لن يتحصَّن العالم دون عدالة في توزيع اللقاح

تشهد الدول الغنية المنتجة للقاح ارتفاع نسب التحصين لتتجاوز نصف السكان، ويسابق بقية العالم تفشي متحورات كورونا منتظرًا دوره في استلام اللقاح.

خلال أقل من عام على تطوير لقاح مضاد لفيروس كورونا، حققت قلة من الدول تقدمًا كبيرًا في تطعيم غالبية مواطنيها. ففي منتصف شهر يونيو من هذا العام، حصل قرابة 55% من سكان الولايات المتحدة الأميركية فوق عمر الثامنة عشر على جرعتي اللقاح. وفي بريطانيا وصلت هذه النسبة إلى 64%. وقادت معدلات التطعيم المرتفعة لانخفاض ملحوظ في معدل الإصابات والوفيات، وعجلت وتيرة التعافي الاقتصادي.

لكن أغلبية دول العالم وخصوصًا الفقيرة منها لا تزال بعيدة عن آمال التعافي الصحي والاقتصادي. ففي أغلبية الدول منخفضة الدخل لا تتجاوز نسبة الحاصلين على جرعة واحدة من اللقاح 5% من عدد السكان. وفي قارة إفريقيا، لا يتجاوز المعدل ثلاثة أشخاص من كل مائة.

وبينما تتوسع الدول الغنية في إعطاء اللقاح لمختلف الفئات العمرية، تتزايد أعداد الوفيات بين الأطباء والهيئة الصحية في عدة دول إفريقية لم تحصل حتى الآن على لقاحات كافية لتحصين الفئات الأكثر عرضة للخطر. 

هذا التفاوت في توزيع اللقاحات حول العالم ليس مجرد نتيجة حتمية للتقدم التقني والوفرة المالية التي تتمتع بها الدول المتقدمة. بل جاء نتيجة قرارات حكوماتها المبكرة التي ساهمت بيد في الإسراع بتطوير اللقاح، وباليد الأخرى غيَّبت عمدًا المساواة في توزيعه.

تفاوت صفقات اللقاح 

لو نظرنا إلى كميات اللقاح في الصفقات التي أبرمتها الشركات المنتجة مع مختلف الدول سيظهر جليًا التفاوت في التوزيع. فوفقًا لبيانات معهد الصحة العالمية بجامعة دوك الأميركية، أبرمت الولايات المتحدة في منتصف عام 2020 عدة صفقات ضمنت لها الحصول على 900 مليون جرعة تكفي لتحصين جميع سكانها مرتين. أما كندا فقد ضمنت الحصول على لقاحات تكفي لتطعيم سكانها خمس مرات. ولدى الاتحاد الأوربي ما يكفي لتحصين ثلاثة أضعاف سكانه. 

في المقابل، بالكاد تغطي صفقات اللقاح التي أبرمتها دول الاتحاد الإفريقي مجتمعة 20% من عدد السكان. ولا يختلف الحال كثيرًا في أغلب الدول العربية، حيث تغطي صفقات اللقاح المبرمة حتى الآن 9% من سكان الأردن و8% في العراق و6% في الجزائر.

تعود أهم أسباب هذا التفاوت للقرارات التي اتخذتها عدة دول غنية بداية الجائحة. قرارات تجاهلت تحذيرات خبراء الصحة والجهود الدولية الساعية لتوزيع عادل للقاح. واتبعت حكومات تلك الدول استراتيجية مشابهة لما قامت به الولايات المتحدة الأميركية. 

استراتيجية «وورب سبيد» الاحتكارية

في الخامس عشر من مايو 2020 أطلقت الحكومة الأميركية عملية «وورب سبيد» (Warp Speed). وهدفت العملية إلى تطوير لقاح فعال وآمن مع توفير 300 مليون جرعة بحلول يناير 2021. ضمت «وارب سبيد» عدة هيئات حكومية، منها وزارة الدفاع، عملت مع الشركات المطورة للقاح لضمان سرعة تطويره وتوزيعه. وكانت أهم أدوات هذه العملية تقديم الدعم المالي واللوجستي لهذه الشركات. 

وقع الاختيار على ست شركات كانت بدأت العمل على تطوير لقاح مضاد لفيروس كورونا. حصلت هذه الشركات، باستثناء فايزر، على دعم مالي من الحكومة الأميركية. فحصلت مودرنا على 2.5 مليار دولار، واسترازينيكا على 1.2 مليار دولار. كما حصلت كل من جونسون آند جونسون ونوفاكس الأميركية وسانوفي الفرنسية على ما يقارب 1.5 مليار دولار لكل منها. 

صبَّ الدعم جزئيًا نحو تسريع جهود تطوير اللقاح وتصنيعه كالتوسع في التجارب السريرية، وزيادة القدرة الإنتاجية وتوفير المواد الخام. أمَّا الجزء الأكبر كان في الواقع ثمن شراء مئات الملايين من الجرعات في حال ثبوت فعالية أي من اللقاحات.

وهكذا ضمنت الولايات المتحدة الحصول على 300 مليون جرعة من لقاح مودرنا و100 مليون جرعة من لقاح فايزر. والأهم من ذلك كله، ضمنت الأولوية في الحصول على اللقاح قبل أي دولة أخرى. وبشكل مماثل، ضمنت بريطانيا الحصول على أول مئة مليون جرعة من لقاح أسترازينيكا مقابل استثمارها 79 مليون دولار في المراحل المبكرة من تطوير اللقاح. 

وبالطبع، يتضمن هكذا استثمار الكثير من المخاطرة. فقد كان متوقعًا فشل بعض الشركات في إنتاج لقاح آمن وفعال، وهذا ما حدث بالفعل. فحتى اليوم لم تتمكن شركتا نوفاكس وسانوفي من إنتاج لقاح فعال. كما لم يحصل لقاح أسترازينيكا حتى الآن على موافقة هيئة الغذاء والدواء الأميركية. 

خطر «قوميّة اللقاح»

لكن الخطر الأكبر تمثل في منع بقية دول العالم من فرصة الحصول على اللقاح فور إنتاجه. إذ ارتبطت كل الشركات المطورة للقاح بعقود ملزمة مع الولايات المتحدة وبضعة دول أخرى. وعليه فحتى بقية الدول، منها المقتدرة ماليًا، ستعجز عن الحصول على جرعات كافية من اللقاحات إلا بعد أشهر وربما سنوات. إضافة لذلك، فرضت الولايات المتحدة قيودًا غير مباشرة لمنع تصدير اللقاحات، وضغطت بريطانيا على شركة أسترازينيكا لإيقاف تصدير اللقاح

لم يكن هذا السيناريو الوحيد الممكن. فمنذ بداية الجائحة:

تنبه كثير من المختصين إلى ضرورة توحيد الجهود العالمية لضمان توزيع متساو للقاح حين توفره. وحذروا من خطر «قومية اللقاح» (Vaccine Nationalism) التي تدفع كل دولة للتنافس حول استلام أكبر شحنة لقاحات بمعزل عن غيرها. Click To Tweet

تكمن المشكلة، وفقًا لخبراء الأوبئة والصحة العامة، في استحالة القضاء على الجائحة إلا بجهد عالمي. فحصول أقلية من سكان العالم على اللقاح سيزيد من احتمالية ظهور تحورات أخرى من الفيروس مقاومة للقاح في أماكن أخرى. كما لن يتحقق التعافي الاقتصادي في دولة بمعزل عن بقية العالم نظرًا للترابط الاقتصادي وتداخل سلاسل الإمداد. 

سعي «كوفاكس» نحو العدالة 

بغية ضمان توزيعٍ متساوٍ وسريع للقاح، أنشأت منظمة الصحة العالمية برنامج كوفاكس في أبريل 2020 بالتعاون مع منظمتين أخريين. كان هدف كوفاكس دعم تطوير اللقاحات وتوزيعها بشكل متساوٍ على جميع الدول المشاركة. ولتحقيق ذلك، اتبع استراتيجية مشابهة لتلك التي طبقتها الولايات المتحدة، أي الاستثمار في عدة لقاحات في الوقت ذاته. 

لكن ما يميز كوفاكس أنه حالما تثبت فعالية لقاح ما، سيتولى توزيع الجرعات المتوفرة في الوقت نفسه على جميع الدول بناء على عدد سكانها، وبصرف النظر عن فقرها أو غناها. 

سقوط إيليزيم: هل سيوفر مات ديمون علاج فيروس كورونا مجانًا؟

الطوباوية داخل عدسة فيلم إيليزيم وتحدي علاج أزمة كورونا والفجوة بين الأغنياء والمسحوقين داخل النظام الرأسمالي في ظل أزمة الوباء

26 مارس، 2020

وبذلك يتيح كوفاكس للدول المشاركة تقليل المخاطر بالاستثمار في عدة لقاحات، وتشارك منفعة الحصول المبكر على أول لقاح ينجح تطويره. ففي حال لم يُقر لقاح ما، ستحصل الدول على أي لقاح آخر تقره منظمة الصحة. وفي الوقت ذاته، يوفر كوفاكس اللقاحات بشكل مجاني للدول منخفضة الدخل. كما يلعب دور الوسيط بين الدول والشركات المنتجة للقاح، فيبرم صفقات مبكرة بكميات ضخمة مع عدة شركات. وهكذا يساعد في تقليل تكلفة اللقاح وتسريع إنتاجه.

وبحلول أكتوبر 2020، انضمت مائة وواحد وسبعون دولة للبرنامج من ضمنها الصين. بينما اختارت الولايات المتحدة الأميركية تحت إدارة ترمب عدم الانضمام. 

كهدف مرحلي، سعى كوفاكس لتوفير جرعات تكفي لتطعيم 20% من مواطني الدول المشاركة بنهاية هذا العام. لكن قد لا يتحقق هذا الهدف المتواضع في الوقت المأمول. إذ لضمان نجاح البرنامج، كان يفترض بألا تعقد أي دولة صفقات ثنائية مع الشركات المنتجة للقاحات. إلا أن حاجة كوفاكس لتمويل الدول الغنية أجبرت البرنامج على القبول بالأمر الواقع، والسماح لهذه الدول بالمشاركة في آلية كوفاكس مع الاحتفاظ بصفقاتها الثنائية.

وقد أبرم برنامج كوفاكس عدة صفقات لشراء أكثر من ملياري جرعة. لكن لن يستلم معظمها إلا عندما توفي الشركات المصنعة تعهداتها للدول الغنية. 

مخاوف الهيمنة في «دبلوماسية اللقاح»

ساهم اكتناز عدة دول غنية للقاحات بخلق فجوة عالمية في توزيعها. إذ لاقت أغلب الدول متوسطة ومنخفضة الدخل صعوبات في الحصول على كميات كافية من اللقاح. في خضم هذا الشح العالمي، انتهجت الصين وروسيا سياسة مختلفة، أطلق عليها «دبلوماسية اللقاح». حيث أرسلت الدولتان مئات الآلاف من ساينوفارم الصيني وسبوتنيك الروسي إلى عشرات الدول حول العالم. ووقعت صفقات مع دول أخرى نيابة عن الشركات المصنعة للقاحات. 

إذا ما نظرنا إلى قائمة الدول التي حصلت على اللقاحين سنفهم بعض دوافع دبلوماسية اللقاح الصينية والروسية. فقد ركزت الصين على دول آسيوية مشاركة في مشروع طريق الحرير الجديد مثل إندونيسيا وباكستان. بينما سعت روسيا لتسويق لقاح سبوتنيك في أوربا الشرقية وأميركا الجنوبية التي لطالما كانت ساحة للنفوذ السياسي والاقتصادي الأميركي.

ووفقًا لتقرير الإيكونوميست، بدأت روسيا محاولة الحصول على حق التنقيب عن المعادن وتطوير مشاريع للطاقة النووية في بوليفيا بعد إرسالها شحنة من لقاح سبوتنيك. 

رأت الولايات المتحدة في دبلوماسية اللقاح الروسية والصينية تهديدًا لهيمنتها السياسية والاقتصادية، مما دفعها أخيرًا للتنبه إلى تبعات اكتنازها للقاحات. فقد كشفت وثائق رسمية أميركية محاولة إدارة الرئيس ترمب الضغط على البرازيل لإقناعها برفض اللقاح الروسي رغم ارتفاع معدل الوفيات في البرازيل عالميًا. 

إفاقة ضمير متأخرة

أعلن الرئيس بايدن مطلع هذا الشهر تبرع الولايات المتحدة بـ500 مليون جرعة من لقاح فايزر للدول منخفضة الدخل. وحذت دول من مجموعة السبع حذو بايدن في تبرعات مماثلة. وكان من اللافت تركيز الرئيس بايدن على كون التبرع الأميركي «بلا قيود أو شروط». محاولة جاءت غير مقنعة لإثبات صفاء النوايا الأميركية، على عكس الصين وروسيا.

إفاقة ضمير تلك الدول لم تأت متأخرة جدًا فحسب، بل في الأغلب أتت مدفوعة بالخشية من تنامي النفوذ الصيني والروسي. وهكذا تنجح الحسابات الجيوستراتيجية في تحقيق ما لم تحققه الحجج العملية والأخلاقية. 

ما انفكَّت العديد من الحكومات توظف مختلف الحجج العلمية حتى تحث مواطنيها على الالتزام بالإجراءات الاحترازية وتبرر إجراءات الإغلاق المشددة. وتحولت مقولة «الإصغاء للعلماء» شعارًا لدى بعض السياسيين. مع ذلك أثبتت قصة إنتاج اللقاح وتوزيعه لا مبالاة معظم حكومات الدول الغنية، تحديدًا المنتجة للقاحات، بتحذيرات العلماء من التبعات الصحية والاقتصادية لغياب المساواة في التوزيع. 

لكن لربما مع مواصلة فيروس كورونا التحور من سلسلة خطرة إلى أخطر، وتهديده الاقتصاد العالمي بانتشاره السريع واحتمال مقاومته اللقاحات الحالية، ستقنع أخيرًا تلك الدول الغنية بضرورة المساواة. وتجد في عدالة توزيع اللقاح التحصين الأمثل لمصالحها.

أزمة كوروناالصحةاللقاحاتالسلطة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية