المصيدة في ترجمة حسين البرغوثي

حين بدأت ترجمة «الفراغ الذي رأى التفاصيل» ظننتني أعرف حسين البرغوثي، لكن سرعان ما علقت في دوامة اللغة ومتاهة التأويل.

بيني وبين حسين البرغوثي علاقة وطيدة. أعرفه. كيف؟ لا أعرف، لكني أعرفه.

بدأت ترجمته إلى الإنقليزية في برنامج الماجستير في الترجمة الأدبية في جامعة روتشستر بين عاميْ 2018 و2019. كنت أتسكع وحيدًا في مدينة روتشستر، قريبًا من الحدود الكندية. أشْبَه بما كان يفعل حسين في ثمانينيات القرن الماضي في الجهة الأخرى من الولايات المتحدة الأميركية في سياتل، كما يخبرنا في «الضوء الأزرق». 

على مدار تلك السنة، وبجانب محمود درويش ومحمد الثبيتي، كنت أتسكع وأفكر، أفكر، أفكر، أفكر…. أفكر بحسين البرغوثي والترجمة. معرفته أصبحت هوسًا. وربما انحسر شعوري بفقداني عقلي أو بقوى الجنون داخلي. فأنا أمرُّ بما مرَّ به. غريبٌ يتسكع في مدينة غربة.

 أعود له الآن في برنامج الدكتوراه، وهذه المرة أختار «الفراغ الذي رأى التفاصيل». ألاحظ كيف يحمل كل فصل من الكتاب أسلوب كتابة مختلف. لهذا السبب أتحمس لترجمته أكثر من أي شيء آخر. فلا شيء أجمل من المغامرة في الكتابة والإبداع، لا شيء أجمل من التشكل والتغير مع الكاتب. فهنا تكمن جمالية الترجمة، هذا الجزء الذي يجعل منها تجربة غنية تستحق وقتك وفكرك وجسدك.

أختار ترجمة الصفحات الأولى من الفصل الثاني: ذاكرة عادية في زمنٍ غير عاديّ.

والآن كيف أتخيله لأتلبسه كي أكتبه؟

أعرفُ حسين البرغوثي 

تخيلتني حسين البرغوثي: أجلس في فلسطين بين اللوز والثعالب. هل أغوص في داخلي بحثًا عن هذه الكلمات أم أنتظر كل شيء يطفو على السطح لأكتبه؟

لا أعرف كيف كتب، ما هي عمليته الإبداعية؟ لا أستطيع الوصول لمخطوطاته أو مسوداته، ولا أستطيع الوصول لأحد بوسعه مشاركتي ما يعرفه عنه. 

لماذا أدَّعي أنني أعرف حسين؟ ربما لأني أعرف كلماته، شعورها، لماذا كتبها، كيف نظمها، لماذا يضعها بهذا الترتيب. لو كان هناك شيء واحد نتَّحد فيه حسين وأنا فهو أننا نستخرج النظم من قلب الفوضى والعشوائية. كل شيء متصل بشيء آخر فنرى الخيوط التي تربط كل شيء.

فحسين أعاد زرقاء اليمامة من عمق التاريخ العربي في «الضوء الأزرق» ليبحث عن معنى الزرقة في اسمها. أنا، محمد، أحاول هنا سبر أغوار شخص آخر لأعيد كتابة نصه في لغة أخرى. أفكُّ الخيوط في العربية وأعيد نسجها في الإنقليزية، وهكذا: نصٌّ قديم بلباس جديد!

أبدأ من العنوان. تأتي في بالي فكرة رسم الكلمات كما هي في العربية. أتحمس للفكرة! فبدل أن تكون بسطر واحد، يجب أن تكون مثل الشعر الحر وكما هي مرسومة لديّ في نسخة الكتاب. تصبح «الفراغ» (the emptiness) في السطر الأول، وتحتها في سطر جديد «الذي رأى التفاصيل» (which saw the details). 

لم أقرر هل يجب أن تكون (which) أم (that)، فهذا يعتمد على «مستوى الكلمة» (the register): هل اللغة رسمية أدبية عالية في (which) وبدورها تجعل الكتابة رسمية أدبية رفيعة، أم أقرب للأدبيَّة الكلامية في (that)؟ لم أقرر لأن حسين يكتب كأنه يحدثك، وفي الآن ذاته يكتب عملًا أدبيًّا رفيعًا.

تقسيم شطريِّ العنوان أو ضمّهما؟ 

يأتي العنوان الفرعي للفصل فأستخدم الفكرة ذاتها، يجب أن أقسم الأسطر ليكون كما القصيدة. يبدو لي أنها مقصودة: «ذاكرة عادية» في السطر الأول وتحتها تمامًا «في زمن غير عادي»، وأراها ستبدو أكثر شاعرية في اللغة الإنقليزية. وهكذا یصبح العنوان الرئيس للكتاب والعنوان الفرعي للفصل: 

the emptiness

which saw the details.

chapter 2: an ordinary memory

in an unusual time.          

اخترت أن تكون الأحرف صغيرة، كما يفعلون في بعض الشعر المعاصر في الإنقليزية. لماذا؟ لا أعرف. أتبع حدسي لا أكثر.

أفكر في «عادية» مقابل «غير عادي» وهل فعلًا تقابلها (ordinary) و(unusual) بالإنقليزية؟ ففي العربية هناك أيضًا تضاد لفظي في صوت كلمة عادي و«غير» عادي، أما بالإنقليزية فتختلف أصوات الكلمات لفظًا. أفكر بـ(ordinary) و(extraordinary) كخيار، لكنه غريب ولا يقابل الموجود في الأصل. 

فـ(extraordinary) تدل على غرابة الزمن وعكس عادي (ordinary). لكن توحي دلالتها أیضًا بکون الشيء خارقًا، وبذا ثمة حسٌّ إيجابي تحمله الكلمة. أما «غير عادي» في العربية فقد تأتي سلبية أو إيجابية، ولا تدل على شيء خارق. 

أحذفها من قاموسي و أفكر ببدائل أخرى، لا أجد. أستسلم أخيرًا وأترجم المعنى فقط، فهذا يكفي الآن، مع احتمالية العودة له في وقت لاحق.

تمر الأيام، وإذ أجد طبعة عربية أخرى للكتاب، بغلاف جميل جدًا. «الفراغ الذي رأى التفاصيل» كلها بسطر واحد. ويبدو أن من قسَّم العنوان على سطرين في الطبعة التي أحملها معي هنا في بلاد الغربة لم يعِ هذا الخيار. يخيب أملي قليلًا، وأعيد العنوان كله بسطر واحد وأبدل (which) بـ(that):

the emptiness that saw the details.

لوحة الطفل الباكي 

أنتقل للصفحة الأولى. يعنون حسين البرغوثي مرحلة السبعينيات في فلسطين بـ«مرحلة الطفل الباكي». أقرأ عن اللوحة، أحدق بها، أرتعب قليلًا. تقول الشائعات أن للَّوحة قوى خارقة للطبيعة حين انتشرت في كثير من البيوت. 

أستنتج الفرق في التسمية بين العربية «لوحة الطفل الباكي» وبين مقابلها الإنقليزي. أستوعب أن «الطفل» كلمة محورية في هذه التسمية. ففي الصفحة وبعد مقطعين يعود حسين لاستخدامه ليعبر عن الطفل الباكي داخل الشعب الفلسطيني أجمع، أو هكذا أفسر استخدامه. فالترجمة عملية قراءة وتأويل. لكنني لا أجد مخرجًا. 

يجب أن تكون مرجعية التسمية المشهورة في الإنقليزية (The Crying Boy) واضحة للقارئ الغربي. إن ترجمتها (The Crying Child/Baby) لا أحد سيفهم، وربما سيفهم البعض من السياق، لا أعرف. لكنني أعرف أنه اختار اسمها المعروف في العربية ولم يترجمها بطريقته.

هذه إحدى عاداته، وهي مشكلة أقابلها حين أترجم حسين البرغوثي. إذ له قاموس خاص، خصوصًا في ترجمته للعبارات من الإنقليزية للعربية. 

أيضًا هناك مسألة الجندرية. فـ«الطفل» بالعربية لا تعبر بالضرورة عن جندر معين، ربما يكون ذكرًا أو أنثى. لكن (boy) بالإنقليزية تعني ولدًا أو ذكر. ورغم أنَّ اللوحات الأكثر شهرة تتبع أسلوب اللوحة الأصلية لولد، فهناك أيضًا لوحات تتبع نفس النمط لكن ترسم فتيات.

أفكر أن هذه النقطة مسلية لتوضيح الفروقات الجندرية في اللغات، لكنها ليست مهمة جدًا هنا. أكتب (The crying boy phase) لـ«مرحلة الطفل الباكي» وأستمر بالترجمة.

قوة تتململ تحت النص 

أستوعب أن الشعور اختلف بعد نهاية القطعة الأولى وبداية سرد ذاكرة حقبة جديدة مع عام 1981. أتتبع بحدسي شعور الكلمات، فصوت الراوي ونبرته تحتاجان لأُذُنٍ تسمع وقلبٍ يصغي. أحس بوجع «تكتب المخابرات هذه الروح المنكسرة لشعب» و«الاحتلال يترك إحساسًا بالعجز والتوتُّر» و«كنا بدأنا نفقد القدرة على البكاء».

فمهما حاولت لا أستطيع أن أنفي هذه اللوعة عن نفسي وعن ذاكرة الطفولة – سلاح المحتل الغادر يقتل الطفل محمد الدرة في 2001. يسقط بحضن والده فيغمر الخمول جسد الأب من شدة الوجع فينحني رأسه وكأن الحياة غادرته وتركته جثة حية. كل هذا أشاهده أنا الطفل ذو التسع سنوات مع عائلتي بأمان ولا أفهم من حيثيات المشهد إلا هولته ووجعه الذي أحسه في ردة فعل من حولي.

لا أستطيع التجرد من هذا الوجع المتوغل.

قلت: الترجمة مجموع الشعور العميق بالكلمات والتخلي عن السيطرة. هي عملُ اللاوعي على مستوى الحدس والتدقيق والتمحيص العملي/المنطقي للُّغة كمنظومة من علامات ودلالات.

تبدأ القطعة الثانية بـ«الاحتلال يترك إحساسًا بالعجز والتوتُّر» وأترجمها: 

The occupation was leaving behind a feeling of helplessness and angst.

هذه الجزئية من النص يجب أن تعبر عن الإحساس بالعجز والتوتر. وكمترجم يجب أن أعي هذا الشيء وأحاول بشتى الطرق توضيحه في اللغة الجديدة. فهذا الشعور، كما يقول حسين لاحقًا: «قوة تتململ تحت السطح، خارج كل الأطر، وخارج المنظمة». 

يسرد حسين هنا تجربته في عيش ما قبل الانتفاضة وعن مرحلة التوتر والغموض والعجز والهزة القادمة. رتم الجُمَل يوحي بهذا. فهي جمل قصيرة وواضحة ومشحونة بالعاطفة مثل: «بدأنا نفقد القدرة على البكاء» و«وفقدنا بالتدريج التعاطف» وكذلك «الضحك سيُغتال».

تدرِّجات النبرة والعاطفة

ألاحظ طيفًا من النبرات في هذه القطعة. فمثلًا، هناك روح دينية للنص في مقطع «لحظة صُلِب المسيح الذي فينا: مخلصنا، بطلنا، المُكَفِّر عن عجزنا»، فأقضي وقتًا طويلًا في البحث عن مقابل للمُكَفِّر. 

أجد أحد المعاني «كَفَّرَ الشيءَ: غَطّاه وستره» وهذه معلومة لطيفة. فحينما نقول في اللهجة السعودية العامية «كَفَر الجوال»، فهي مأخوذة من الإنقليزية (cover)، لكنها بالصدفة مقاربة جدًا للفصحى. هل ذهبت الكلمة للغات أخرى ثم عادت؟ هل هي من مصدر واحد؟ لا أعرف.

لماذا يتعسّر على المعجم العربي قبول التطورات الدلالية؟

عندما تفتح معجمًا عربيًّا قديمًا، وتبحث عن تعريف الهاتف فستجد هذا التعريف: «إذا كنت تسمع الصوت ولا تُبْصِر أحدًا»، وإذا تلمَّست معنى السيارة في المعجم

16 أكتوبر، 2020

على أي حال، «كفَّر الله ذنبك» تعني «غفره» وبالوقت ذاته «ستره». لكن لا أجد مقابلًا يعبر عن هذه الدلالات. أجد كلمات دينية كثيرة، لكن أذهب لما هو دارجٌ عن المسيح في الإنقليزية المعاصرة (forgiver). وباقي الجملة تحمل النَفَس الديني ذاته: 

the moment our inner Christ was crucified: our savior, our hero, the forgiver of our impotence was crucified.

كذلك أختار (impotence) عوضًا عن (helplessness) التي استخدمتها سابقًا للكلمة ذاتها «عجز». اخترتها هنا حتى أرفع مستوى الكلمة فتكون أقرب لمستوى اللغة في الكتب الدينية.

في جملة «الاتجاه إلى مقتل ناجي العلي» أحس بالنبرة العسكرية. أتخيله كأمر عسكري، أحد تعليمات الجيش المباشرة والمختصرة. أقلبها. أفكر بها. أحاول بالكلمات أن تنحني لتعكس هذه النبرة:

moving towards killing Naji al-Ali

أمرٌ عسكري نزعت منه العاطفة والرحمة. أمرٌ عسكري مختصر ومباشر. أمرٌ عسكري يقتل قدرة الفلسطيني على الضحك.

تنفتح لك أبواب لغتك الأم حين تستخدم الترجمة كحرفة. حين تصبح الترجمة جهدًا مركزًا على تفكيك اللغة والتفكير بأبعادها الاجتماعية والثقافية والتاريخية والسياسية وغيرها، وتركيبها في اللغة الأخرى وكأنها أحجية.  Click To Tweet

على سبيل المثال، ظننت لفترة طويلة أن لهجتي السعودية الشمالية/القبلية لا تنتمي للغة العربية الفصحى، الآن ثبت لي عكس ذلك. ومعظم الفضل يعود لعملي في الترجمة. 

بجانب المثال المذكور مسبقًا، فهنا يقول حسين: «أمام الشباك حرش صنوبر ومستشفى رام الله». أبحث عن معنى «حرش»، فأجد أحد المعاني: «حَرشَ بَيْنَ القَوْمِ: أَفْسَدَ بَيْنَ القَوْمِ» وهذا بالضبط المعنى الذي نستخدمه بلهجتنا العامية.

مصيدة الترجمة 

في أحيان أخرى يصبح وعيك باللغة أعمق. تعرف من خبرة أن الكلمات لا تتطابق بين لغة وأخرى وكأن اللغتين توأمين متقابلين. وتعرف أن النظر لها كتطابق وتكافؤ ما هي إلا مصيدة لترجمة سيئة. كثير من الترجمات للعربية، أو حتى الترجمات للإنقليزية، رديئة. ويعود السبب لكونها تبحث عن هذا التطابق المباشر ولا تبحث عن الأبعاد الأخرى للكلمة.

مثلًا: يستخدم حسين «جاسوس» في جزئية من النص يسرد فيها الأحداث العادية في المجتمع الفلسطيني بأسلوب «هذيان الوعي» (هكذا أسمي أسلوبه المقارب لأسلوب سيل/تيار الوعي الموجود عند حداثيي الغرب). وأجد خيارات تقابلها بالإنقليزية:

(intelligence agent): أتخلى عنها كخيار، فهي كلمتان مركبتان. لكن الأهم أنها لا تناسب النبرة، فهي المصطلح الرسمي لهذا العمل .

(spy): رغم أنها الخيار المعتاد لدى المترجمين لكلمة جاسوس أحذفها كخيار. فهي توحي بأن الشخص قادم من خارج المجتمع المحلي ويعمل بشكل رسمي كجاسوس لحكومة الاحتلال وأنها عمله الوحيد. لكن ما يقصده حسين مختلف. هو يقصد المخبر؛ فلسطيني مخبر/جاسوس. ليست وظيفته الرئيسة ويعمل للكيان المحتل لسبب أو آخر ولم يتلقَّ تدريبًا في التجسس. 

لا توافق هنا إلا توافقٌ سطحي بين الكلمتين في اللغتين. لكن ما توحي به كل كلمة، أبعادُها والمعنى الاجتماعي/الثقافي والتفاصيلُ فيها، فمختلف.

أخيرًا الشقيقتان (informer) و(informant): الكلمتان مرادفتان لبعضهما، ومقاربتان لنبرة النص، لكن هناك فرقٌ طفيف.

أختار كلمة (informer) لأنها تعني شخصًا من داخل هذه المنظومة يخبر العدو معلومات سرية وحساسة بمقابل معيَّن إما مادي أو ابتزاز أو غيرها. وبالغالب يشبه هذا الشخص البقية فلا يُلحَظ، كذلك لم يُدرَّب على التجسس. أمَّا (informant) فتحمل معنًى مشابهًا لكنها بالغالب تطلق على أي شخص شهد حادثًا وأخبر السلطات به.

الترجمة أدقُّ أنواع الكتابة 

تعلمت أن الترجمة عملية من الخيارات الدقيقة التي تؤثر على النص وقراءته، حتى على مستوى أبسط الكلمات وأوضحها. فاحتمال الخطأ في الترجمة يفوق مثيله في الكتابة الإبداعية الحرة، لأن الترجمة يُدَقق عليها أكثر والمفترض أن تكون خياراتها واعية وليس انسيابًا لوعي الكاتب و موهبته ومهاراته الإبداعية.

لذا حينما تخطئ في الترجمة، فأنت تخطئ بعد أن اتبعت منطقًا معينًا. لكن حدة الخطأ تكون مؤلمة أكثر حين لا تبذل أي مجهود في اختيار الكلمات، وتدع هذا التطابق المفترض (والخاطئ) يتولى الترجمة عنك. 

مثالٌ آخر، تقابلني كلمة «شخص وطني» وأمامي خياران لها: (nationalist) أو (patriot). هنا أيضًا الكلمتان مترادفتان ويكمن الفرق بينهما في الدلالة الضمنية في الاستعمال الدارج لكلٍّ منهما: (nationalist) «شخص قومي» و(patriot) «شخص وطني». 

الفرق هنا أن الوطني (patriot) تستخدم بإيجابية، فهي معناها شخص يحب وطنه ويدافع عنه. وتستخدم القومي (nationalist) لشخص يحب وطنه ويدافع عنه لكن بتعصب وإقصائية للآخر استنادًا على الحدود القومية لدولته. أختار (patriot) لأنها مستخدمة في النص لوصف الفلسطيني بإيجابية.

تستنزف «منفّذ عمليات عسكرية» من وقتي الكثير. أبحث وأبحث عما يقابلها بلا جدوى. السياق مهم. تأتي في القطعة التي يبدأها حسين بـ«فقدنا الثقة بأي شخص أو شيء» حيث «كل وجه يخفي وجوهًا». وفي وسط هذه المعمعة يسرد حسين صفات المعتقلين فجأة من قوات الاحتلال: «منفّذ عمليات عسكرية، بطل…». 

هذا ما يحيرني في ترجمتها لأنها محايدة، خاصة أن كلمة «بطل» تبعتها كوصف آخر مختلف. فلا أعرف هل استعملت بإيجابية (أو على الأقل محايد يميل للإيجابية) فتكون بمعنى «soldier/جندي» أم تستخدم بسلبية فتكون «terrorist/إرهابي»؟ لا أعرف. 

أضعها هكذا في ترجمتي: «soldier/terrorist»، ويبدو لي أن هذه الترجمة تضيف طبقة أخرى لهذا الإيحاء. فهي تعبر عن ثنائية الجانبين: الجانب الفلسطيني وجانب الكيان المحتل. فيُرى منفذ العمليات العسكرية (من أي طرف وأيًا كان نوعها) كجندي والآخر يراه كإرهابي، والعكس صحيح. يعجبني هذا الخيار.

لا أعرفُ حسين البرغوثي 

يقول حسين إن في عام 1981 «كان يتم تأسيس “روابط القرى”…» وأتساءل يا ترى، ما هي روابط القرى؟ ولماذا كان «الحكم للزعران والمخدرات والجواسيس»؟ ظننته يقصد ربط القرى بعضها ببعض، لكن الواقع يخالف ذلك، فالكيان المحتل لا يمكن أن يكون بهذا اللطف. 

أبحث فأجد معلومات قليلة متفرقة، وخصوصًا بالإنقليزية، عن الموضوع. أجد معناها المقابل: (Village Leagues) وأضيف (Palestinian) لها لجعلها أكثر دقة ووضوحًا. أقرأ عن الموضوع الذي جاء عابرًا في النص، فأجده نقطة مهمة في العلاقات السياسية القمعية بين فلسطين والكيان المحتل. 

يغمرني الحزن والألم لأني أدعي معرفة حسين، معرفة فلسطين، معرفة القضية الفلسطينية. لكن الحقيقة أننا نغفل الكثير من التفاصيل والأحداث الصغيرة التي لم يجربها إلا أهلها.

يهجرني حسين أحيانًا. يتركني وحيدًا أصارع كلماته. ربما ليس هجرًا، لكن في هذا الصراع، أو التحدي، تفترق طرقنا، فيبدو بيني وبينه غربة ومنفى. 

يعمل حسين أحيانًا على موجة معينة من الابداع لا أعرفها ولا أحسها. أذهب لأبحث عنه، فأجدني أحاول استنساخه، أجدني أكتبه بلغة جديدة. أجدني أسدد وأقارب، وأحاول إيجاد طريقة إبداعية لأدخله في اللغة الجديدة التي كانت مألوفة له يومًا، فنلتقي مجددًا. فبيني وبين حسين غربة ومنفى. حسين رفيق الغربة والمنفى.

أقدم ترجمة الصفحات الأولى هذه لورشة الترجمة في جامعتي. أكتب عن كتابة حسين البرغوثي وعن «الضوء الأزرق»، وكيف أنه «متاهة على شكل كتاب» وأسأل نفسي: من وصفها بهذا؟

أنا؟ شخص آخر؟ لا أعرف. كعاداتها ذاكرتي لا تساعدني، لكنها الترجمة أيضًا. عمليةٌ إبداعية أحد أعمدتها أن تنسى نفسك. تحاول لبرهة تلبُّسَ شخصٍ آخر وكتابته في لغة جديدة، فتعود لنفسك للحظة لأن هذه اللغة الجديدة أيضًا لغتك، أنت من كتبها. 

الترجمة دوامة؛ وغريب كم تبدو الترجمة كمصيدة، أحيانًا، وكم تبدو المصيدة متاهة، أحيانًا.

الترجمة الأدبيةالثقافةاللغات
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية