سياسة منتصف العصا: ليت صلاح يقتدي بكيم كارداشيان

مرة تلو مرة يخذل محمد صلاح جماهيره وينأى بنفسه عن نصرة القضايا والتعليق عليها. وفي عالم التواصل الاجتماعي صمت المشهور خطيئة لا تغتفر.

مع كل حدثٍ عام، رياضي أو ديني أو سياسي، تضجُّ وسائل التواصل الإجتماعي بتعقيبات وآراء المتابعين على هذه الأحداث، وتتباين هذه الآراء بين مؤيد ومعارض. كما يُحبذ البعض الوقوف في المنتصف دون إبداء رأيه، مفضلاً الاحتفاظ به وعدم طرحه للعامة. وفي خضم كل هذا، يُولى اهتمامٌ خاص لآراء المشاهير حول هذه القضايا.

إذ بفضل وسائل التواصل الاجتماعي تضاعفت قيمة آراء المشاهير والنجوم وبدا جليًا تأثيرها على جماهيرهم. وأصبح من الطبيعي في السنوات القليلة الماضية تسخير المشاهير منابرهم الإلكترونية لدعم مختلف القضايا والأيديولوجيات. 

أهمية الرأي التي اكتسبها المشاهير من على منابر التواصل الاجتماعي بقوة الجمهور، هي ذاتها ما يعرِّض أصحابها إلى درجات مختلفة من العداء الجماهيري في حال التزم المشهور الصمت أو الحياد حول حدثٍ جارٍ. تمامًا كما حصل مع النقد اللاذع الذي وجهه الجمهور إلى محمد صلاح جراء التزامه الحيادية في التعقيب على قضايا هامة كالقضية الفلسطينية منذ تصاعد أحداث حي الشيخ جراح. حيادٌ تكرَّر حتى في مواقف سابقة. 

لكن لماذا تولي الجماهير حول العالم أهمية بالغة لآراء المشاهير حدًّا لا تقبل معه حتى حق انكفاء المشهور عن إبداء رأيه، وتحاسبه من منطلق: إما معنا أو ضدنا؟ 

ليس مجرَّد رأي بل قوَّة 

تنبع تلك الأهمية من إسقاط قيمنا الشخصية على هؤلاء المشاهير. فنحن نراقبهم عن كثب في كافة تفاصيل حياتهم، يومًا بيوم، خارج سياق ميدان شهرتهم. وبذا أصبح يعنينا معرفة قيمهم. لكن هل سبق لك التساؤل عما إذا كان لزامًا للمشهور التحلي بوجهات نظر تقدمية وليبرالية؟ بوجهة نظر تطابق أصلًا وجهة نظرك؟ وهل الشهرة معيارٌ كافٍ لإجبار الآخرين على الالتزام بمُثُل أخلاقية حول كل القضايا؟ 

في واقع الأمر، بمجرد إبداء أحد المشاهير رأيه في موضوع ما، تتضاعف إمكانية وصول الحدث إلى قاعدة أكبر من الجماهير. فيكتسب الحدث أهمية أكبر لدى الجمهور العارف بالقضية، ويبلغ جزءًا آخر من الجمهور لم يسمع بها من الأساس. وتتسع قاعدة الوصول ارتفاعًا في «ترند» الوسوم، مما يشكِّل ضغطًا على الأطراف المعنيّة بالقضية ويؤثر في عملية اتخاذ القرار. 

حظر ترمب وتكتل لوبيات منصات التواصل، إلى أين يؤول مستقبل الإنترنت؟

لا يسع المرء إلا أن يكبت ضحكة قصيرة متى ما اطّلع على لائحة المنصات والتطبيقات التي حظرت ترمب. ففي أعقاب الهجوم الذي طال مجلس الشيوخ

19 يناير، 2021

هو النموذج ذاته في التسويق التجاري. عندما يؤيد أحد المشاهير منتجًا تجاريًّا، يمنح بتأييده اعترافًا بمصداقية العلامة التجارية، ويؤثر إيجابًا على معدل المبيعات. تنبثق قوة التأييد هذه عن إحساس الألفة والثقة لدى العامة تجاه المشهور. ووفقًا لدراسة أجرتها (Marketwatch) يمكن لتأييد المشهور تعزيز مبيعات المنتج فورًا بنسبة 4%. 

يُستخدَم النموذج ذاته منذ عقود بهدف تعزيز المسؤولية الاجتماعية. وخير مثالٍ تعاون منظمة الأمم المتحدة مع الممثلين المعروفين وتوظيفهم كسفراء للنوايا الحسنة. وتعد الممثلة الأميركية أنجلينا جولي، سفيرة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أشهر سفراء النوايا الحسنة وأكثرهم نشاطًا. 

إذ كرَّست ولا تزال جزءًا كبيرًا من حياتها في خدمة قضية اللاجئين. فساهمت في معسكر اللجوء الأفغاني في باكستان ومنكوبي دارفور ومخيمات اللاجئين في لبنان والعراق وكينيا وسيراليون وتنزانيا والصومال، وغيرها في جميع مناطق العالم. كما كرَّست جزءًا من ثروتها في تقديم المساعدة لمناطق العالم المنكوبة، والتبرع لصالح المنظمات الخيرية كمنظمة أطباء بلا حدود و«قلوبال إيدز ألاينس» (Global AIDS Alliance)  ومنظمة الطفل العالمي.

أنجلينا جولي مثالٌ على الدور الفعليّ في نصرة القضايا والنضال لأجلها من منطلق نجوميتها. وعليه يقودنا هذا إلى التساؤل حول وجود نضالٍ فعليّ وآخر استعراضيّ، وإلى أي حد يعد إبداء رأي المشهور نضالًا. 

نصير قضية أم ناشطٌ استعراضيّ؟

ثقافة المشاهير في جوهرها نتاجُ الموضة، ويُمثل المشاهير فيها وجهات النظر الأكثر شعبية كون وظائفهم تتطلب ذلك. فلن يُدلي نجمٌ برأيه في قضية ما لم يضمن مسبقًا امتيازاته وأمانه من الوقوع في مشكلة مع الشركة المسوقة له. أو لم يتأكد من تطابق رأيه مع الجهة التابع لها سواء كانت ناديًا رياضيًّا أو شركة إنتاج أو غيرها، أو على الأقل يضمن عدم استفزازه لها. 

مع تبدل تركيز الرأي العام حول القضايا الرائجة، نفهم لم نادرٌ رؤية أحد المشاهير على الجانب الخطأ من أي قضية، فهذا ما يُسمى بـ«النشاط الاستعراضي». و«النشاط الاستعراضي» مصطلحٌ ازدرائي يشير إلى النشاط من منطلق زيادة رأس المال الاجتماعي للفرد لا تكريس الفرد حياته لقضية ما. وغالبًا ما يرتبط النشاط الاستعراضي بالتراخي والسطحية في تناول القضية. 

لذا ليس من المنطقي إذن إضفاء قيمة أكبر على مواقف المشاهير، وذلك بخلاف مواقف النشطاء الفعليين من أنصار القضايا. فالناشط الفعلي درس أبعاد القضية المطروحة حتى يتمكن من إخبارنا بكل ما نحتاج إلى معرفته، وبذا اكتسب الحق بمنحنا رأيَه المصداقية والأهمية. 

أما توقع مستوى أعلى من المسؤولية لدى المشاهير في القضايا الاجتماعية أمرٌ خاطئ، ولا يؤدي إلا إلى تفاقم الاستياء العام. إذ ينبغي بالمصداقية والسلطة التي نمنحها لآرائهم الارتكاز على معرفتهم المحددة بشأن القضية المطروحة، لا كنتيجة ثانوية لوضعهم كمشاهير.

كما قد يتأتى تأثيرٌ سلبيّ من تلك الآراء. فآراء المشاهير النابعة دون دراسة وعلم بحيثيات الموضوع تؤثر على المتلقي وتناوله للأحداث، وتصيب القضية بالتسطيح وتدفع المتابع للاهتمام بالشكل على حساب المعنى. كذلك:

إن أبدى المشهور رأيه دون حساب مُسبق للعواقب ومخالفته سياسات الجهة التابع لها سيضطر للتراجع. وحينها أقل العواقب التي قد تصيبه منعه من إبداء رأيه، وهذا ما يُعرف بـ«ثقافة الإلغاء». Click To Tweet

تراجع رافالو وثبات كارداشيان

ففي غضون السنوات القليلة الماضية والمضطربة، برزت قوة الجماهير في تحييد شخص أو إلغائه ثقافيًا بحرمانه من امتلاك منصة أو مهنة عامة. وتعد هذه القوة محط جدل كبير بين مؤيد ورافض، لا سيما من منطلق الدفاع عن حرية الرأي. ولا يقتصر الأمر على إبداء الرأي فحسب، إذ قد يرتكب أحد المشاهير فعلًا أو قولًا مسيئًا، فيترتب على ذلك رد فعل عام عنيف. وردة الفعل هذه غالبًا ما تغذيها وسائل التواصل الاجتماعي التقدمية سياسيًّا.

مع اشتداد هجوم قوات الاحتلال على الشعب الفلسطيني، ندَّد عددٌ من الممثلين والشخصيات البارزة في عالم الترفيه بالقمع الإسرائيلي والوضع المتردي المناقض لحقوق الإنسان. أحدهم كان الممثل الأميركي مارك رافالو الذي عبَّر عن تضامنه داعيًا لفرض عقوبات على إسرائيل. وبعد أيام من شحذه الرأي العام على توقيع عريضة تدعو لفرض العقوبات، وقّعها أكثر من مليون و700 ألف شخص، فوجئ المتابعون بتراجع الممثل واعتذاره.

الحدث ذاته تكرَّر مع لاعب نادي آياكس الهولندي، نصير مزراوي، الذي نشر على حسابه في إنستقرام منشورًا عبر خاصية القصص القصيرة يشارك فيه تضامنه وتعاطفه مع الفلسطينيين. لم ينل المنشور إعجاب جماهير الفريق الهولندي الذي تربطه بإسرائيل علاقات راسخة. وطالب أنصار آياكس نادیهم بفسخ عقد اللاعب نصير مزراوي ومعاقبته ومعه بقية اللاعبين المتضامنين مع الشعب الفلسطيني.

من حق المشاهير مشاركة آرائهم بحرية حول القضايا الاجتماعية. بل من الأفضل استخدام منصاتهم لنشر الوعي بتلك القضايا وتوجيه تأثيرها بما يصب في الصالح العام. لكن يختلف الأمر متى ما ملك أحد المشاهير معرفة متعمقة بالقضية المطروحة. وأسرد هنا كمثال تبني كيم كارداشيان قضية «إصلاح العدالة الجنائية».

أنشأت الممثلة وسيدة الأعمال الأميركية منظمة للعمل من أجل إصلاح العدالة الجنائية. كما تتابع حاليًا دراسة القانون لتعزيز دفاعها عن إصلاح السجون، وتعمل باستمرار لضمان تكيُّف المدانين السابقين بشكل أفضل مع الحياة بعد إطلاق سراحهم. واليوم، تحظى آراؤها حول قضية إصلاح نظام العدالة بشعبية وثقة في معرفتها المتعمقة بالقضية، بعيدًا عن التأييد الاستعراضي مع موجات «الترند». 

تسديدة صلاح الضائعة

حين طُلب من رئيسة وزراء بريطانيا مارقريت تاتشر اتخاذ موقفٍ وسطيّ في قضية مهمة أجابت: «الوقوف في منتصف الطريق يعرضك للخطر، إذ ستدهسُك العرباتُ المنطلقة في كلا الاتجاهين!» وعلى ما يبدو هذا ما يحصل مع محمد صلاح.

نحن الآن أمام معضلة. لدينا نجم جماهيري يحاول دائمًا إمساك العصا من المنتصف في كل قضية تبرز على الساحة. ومع ذلك لا يسلم من براثن نقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المنتظرين ردة فعله ووجهة نظره في الأحداث، فيرجع جمهوره كل مرة خائبًا بخفي حنين. 

لعل مشكلة صلاح الكبرى كونه منذ البداية ليس من أنصار القضايا. فنحن أمام رجل يطل علينا في بداية مسيرته الإحترافية بمواقف ترفعه في قلوب جماهيره، مثل رفضه مصافحة لاعبي «مكابي تل أبيب» في عقر دارهم، وتُنبئ بشخصية رياضية مدركة لأهمية رأيها. 

لكن لربما مواقفه حينها اقتداءٌ بمثله الأعلى محمد أبو تريكة، وسعيٌ لخطف مكانة في قلوب الجماهير المصرية تُعادل مكانته، فمواقف الأخير من القضايا العامة داخليًا وخارجيًا معروفة للجميع.

ومع تواصل مسيرة محمد صلاح الاحترافية ونجاحه العالميّ خارج مصر فاجأنا بشخصية جديدة تدعم بفجاجة زميلًا متهمًا بالتحرش. وحين توجه الجمهور له باللوم، دافع عن موقفه بحجة ضعف عقلية الشعب المصري.

الصياغة التي استهلَّ بها رأيه «ده الفرق بيني وبين أي حد تاني» توحي بإقصائه نفسه عن الجمهور المصري، بل الاستعلاء عليه بقوله «عقليتنا في مصر ما مرنَّهاش كويس، المينتاليتي متعلمنهاش أبدًا في المدارس». وكان لمحمد صلاح أن يعبر عن رأيه ذاته بحجج أخرى، أبسطها المتهم بريء حتى تثبت إدانته. لكنه اختار ردَّ اللوم على عقلية جمهوره. 

ولربما حادثة إبداء الرأي المتعجِّل هذه الدافع وراء التزام صلاح سياسة الإمساك بالعصا من المنتصف نأيًا بنفسه. لكن سياسته زادت من ضغط الجمهور عليه في كل حدث يبرز على الساحة. فإما لا يستجيب، فيطاله المزيد من النقد على حياديته، أو يستجيب متأخرًا برد استعراضيّ فيقع في محظور آراء المشاهير التي تلقى لنا كسد خانة.

في الحالتين، يضيِّع صلاح فرصة إبداء رأيٍ هادف.

الجماهيريةالحيادالقضايا الاجتماعيةوسائل التواصل الاجتماعيالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية