أبي نَصٌّ لا يُكتَب

بعد أربعة عشر نصًّا أدبيًّا أجد أبي حاضرًا في كتابتي رغمًا عني، على صور هيئته في حياته. وكلما حضر أشعر كأني أقتله من جديد وأمشي في جنازته.

تأخَّر أبي في الزواج حتى بدا عجوزًا عشية إنجابي. لكنني الآن أكبَرُ سنًّا مما كان يوم وُلدتُ. وقد مرَّ على موته أكثر من عشرين عامًا، وخلال هذه السنين حقَّقت الحلم الذي يراودني منذ المراهقة بأنْ أُصبح أديبًا. أصدرتُ أربعة عشر كتابًا. لكنْ ما من كلمة عنه. 

ليس هذا صحيحًا تمامًا. يأتي ذكر بابا بأشكال مختلفة في غالبية نصوصي. تظهر شخصية المحامي الماركسي الذي دجَّنتْهُ أُسْرة طبقةٍ وسطى أقامها حتى أصبح ليبراليًّا، أو تتوالى مشاهد جنازة مثقف عربي بلغ به الاكتئاب أن فقد الصلة بالأصدقاء والكتب. الأكثر: تتداعى فجيعة الابن الضال!

فالحقيقة أنَّ السعيد رخا حاضرٌ في كتابتي رغمًا عني، وعلى الهيئة التي كان عليها في حياته: قارئًا فَكِهًا وصديق كُتّاب، مؤرِّخًا مغمورًا وسياسيًّا محبطًا، زوجًا باردًا وأبًا تفادى الأبوية وهو يمارس أبوَّتَه بخفة باهرة… ليس صحيحًا أنني لم أكتب عنه. لكنْ خلاف مقال إنقليزي وقصيدة عربية، لم أفعل ذلك إلا عبر إشارات جانبية جبانة.

نعم جبانة، لأنها لا تأتي إلا عَرَضًا وأنا بصدد معالجة موضوع آخر. ولعل هذا ما يؤرِّقني. أنني حتى الآن لا أراني قادرًا على مواجهة أبي أدبيًا. لا تواتيني شجاعة استحضاره إلا خارج سياق الكتابة، بلا ركون إلى الغنائية أو السردية… بعيدًا عن الكلمات التي أعيش من خلالها، كما يبدو لي، في كلِّ ما عداه.

في بداية عامي الخامس والأربعين أظنني أعرف لماذا.

يبدو لي أنَّي قتلت أبي 

لقد حاولتُ. جربت أكثر من مرة أن أسرد حياة بابا. على الأقل أسجِّل ما أعرفه عنه، ما أذكره من تحوُّل: سقوط أو صعود. وكنت لا أكاد أشرع في الكتابة حتى تشلني المخاوف والأحزان. ليس لأن شبحه يرفض الحلول عليَّ إذا دعوته، ولا لأنه يروّعني أو يعنفني إذا حلَّ؛ ولكن لأن الصِيَغ المطروحة إما تزيِّفه، أو تتحول إلى حفلة جلد ذات خاصة بي.

أشعر أني أمتهنه وأستغل آلامه، الأمر الذي لا يحدث مع أي شخص آخر اضطلعت بالكتابة عنه، حيًّا أو ميتًا.

ذلك أن:

موت أبي لم يكن أمرًا صادمًا. لم يكن مأساةً. لقد أمضى شهوره الأخيرة بين غرفة النوم والمستشفى: مكانيه المفضَّلين طوال حياتي على الأقل. في عمر الثامنة والستين لم يعد يتحدث عن شيء سوى عجزه ولا جدوى الاستمرار. Click To Tweet

وماذا كان علينا أن نفعل أمي وأنا سوى أن نرعاه بينما نودعه صاغريْن؟ آجلاً أو عاجلاً سنضجر برعايته مهما حسنت نوايانا. وحينئذ يتجذَّر إحساسنا بالذنب. 

ثم إن أبي، منذ بداية كهولته على الأقل، وهو أنانيٌّ «سِلْبَاط». له عُمْرٌ يبتزُّ زوجته وابنه الوحيد عاطفيًا بالمرض واقتراب النهاية. وكالصبي في الحكاية الشهيرة، حالت صيحاتُه الكاذبة بوجود ذئبٍ، على مدار السنين، بين احتضاره الحقيقي وانتباهنا إلى أنَّ ذئب الموت حضر.

لكنْ حتى بعدما أيقنَّا أمي وأنا أنه على الطريق، بدا لي الأمر مُلائمًا ومُريحًا. ألهذا قبل وفاته بساعات، تبادلنا نظرة سريعة تبعها بكاءٌ حار؟ كيف عرفنا أن اليوم يومه؟ في الذاكرة تبدو لي تلك النظرة هي فِعْلَ قتله الذي تواطأنا عليه. كأن قبولنا بموته سلاحٌ نافذ. 

يبدو لي أننا عرفنا يوم موته لأننا تسببنا فيه. بسأمنا ويأسنا. منحنا مَلَك الموت الضوء الأخضر لحظة تبادلنا نظرة يتبعها بكاء. يبدو لي أننا قتلناه. 

وكيف أختلف، إذا استدعيته أدبيًا، عمَّن يقتل القتيل ويمشي في جنازته؟

فجيعة فقده ما تزال تتملكني  

رغبتُ فعلاً في موت أبي. فكيف أغفر ذلك لنفسي؟ رغبتُ في انتهاء كابوس اليأس والانتظار. وفي حصول كلٍّ على طلبه: هو لم يطلب إلا الموت، وأنا طلبتُ أن أستريح من عِبئه. لقد مللتُ محاولة إيقاظه أو تنشيطه. مللتُ حتى تعنيفه أملاً في أن ينهض ويفتح عينيه. 

من قبل وعكته الأخيرة، كنا أمي وأنا نفتقد حضوره بأي معنى إيجابي. فمع أنه لا يشكو من مرضٍ واحدٍ قاتل، أهلكتْ جسده أمراضٌ كثيرة غير قاتلة. الاكتئاب وعقاقيره المضادة جعلاه واهنًا وبطيئًا. هكذا ثَقُلَ حِمل الشخص الذي أعطانا كل شيء. 

أجهدَتْ أمي رعايتُه. أجهدَتْها رعايته طوال عمرها. لكنْ في الشهور الأخيرة أمسى الأمر لا يُحتَمَل. وأنا عكفتُ على الهروب إلى حيث لا أُضطر إلى مساعدتها ورؤيته.

فلم «الأب»: حين تتداعى الأشياء

لا يقدم فلم «الأب» علاجًا للمرض؛ فلا علاج لمرض الزهايمر حتى الساعة؛ بل يحاول وضعنا في تجربة مماثلة لما يعيشه المريض

3 يونيو، 2021

لذلك عندما استدعتني أمي من حيث كنت لم أشعر بشيء. عرفتُ فيما بعد أنه قبَّل يدها ولم يسأل عني، أنا الذي كانت روحه فيََّ. حين وصلت كان البيت هادئًا رغم كثرة الغرباء فيه. ولم يدعني جارنا المتطفل أمضي وقتًا طويلاً مع جثمانه في الغرفة. لعله أشفق عليَّ من أن أنهار. 

كنت أتطلَّع إلى الجثمان والجار مصمم على أنني يجب أن أخرج من فوري لأن في الغرفة ملائكة أقف حائلاً بينهم وبين روح أبي وهي تحوِّم حول السرير. صحيح أني لم أحصل على الراحة التي توقعت أن يجلبها لي موته؛ لكنني لم أشعر بشيء.

لا أريد أن أقتل القتيل وأمشي في جنازته، لكنَّ هناك أيضًا رعبي العميق من أحاسيسَ أعرف أنني لا أطيقها. فكيف أكتب عن أبي ولا أزور الفجيعة الخرافية التي ضربتْني بعد نحو تسعة أشهر من ذاك اليوم؟ فكرة الزيارة مؤلمة في حد ذاتها. فقد أخذتني الفجيعة على حين غِرّة. أسقطتني بضربة واحدة. شعُرتُ وقتذاك بخوف لم أعرف مثله في حياتي لا قبلها ولا بعدها. 

في النَصِّ يغيبُ أبي  

وهكذا ربطت في ذهني بين معاناتي النفسية وما يصفه جان بول سارتر على سبيل الوعي بالوضع الإنساني. فقد اعتنق أبي الفلسفة الوجودية فيما اعتنق من ماركسية وعلمانية وتنوير قبل تحولاته اللاحقة. وبدا لي أن فجيعتي في موته خبرةٌ مباشرة بقناعاته. شلَّني فزع الوجود في الدنيا من دونه. شلني فزع الوجود. وكان الإحساس بالذنب يزيد على الرعب الأسود، تلك القناعة الشيطانية بأنني أستحقه.

لا أريد أن أمشي في جنازة قتيلي ولا أن أزور فجيعتي في موته، لكنْ لعل السبب الأقوى في أنني أتذكّر أبي ولا أكتب عنه هو أمرٌ ثالث أبسط وأعقد في الوقت نفسه: أنَّه يغيب في الكتابة. 

فأبي كموضوع أو قصة أحد احتمالين: إما مناسبة للتعامل مع ما يوجعني ويُخزيني شخصيًا، ليس في موته فقط لكن في حياتي كلها حتى اللحظة. أو فرصة للحديث عن عدد كبير من العناوين الكبرى في النصف الثاني من القرن العشرين في مصر، تعد حياته نقطة تماس بينها.

أن أكتب عن أبي يعني أن أكتب عن الحركة الشيوعية وعبدالناصر، عن الليبرالية والتنمية، عن الفحولة مقابل دعم تحرير المرأة وما في ذلك وسواه من تناقضات أخلاقية، يستتبعها الانتماء إلى مجتمع محافظ في وجود قناعات فردية وتقدمية. ولو كتبت عن هذه الأشياء، فأين يكون الشخص الذي عرفته؟

أراه الآن قرب متجر صغير للسجاير في شارع 26 يوليو كنت اصطحبته إليه مرة، قبل أن أبلغ العشرين. يرتدي بدلته «الصيفي» الرمادية وحذاءه الأسود. ويمشي بمحاذاة الرصيف على الأسفلت. لا يمشي على الرصيف نفسه، لكن بمحاذاته على مسافة خطرة من السيارات. حركته بطيئة لكن فيها تصميمًا.

يبدو عجوزًا جدًا وواهنًا وشعره هائش على جانبي صلعته. لكنه لا يكف عن المشي، ويداه معقودتان فوق أليتيه.

الأبالشيخوخةالكتابةالموتالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية