لِم يعجز علم الاقتصاد الكليّ عن تفسير الاقتصاد الجديد
لم يغيّر عام 2020 من نمط عيشنا الفردي وفهمنا للحياة من حولنا فحسب، بل حققّ ما أنكره اقتصاديون معاصرون كبار، وأطاح بالكثير من أسس الاقتصاد.
لم يغيّر عام 2020 من نمط عيشنا الفردي وفهمنا للحياة من حولنا فحسب، بل حققّ ما أنكره اقتصاديون معاصرون كبار، فأطاح بالكثير من أسس الاقتصاد الكلي.
لطالما ردد أستاذي في علم الاقتصاد بجامعة ييل -والذي كان بدوره طالب دكتوراه في هارفارد تحت إشراف الاقتصادي الفائز بجائزة نوبل، روبرت ميرتون- بأنه من المستحيل وجود سعر فائدة إسميٍّ بالسالب. لكن ذلك الاستطراد تحقق الآن! فبعد سنوات من موته، حدث المستحيل، وصارت دول عديدة تصدر اليوم ديون سعر فائدتها اسميًّا بالسالب.
لو قدّمت لأفضل مائة عالم اقتصادي في 2019 البيانات الاقتصادية للعالم في 2020، ستماثل ردود أفعالهم تلك التي كان ميلتون ليدلي بها إذا ما أخبرته بأنَّ السعودية ستقنع في المستقبل مستثمرين بشراء ديونها بسعر فائدة سلبي.
بكل اختصار: الاقتصاديون في حيرة مما يحدث! والكثيرون يرون ذلك الآن. فإدارة بايدن مثلًا لا تبالي بتحذيرات بعض كبار الاقتصاديين مثل ليري سامرز، وترى أن نصائحهم بخصوص معالجة أزمة 2009 كانت غير صحيحة.
لكن ما السبب وراء ذلك؟ يوجد ثلاثة أسباب تفسر السبب الذي جعل «علم» الاقتصاد الكلي يبلغ الحضيض هذا العام.
استحالة تجريب الفرضيات
إن علم الاقتصاد الكلي ليس علمًا على النحو الذي يظنه الكثيرون. فثمة أنواع من العلوم إذا ما وُجدَت لها نظريتان متعارضتان، تفصل التجارب المخبرية بينها، الشيء الذي لا يمكن انتهاجه في الاقتصاد الكلي.
فمثلًا، ولمدة طويلة من الزمن، ساد إجماع بأنَّه في حال تعدّت نسبة الدين للناتج المحلي 100%، فحتما سيعاني الاقتصاد من تبعات ومشاكل كبرى. هذا العام، أقر جهاز التحليل الاقتصادي للحكومة الأميركية بأنَّ هذه الفرضية غير صحيحة.
فكيف للاقتصاديين إذن أن يعرفوا خطأ فرضيتهم من دون المجازفة برفع نسبة الدين إلى ما فوق 100%؟ ذلك أمر مستحيل. نعود للتأكيد أن الاقتصاد الكلي ليس علمًا يتبع نهج العلوم الطبيعية، إذ لا يمكن بسهولة تطبيق المنهجية العلمية حينما تتحدث عن تجارب بمقاييس الدول والأنظمة.
أي أن:
علينا الاستيعاب أن كثيرًا مما نظنه «علمًا» في الاقتصاد إنمّا هو في الحقيقة مجرد فرضيات واستنتاجات لم تختبر قط. Click To Tweet
نشوء التكلفة الحديّة الصفريّة
يتمثل السبب الثاني، وبرأيي الأهم، في نشوء ظاهرة اقتصادية لم تكن موجودة قبل مائة عام، وهي التكلفة الحدية الصفرية. فحين يشرح ملتون فريدمان الاقتصاد، يذكر مبدأ الطلب والعرض: لدي قلم رصاص وجاء أحدهم وعرض علي شراءه ثم أتى شخص آخر فزاد الطلب. وبما أنّي لا أملك غير قلم رصاص واحد ولا أستطيع إعطاءه لكليهما، سأرفع السعر.
لكن ماذا إن قلنا بأنَّك تملك قوى سحرية تمكّنك من خلق قلم رصاص دون أي تكلفة، هل سيصمد حينها مبدأ الطلب والعرض؟ هذا تمامًا حال الاقتصاد في 2021. فالكثير من الاقتصاد الآن قائمٌ على شركات لديها تكلفة حدية صفرية.
مثلًا، لو أردتُ الاشتراك في منصة «إيتش بي أو» (HBO) عام 2000، فالتكلفة الحدية حينذاك كانت ستتمثل في توفير الاشتراك من خلال تأمين الجهاز لي مقابل ثمن وإرسال شخص يركب الجهاز في منزلي. أما اليوم فالتكلفة الحدية لأي مشترك جديد للمنصة أقل من سنت واحد.
حينما تصبح التكلفة الحدية صفرًا، يضرب هذا بكثير من أسس الاقتصاد الكلي وينتج عنه ما نراه اليوم من ظواهر اقتصادية لا يستطيع أحدٌ تفسيرها.
ومن تلك الظواهر وأهمها كيف استطاعت الولايات المتحدة أن تضخ أكثر من 8 تريليون دولار خلال عام واحد، ومع ذلك لم يتعدَّ معدل التضخم نسبة 2.5% رغم كل التحذيرات التي سمعنا بها قبل عام.
تباين أدوات القياس مع الاقتصاد الجديد
أما السبب الثالث، فيتمثل في إصرار الاقتصاديين على استعمال أدوات قياس اخترعت قبل مائة عام في تفسير اقتصاد يختلف جذريًا عن الاقتصاد الذي بنيت لأجله هذه الأدوات. وأورد هنا مثالًا توضيحيًّا.
لنفترض أنَّ لديك اقتصادًا يبلغ الناتج المحلي الإجمالي فيه 1000 ريال، ولا ينتج سوى التفاح. صَعُب في البداية إنتاج التفاح. ومن 1000 ريال، تستقطع تسعمائة قيمة إنتاج الفاكهة المعنية. وتبقى مائة ريال قيمة بقية عملية الإنتاج، كالتسويق وقيمة العلامة التجارية على التفاحة وما إلى ذلك. بعد مدة، صار إنتاج التفاح أسهل بأضعاف.
فأصبحت قيمة إنتاج التفاح في الاقتصاد البالغ حجمه 1000 ريال، مائة ريال فحسب، وتسعمائة الباقية هي قيمة العلامة التجارية والتسويق وتجربة العميل في المحل.
في نموذج الاقتصاد الأول، إذا قل الناتج المحلي بـ10%، سيترجم ذلك إلى انخفاض هائل في عدد التفاح المنتج. لكن انخفاضًا بالنسبة نفسها في الاقتصاد الثاني، لن يؤثر بشكل كبير على عدد التفاح المنتج. وهذا بالضبط ما حدث في الاقتصاد خلال العقود الماضية. ففي 1975، كانت نسبة الأصول الملموسة لأكبر خمسمائة شركة أميركية قرابة 83%، وغير الملموسة 17%. أما اليوم فـ90% من أصول الشركات هي أصول غير ملموسة.
بكل اختصار، أصبح الإنخفاض في الناتج المحلي اليوم يعني شيئًا جذريًّا مختلفًا عما كان عليه قبل مائة عام. وحتى الآن، تنعدم أدوات قياس متكاملة معترف بها دوليًّا نستطيع من خلالها فهم كيفية ترجمة الناتج المحلي إلى جودة حياة البشر بدقة.
ضرورة الاستثمار في الإبداع الاقتصادي
تُحدّث بقية العلوم الأخرى مبادئها الفكرية بشكل دوري. فكما أحدث ظهور أينشتاين وجيله تجديدًا ثوريًّا في الكثير من المبادئ الفيزيائية، ليشهد علم الفيزياء من بعدهم تحوّلَا جذريًّا، يمثل عام 2020 إنفجارًا نوويًّا للاقتصاد الكلّي. وكما حال الضفدع في المياه الحارة، لم نستشعر حقًا أهمية المرحلة التي نعيشها بسبب بطء هذا الإنفجار.
لكن علم الاقتصاد حتمًا ما سيشهد هو الآخر تحوّلًا بنفس الجذرية، خاصةً فيما يتعلق بهوس الاقتصاديين بالسوق الحر والفكر النيولبرالي وتقليل التدخل الحكومي في الاقتصاد. لهذا ينبغي بنا نحن دول الخليج العربية استدراك هذا التغيير وتحديث فهمنا للاقتصاد، وألا نكون مجرد تابعين للإنتاجات الفكرية الاقتصادية الغربية.
ويتطلب ذلك استثمار دول الخليج العربية فيما يسمى بالإبداع الاقتصادي: صنع نماذج ومعايير اقتصادية جديدة لأجل قياس وإدارة الاقتصاد الحقيقي بشكل أفضل.
إذ لزامًٌ علينا اليوم خلق اقتصاد القرن الحادي والعشرين بأنفسنا وألا ننتظر تجارب الغير!