الأميركي بناء الدولة الأفغانية.
إعلان الإنسحاب ما كان ليتحقق لولا الرئيس السابق دونالد ترامب الذي أوجد «الحل الممكن» للمشكلة الأفغانية. ففي التاسع والعشرين من فيراير 2020 عقدت الولايات المتحدة اتفاق مصالحة مع طالبان في الدوحة.
بموجب الاتفاق يبدأ الجيش الأميركي بالانسحاب من أفغانستان تنفيذًا لمطلب أساسي لطالبان. في المقابل تتعهد الحركة بمنع انطلاق أي عمل إرهابي من مناطق سيطرتها والدخول في مفاوضات سلام جدية مع الحكومة الأفغانية. وبهذا تحقق أميركا هدفها: الانسحاب بصورة سلمية خالية من فوضى انهيار الدولة.
هنا لا بد أن ننتبه لنقطة مهمة جدًا: أقصت الولايات المتحدة الحكومة الأفغانية عن المفاوضات مع طالبان التي استمرت نحو عام ونصف. ورغم أنَّ عنوان الاتفاق يشير إلى طالبان بـ«الإمارة الإسلامية التي لا تعترف بها الولايات المتحدة الأميركية كدولة» لكن الأفعال تدل بمن حقًّا تعترف أميركا فيما يخص الملف الأفغاني.
لماذا سقط الجيش الأفغاني سريعًا؟
جاء إعلان بايدن عنصرًا مسرّعًا في تنفيذ طالبان مهمة السيطرة على أفغانستان. فقد فجر الحرب النفسية التي انتصرت بها طالبان بسهولة على معنويات الشعب الأفغاني وجيشه.
وحاولت إدارة بايدن الطمأنة بقدرة الدولة الأفغانية على الصمود مع وجود جيش أفغاني قوامه ثلاثمائة ألف ومزوَّد بالعتاد والسلاح الأميركي ومدرَّب. فقد أنفقت الولايات المتحدة ما يزيد عن 84 مليار دولار في بنائه وتدربيه وتسليحه، لذا بالتأكيد سيكون قادرًا على هزيمة فصيل قوامه لا يزيد عن 75 ألف مقاتل.
تبين أنَّ الواقع على الأرض مختلف تمامًا. فالجيش يبلغ قوامه سدس العدد المذكور. ويعاني من ضعف الإمداد والغذاء في المناطق الريفية البعيدة عن العاصمة حيث بدأت طالبان حركة سيطرتها على أفغانستان، وقطعت طرق الإمداد.
ومع كل ولاية تسقط في قبضة طالبان، لا تنتصر الحركة نفسيًّا فحسب بل تتزود بالأسلحة الأميركية وتقوي من عتادها للمعركة المقبلة. كما راحت تجنَّد أيضًا أبناء المناطق، ليصل قوامها من بعد 58 ألف إلى 100 ألف مقاتل، أي أقوى من أي وقت مضى.
ومنذ السادس من أغسطس بدأت عواصم الولايات تتساقط في سلسلة استسلامية متسارعة بعد سيطرة طالبان على أول عاصمة ولاية أفغانية، مدينة زرنق، جنوبي غرب البلاد. وسلمت الوحدات الأفغانية تباعًا عتادها دون معارك مقابل التأمين على حياة أفرادها. ويفسر الخبراء ما حدث بانعدام إرادة القتال لدى الجيش لانعدام ثقته أصلًا في إرادة الدولة الأفغانية على الصمود والقتال.
وفي الثاني عشر من أغسطس بدأت الولايات المتحدة وبريطانيا عملية إجلاء الدبلوماسيين والرعايا من العاصمة كابول. حذا حذوها غيرها من السفارات الغربية، وبالطبع الأولوية كانت لمواطني تلك الدول لا الأفغان من المترجمين في الجيش الأميركي وقوات التحالف والعاملين في السفارات والهيئات الإنسانية.
وهكذا أصبح واضحًا لمن ستميل الكفة في النهاية، وأن دخول طالبان حتمي، مع ذلك لم يتصور أحد حقيقة سقوط العاصمة كابول في ساعات قليلة. فرَّ الرئيس أشرف غني تاركًا القصر الرئاسي وعاصمة دولته دون القتال برصاصة. واندفعت الجموع المذعورة من أهل كابول إلى المطار فرارًا من مصيرٍ أسود.
من هم طالبان اليوم؟
منذ إعلان الرئيس بايدن الانسحاب قبل أشهر عادت المخاوف من احتضان طالبان الإرهاب وأصحاب الفكر المتطرف. إذ سيترك الانسحاب الأميركي غير الآمن فراغًا كبيرًا. كما يفتقد التعويل الأميركي على طالبان في تنفيذ مهمة تحجيم القاعدة ضمان إيفاء الأخيرة بوعودها.
وبعد انهيار الخامس عشر من أغسطس، تضاعفت المخاوف. إذ اشتعلت حسابات الجماعات الإسلامية المتطرفة وأنصارها في وسائل التواصل الاجتماعي ببروباقاندا «انتصار» طالبان وطردها الغزاة الأميركيين. فَتقدُّم طالبان بهذا الشكل بعد عشرين عامًا من شنّ الحرب عليها من قوى العالم العظمى، يثبّت في تلك الجماعات الأمل في نصرها هي الأخرى وإحياء تنظيماتها بعد إضعافها.
لا يجمع كل الخبراء على تحقق هذا السيناريو. إذ يرى البعض أنَّ طالبان تعلمت درسها القاسي قبل عشرين عامًا، لا سيما وقد ذاقت عواقب استضافة القاعدة ومثيلها من الجماعات. ويستند أولاء الخبراء على اتفاق المصالحة الذي وقعته طالبان مع أميركا والذي نصّ على حربها ضد الإرهاب.
كما تعتمد تلك القراءة على الصورة المسالمة فيما يخص العفو العام وحقوق المرأة والتي تحاول طالبان نقلها إلى المجتمع الدولي. ففي المؤتمر الصحفي الذي عقده المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد، حرصت طالبان على طمأنة المجتمع الدولي بقوله «نطمئن الولايات المتحدة وجيران أفغانستان والمنطقة والعالم بأن لا أحد سيستخدم أراضي أفغانستان ضدهم.»
لكن قسمًا آخر من الخبراء يخشى أن هذه التصريحات قد لا تصمد. إذ يظل التهديد باندلاع نزاعات داخلية قائمًا وقد تدفع بأفغانستان من جديد إلى الحرب الأهلية، فتعود أرض معارك خصبة للمقاتلين الأجانب. فقد أعلن نائب الرئيس الأفغاني أمر الله صالح أنَّ الحرب لم تنته وأنَّ الدستور يعينه رئيسًا في البلاد في حال غياب الرئيس، وأكَّد على مقاومته حركة طالبان.
كيف نقرأ المعطيات الحالية؟
لا يمكن الاعتماد في قراءة المعطيات على الصورة الناعمة التي تحاول طالبان خلقها لنفسها في كابول. إذ بوجودها في العاصمة تدرك الحركة أنها محط أنظار العالم مع وجود الصحافة الأجنبية، الغربية بالذات، ووجود القوات الأميركية المسؤولة عن تأمين المطار.
أما الولايات خارج العاصمة فالأمر مختلف. ويورد صحافيون أفغان أخبارًا عن معاودة طالبان حكمها الأصولي المتشدد وانطلاق حملات الإعدام الانتقامية والترهيب خارج كابول.
كذلك:
ستوضح الأيام القادمة مدى صلاحية الاتفاق بين طالبان والولايات المتحدة الأميركية. إذ ثمة نقطة هامة في مجريات ما شهدناه في الخامس عشر من أغسطس: توقف طالبان عند حدود كابول لساعات والامتناع عن دخولها فورًا كاجتياح عسكري. Click To Tweet
دخولها «المسالم» شكلًا ودون التعرض للقوات الأميركية والأجانب قد يعكس تبلور أهم ما ورد في اتفاق المصالحة: سبل التعاون الأميركي مع إمارة طالبان الإسلامية في المستقبل. ولربما يشكل الاتفاق أهم معطيات المرحلة الحالية التي ستحدد المجريات القادمة.
اليوم، مع كل هذه المعطيات المتناقضة والمستجدات المتسارعة، تظل الأسئلة المحورية حول مستقبل المنطقة دونما إجابة واضحة. فهل سنشهد حكمًا طالبانيًّا أقل أصولية وتشدّدًا مع شعبه وأكثر انفتاحًا على المجتمع الدولي، أم نقف على شفير جبهة مشتعلة من الصراع مع الجماعات الإرهابية؟