كيف نتحدث عن الموت بصوت عال؟
كان العام 2003 حين رأيت الموت ممثلًا في جسدين هامدين. مذ ذاك ما فتأت أحاول فكَّ الغموض حول صورة الموت الخفي والحاضر دومًا.
كان العام 2003، الثاني والعشرين من يوليو تحديدًا. نحن في مستشفى راشد في دبي حيث أجرى أخي الأصغر عملية جراحية طارئة الليلة السابقة. نتحلق حوله ويكرر التلفاز أمامنا المشهد ذاته. كان المشهد خلفيةً لحدثنا الخاص بينما يومها كان حدث العالم الرئيس.
جسدان شاحبان ومسجيان، يبدوان لتوأمين شابين في العقد الثالث أو الرابع من عمرهما. هكذا تضللك اللمحة الأولى حتى تتأمل جيدًا، فتدرك أن أحدهما أطول من الآخر وأنحف، وأن الجسدين جثتا عدي وقصي صدام حسين بعد مقتلهما.
حقيقة الجسد الهامد
كان من الصعب يومها تجاهل الصورة التي عاودت القنوات الإخبارية بثها بشكل مركز كل نصف ساعة تقريبًا. ومع محدودية الخيارات في تلفاز المستشفى وحقيقة تحوّل جميع القنوات المتلفزة يومها إلى إخبارية، لا مفر كان من الصورة الفجة للموت تقتحمك مرارًا وتكرارًا.
وأذكر صاعق إدراكي أنها المرة الأولى التي أشاهد فيها جسدًا ميتًا. جسدًا حقيقيًا هامدًا بحياة واقعية وكاملة وشائكة ومعقدة لكن من خلف الشاشة. يومها كنت في الخامسة عشرة من عمري.
عندما أفكر اليوم بالاجتياح الأميركي للعراق، أفكر بالعبثية المطلقة التي كنا نتابع فيها الأمر من مواضعنا البعيدة. لكأننا أمام برامج من تلفزيون الواقع حيث كل شيء يحتمل أن يكون حقيقيًّا جدًا لكن يبقى لا واقعيًّا في نقطة ما مضللة من لا وعينا، لأننا لا ندرك الحاصل بالحواس الأخرى. لعل هذا تفسير شعوري بالانفصال عن الواقع تجاه تلك الأجساد الهامدة.
فقد بقي الجسد الميت بالنسبة لي هو ذلك الشحوب الأنيق بعد ترميم الجثتين لتكونا شبيهتين بما كان عليه الحال قبل موتهما، رغبة بالتأكيد على الانتصار في جولة حربية. ذلك التأكيد الذي أربكني وأنا أطالع تفاصيل المعركة الدامية وأقارنها بالأجساد المسجاة في هدوء فاتر.
إذ بدا وكأنهما سيستيقظان لينفضا عنهما ذلك الشحوب ويعودان لمواصلة حياتهما كجزء من تمثيلية ما. كان مشهدًا مجردًا وواضحًا بالدرجة ذاتها التي ظهر فيها الموت وكأنه غير حقيقي.
كيف لك أن تصف الموت؟
عندما أعود لأفكر بذلك المشهد من تلك الحرب ترتبك الذاكرة لتأتي بمشاهد أخرى. منها بوضوح لوحة رامبرانت الشهيرة «درس التشريح مع الدكتور نيكولاس تيوليب» حيث الجسد الشاحب في المنتصف تتحلق حوله جموع الدارسين. جسدٌ تُشق فيه الذراع كاشفة عما بداخلها في شيء من الأناقة التي قدمها رامبرانت. ودون أن تدرك أنت، القابع خارج اللوحة، ما الذي يراه أولئك الأطباء في الداخل.
هل كانوا يدركون أنهم بشكل ما يشهدون كيف يستولي الموت على الأعضاء، أنهم كانوا على مواجهة مباشرة معه. ذلك الغامض اللامرئي والحقيقي جدًا في الوقت ذاته. ثم لماذا اختار رامبرانت استهلال درس التشريح من «اليد»، أكانت دلالة مبطنة لمحاولة الإمساك بالموت من هناك، باليد؟
في وقت لاحق قرأت الشهادة التي دونتها الحائزة على نوبل سيفتلانا أليكسيفتش لإحدى المجندات السوفييتيات في الحرب العالمية الثانية في كتابها «ليس للحرب وجه أنثوي». وفيه تصف المجندة أثر الموت على الميت.
«يموت الإنسان، لكنه مع ذلك لا يصدق أنه يموت. وأنتِ ترين، كيف يأتي اللون الأصفر الغامق من تحت الشعر، يتحرك كظل في البداية على الوجه، ومن ثم تحت الثياب على الجسد. الميت الآن يرقد وعلى وجهه دهشة غريبة، وكأنه يرقد ويفكر، هل أنا قد متُ الآن، أمعقولٌ أنني قد مت؟»
أتذكر توقفي مليًا أمام وصف الدهشة على الميت نفسه، لكأنه لا يصدق أنه يموت فعلًا. دهشة أن كل ما هيأه عنه قد لا يشبه مواجهته لتلك الحقيقة، وأنَّ لا وصفٌ فعلي يختزل ذلك المتواري.
إدراك الدنو من نهاية الطريق
هناك صفحة من مذكرات سيمون دي بوفوار خصصتها لاحتضار والدتها وعنونتها بـ«موت عذب جدًا». أقرأها وتبدو كجزء مربك من ذاكرة شخصية لي مع اختلاف الأماكن. تلخص تلك الصفحة الطريق من منزل سيمون في باريس إلى المشفى في نفس المدينة بعد اكتشاف إصابة والدتها بمراحل متأخرة من سرطان المعدة.
«عندما كنت أجتاز باريس في سيارة أجرة، لم أعد أرى فيها سوى مشهد يتنقل فيه الناس. في الليل كانت أدنى ضوضاء تبدو لي هائلة: حفيف الصحيفة التي تتصفحها الآنسة كورنو، وخرخرة محرك كهربائي. وخلال النهار كنت أمشي على رؤوس أصابعي، الغادون والرائحون على الدرج وفوق رؤوسنا يهشمون طبلة أذني.»
تشعر دي بوفوار بأنها جزء من مسرحية. بأن شوارع باريس الحيوية بعابريها ليست إلا مشهدًا مركبًا ومرتبكًا ومضخمًا ملايين الأضعاف حيث تنتبه لكل جزء فيه. كأنك تراه من خلال عدسة الكاميرا المكبرة وتسمع أصواته من خلال ميكروفون. أو أنه، في موضع آخر، جزء من حلم كل شيء فيه يفوق حجمًا الشيء الموازي له في حياتها الحقيقية. وليس لها أن تواجهه أو تدركه كونه ليس موجودًا فعليًا.
أبي نَصٌّ لا يُكتَب
تتحدث دي بوفوار هنا عن المرض وعن الاحتمالية الواضحة بدنو نهاية طريقها مع والدتها. تكتب عن كل شيء وتحسن وصف كل شيء إلا اختزال شكل ممكن لتلك اللحظة القادمة!
الموت موازيًا لتفكك الجسد
أصيبت أمي بالسرطان أواخر 2018. وبدون الخوض في التفاصيل ما بين الاكتشاف حتى بداية أول خطوات رحلة العلاج الممتدة، ثمة لحظتان أتذكرهما بوضوح. الأولى الضبابية وعدم الواقعية ذاتها التي تحدثت عنها دي بوفوار في مذكراتها.
أتذكر شعوري بي يومها، وأنا أطرح سؤال التفكك والمرض والموت، كأنني منفصلة عن حياتي. كنت أقابلني وأراني وأشاهدني وأنا أتلقى الخبر من شقيقتي بربكة في مكتبي في العمل، قبل أن أهرع إلى دورة المياه محاولة استيعاب الأمر وحدي.
لم يكن ثمة حزنٌ مباغتٌ أو أسًى أو بكاء. بل تلك الضبابية التي استمرت أيامًا وأنا أقود في شوارع مدينة دبي الضَّاجة وصولًا إلى الشارقة حيث بيت العائلة. كأنني خارج الحدث نفسه وخارج المكان.
كيف لك أن تتفاعل مع ما لا تدرك معناه، بالمعنى الشعوري والوجودي، مهما قرأت وفهمت وتعاملت بالشكل المنطقي والبديهي للأشياء؟ وأخيرًا كيف لك أن تكتب أو تصف؟ ولا يأتي سؤالي هنا كسؤال درامي بقدر ما هو محاولة لطرح سؤال واقعي. كيف تصف القادم المحتمل مع كل تجربة مرض وأنت لا تدركه كحقيقة ؟ هل بإمكاننا أن نضع تعريفًا مناسبًا للامجرد واللامرئي واللامفهوم؟
الهشاشة أمام الموت
اللحظة الثانية ذاكرة أول نوبة هلع أتعرض لها في حياتي وأنا في الثلاثين، في دورة مياه المشفى حيث أُجريت عملية أمي الأولى. كنت أجلس على الأرض، أفتح عينيَّ على اتساعهما مع شعور غامر بالاختناق في محاولة عبثية لمواجهة ذلك المجهول المحتمل. محاولة أن أراه فيما أستشعر تحركاته الشبحية حولي، أن أقبض عليه لأصفه فأقيده وأتعامل مع إمكانيته.
تمتد اللحظة وأنا جالسة أحاول التشاغل بقراءة مقتطعات من مذكرات فيرناندو بيسوا لتزجية الساعات الطويلة للعملية الجراحية. أذكرني وأنا أحمل قلمًا لأدون شكل الموت في مخيلتي لاستحضاره أرضًا، فأجدني أنشغل بتدوين مشهد أراه من العلو خلف زجاج المشفى الضخم. طفلان آسيويان يلعبان في باحة المسجد المقابل للمشفى ويدوران في حبور عابث.
رحت أكتب عن رغبتي بحمايتهما من محاولات الإدراك هذه، إن كان لي قدرة تجميدهما في لحظتهما الهانئة تلك. ثم لا شيء، لا شيء سوى الفراغ.
أجلس أمام طبيبة الأشعة التي تتغير عند كل فحص دوري وقائي حتَّمته إصابة أمي ولعبة الجينات. فأنقل لها بتجرد حادثة المرض التي اعتقدت أنها ستقودني لوصف متجرد آخر لفكرة الموت نفسها. لكنني أبقى كمن هو خارج السياق الذاتي.
أنفصل عن نفسي وعن هذا الجسد الذي يستعد للخضوع للفحص. فيبدو الأمر كما لو أن الهشاشة الممكنة، بكل سياقاتها التي ستفضي لذلك الموت الغامض، مجرد صفحة من مخيلة أحدهم.
تعال نتحدث عن الجثث
ماذا لو استعنت بوصف آخرين؟ أفكر بالأمر بجدية وأنا أستمع لحديث عابر لأحد الأصدقاء عن تجربته في الذهاب لمعاينة موقع حادثة انتحار بحكم عمله وقتها. فقد شاهد الموت على هيئة جثة بطريقته الخاصة. وبقيت أفكر بتفاصيل ذلك الحديث العابر لأيام طويلة وأنا أواجه من جديد المساحات البيضاء أمامي. لأجدني بعدها أمامه مرة أخرى لا لنتحدث في شيء آخر، بل تلك الجثة، تلك التي اختزلت في كتلتها الموت.
يساعد في الوصف، رغم كونه مجردًا، واقع أن الصديق المشار إليه هو أيضًا كاتبٌ في مواضيع متنوعة تقترب من الإنساني. ولعله، بدون أن ينتبه، امتلك القدرة على اختزال الموت الذي رآه أمامه في كلمات محددة إلا أنها لم تخلُ من حضور المخيلة. فقد شبه الموت بلحظة انفجار.
كان الانفجار الذي شاهده على وجه المنتحر في عيونه الجاحظة، والدهشة. الدهشة نفسها التي تحدثت عنها شاهدة «سيفتلانا أليكسيفيتش»، رغم أن هذا الجسد كان يدرك صاحبه جيدًا إلى أين يتجه به. مما يعيد طرح الربكة. كلاهما يتشابهان في عدم التصديق: المأخوذ على حين بغتة والمترصد للموت. يعجزان عن تصديق دخولهما إلى ذلك اللاموصوف واللامدرك .
في خضم تجربة الصديق كان ثمة جزء لا مرئي احتل مساحة الوصف الأكبر. جزء لا يمكن احتجازه في حيز مجرد. فقد حدثني عن الرائحة، الرائحة الغاشية القوية التي لا تشبه أي رائحة عرفناها نحن الأحياء. تستطيع أن تبقى عالقة بكل شيء حدًّا يدفعهم للتخلص بعدها من كل ما كانوا يرتدونه وقتها، كل شيء حرفيًّا!
لكن كيف لنا وصفها لو انتوينا الدقة، وهي غير المكتشفة في سجل الروائح. هل يكفي أن نصفها «عطونة»؟ «نتانة»؟ شيء قريب منها؟ أم سنبقى نطوف في مجال التقريب لا الدقة.
بعدها بأيام وجدتني أكتب «انفجار». وأترك الصفحات البيضاء معلقة علَّني في لحظة عودة لاحقة أجد الوصف وقد استبد بالبياض فدمره.. ومنحني القدرة على المواصلة.
فالتر بنيامين يوشوشني بغته
أقرأ من وقت لآخر «شارع ذو اتجاه واحد» لفالتر بنيامين. ومؤخرًا تعثرت بتلخيصه تجربة موت قريبٍ له.
«حين يموت كائنٌ شديد القرب منا، فثمة في تحولات الشهور التالية، شيء ما- متعة ما نود لو اقتسمناها معه- فندرك بشكل ما أنه ما كان ليحدث إلا في غيابه، وينتهي بنا الأمر إلى أن نحييه بلغة لم يعد يفهمها.» Click To Tweet
إذن ثمة لغة عصية بين العالمين يفرضها غموض الموت نفسه، رغم وضوحه في الحضور.
أحتفظ بوشوشة بنيامين التي تشير إلى الموت بشيء من الامتنان لأنه يخلق حيزًا للاستمرارية، ثم أعود لأتأمل مرة أخرى في فكرة الموت، العامة والخاصة. وأتأمل الكيان المبهم الذي يجمع كل المتناقضات في محاولة لخلق سردية خاصة بي أتماهى معها لأتمكن من المواصلة. تواجهني في خضم ذلك صفحات بيضاء كثيرة قد تمثل فصلًا عن الموت في عملي السردي القادم.
ما فتئت أحاول ملء الصفحات بشكل معين لذلك الكيان المربك والملتبس بالتأويل دائمًا. يكاد يخبرك مرة بعد أخرى أنه ما من وصفة جاهزة أو دقيقة لتتحدث عنه بصوت عال، لتحبسه في قالب الكتابة حيث يتمدد دائمًا خارج حيزها.
نفتح فقط العينين على اتساعهما حتى نكسر هلع ذلك العصيِّ الغادر، لعلنا نظفر بالرؤية رغم العمى والعثرات المتواصلة.