«استراتيجية الرياض» وتحدي التباين التنموي بين المدن
تهدف «استراتيجية الرياض» إلى جعل الرياض واحدة من أكبر مدن العالم، وتشجع هجرة السكان والاستثمارات إليها. فماذا عن تنمية بقية المدن السعودية؟
قبل ما يقارب السبعين سنة من الآن، كانت الأحوال المعيشية والخدمات ومستوى التعليم بين القرى والمدن السعودية متقاربة إلى حدٍّ كبير. فحتى الأسواق البسيطة والشعبية لم تختلف كثيرًا بين مدينة وأخرى. هذا طبعًا باستثناء مدينتي جدة ومكة، اللتين اختلفتا عن سائر المدن بحكم استقبالهما الحجاج من كل أقطاب العالم.
لكن الصورة اختلفت اليوم. فكيف حصلت هذه الاختلافات وما آثارها، خصوصًا على السياق الاقتصادي؟
تحولات المدن مع النهضة الشمولية
مع تدفق البترول في السعودية، بدأت نهضة لم تعرف البلاد لها مثيلًا. فكل شيء تغير، وأموالٌ هائلة اندفقت إلى اقتصاد بسيط بمستوى تعليمي بسيط. وعلى إثرها انطلقت أعمال البنى التحتية والإنفاق على التعليم وربط المدن بالطرق. وتوسعت الدولة في التوظيف في كل مدنها، لتقوم نهضة شمولية لم يبقَ معها مكانٌ في السعودية إلا وشملته مَكنة التطور.
مع اكتمال هذه المشاريع وتزايد عدد سكان السعودية بأسرع وتيرة في العالم -بلغ معها نسبة 6.4% عام 1982- ارتفعت ميزانيات الدولة، وأصبح الإنفاق التشغيلي الأغلب على حساب النفقات الرأسمالية. ثم ازداد التباين التنموي بين المدن خالقًا مدنًا عملاقة كالرياض وجدة، مع نمو أقل بكثير للمدن المتوسطة، وآخر يكاد لا يذكر للمدن الصغيرة.
زاد هذا التباين التنموي الفارق بين المدن. وأصبحت الفروقات بالحجم والاقتصاد ضخمة بالمقارنة مع وضعها قبل سبعين سنة.
فعلى سبيل المثال، كانت مدينة بريدة أكبر وأكثر سكانًا من الرياض في الثلاثينيات وحتى الخمسينيات، وكذلك حائل والهفوف. أما اليوم فيختلف الوضع. ولو جُمع سكان تلك المدن الثلاث، لن يبلغوا نصف سكان الرياض. بل من المتوقع أن يتواسع الفارق وبشكل كبير خلال السنوات القادمة.
لنمو الفارق بهذا الشكل عدة أسباب، ليست بالجديدة أو ولا المستغربة، بل سبق وتكررت في أغلب دول العالم، سيما حديثة التنمية.
مسببات التباين التنموي
1- تمركز الدوائر الحكومية الرئيسة في مدينة واحدة، مما يدفع نحو نمو المدينة الطبيعي كما حال الرياض. فوجود الوزارات في مدينة واحدة يدفع بكثير من الأعمال إلى التواجد قربها، كما يدفع بالكثير من الموظفين العاملين فيها إلى الانتقال للمدينة.
2- توفر الخدمات في المدن الكبيرة بشكل أفضل من باقي المناطق، خصوصًا خدمات الصحة والتعليم. إذ بلا شكٍ تنعم باقي المناطق بخدمات صحية وتعليمية، لكن الجودة تتركز في المدن الكبيرة. ولهذا مثلًا، يعزف كثيرٌ من الأجانب عن العمل في المدن الصغيرة بسبب عدم توفر مدارس عالمية جيدة.
3- مع ازدياد حجم السكان في المدن الكبيرة يزداد حجم السوق، وهنا يزداد تركز الأعمال والشركات. فممارسة عمل في مدينة يبلغ حجم سكانها خمسة ملايين نسمة يختلف تمامًا عن مدينة يبلغ حجم سكانها أربعمائة ألف. ولهذا يفضل رواد الأعمال وأغلب الشركات الصغيرة والمتوسطة بدء ممارسة أعمالهم في المدن الكبيرة.
وهنا تبدأ هجرة القطاع الخاص للمدن الكبيرة، تأثيرٌ يشبه كرة الثلج. ولكي يتضح حجم التمركز، تشير البيانات الخاصة بالمصانع أن الرياض تستحوذ على 41% من عدد المصانع، ومنطقة مكة المكرمة على 19%، أما المنطقة الشرقية، فتضم 23% منها. وتستحوذ تلك المدن مجتمعة على 83% من أعداد المصانع في السعودية.
أما المصانع نفسها، فتشغل ما يقارب مليون عامل: 37% منهم في الرياض و23% في مكة و24% في الشرقية، مجتمعين يشكلون 84% من نسبة العمالة. مما يؤكد قوة التمركز لدى المدن الكبيرة، وبالأخص في مدينة الرياض.
4- الرسوم والتكاليف الحكومية والبلدية متقاربة أو متماثلة تمامًا. فتكلفة الوقود والماء والكهرباء في المدن الكبيرة تماثل التكلفة في المدن الصغيرة، وكذلك الضريبة المطبقة. والتكاليف الحكومية الأخرى مثل البلدية والاستقدام والعمالة متطابقة، لذا لا يوجد حافز اقتصاديٌّ فعليٌّ للعمل والسكن في المدن الصغيرة.
وصحيحٌ أن هنالك انخفاضَا في التكاليف في مسائل أخرى كالعقار، لكن تكلفة ممارسة الأعمال تظل مماثلة لتكلفتها في المدن الكبيرة.
5- تركز سوق فرص العمل في المدن الكبيرة.
حلقة الهجرة السكانية والاستثمارية
من شأن كل تلك المسببات خلق فرص عمل كثيرة في المدن الكبيرة، مما يزيد الهجرة السكانية إليها. وبدورها تؤدي إلى كبر السوق المؤدي لتحسين جاذبية الأعمال والاستثمار، ثم إلى هجرة الشركات إليها وفتح مصانع وتأسيس أعمال تجارية وتقديم خدمات لوجستية وزيادة الطلب على المساكن.
وهكذا تكبر بيئة الأعمال، فتتوفر المزيد من الوظائف وتزداد هجرة السكان إليها. ومع ازدياد وتعاظم السكان، يكبر الطلب، مسببًّا زيادة في جاذبية السوق مرة أخرى.
وهكذا تكتمل حلقة محركات النمو وتعود من نقطة البداية، مما يفسر سر استمرار نمو المدن الكبيرة وتعاظم التباين بينها وبين المدن الأصغر.
مع كل هذا التباين في الحجم والأعمال والسكان، أعلن الأمير محمد بن سلمان عن «استراتيجية الرياض» التي تهدف إلى جعل مدينة الرياض واحدة من أكبر المدن حول العالم، باستهداف خمسة عشر مليون ساكن في المدينة خلال العشر سنوات القادمة.
ويُعتزم تحقق هذا عبر مصدرين، الأول النمو الطبيعي للسكان. حيث تشير التقديرات إلى أن عدد سكان الرياض الحالي بحدود سبعة ملايين نسمة، ومعدل النمو الحالي 4%، مما يعني أن النمو السكاني إلى عشرة ملايين سيتحقق تلقائيًّا خلال عشر سنوات. أما المصدر الثاني فاستقطاب المدينة للأعمال والشركات الإقليمية خصوصًا، مما يعني سكن موظفيهم مع عوائلهم. ليساهم ذلك في نمو المدينة بحدود خمسة ملايين شخص.
هل «اقتصاد المدن» ظاهرة صحية؟
الحقيقة أن هنالك آراءًا متعددة حول نمو مدينة الرياض، وبين معارض ومؤيد، تتعدد الأسباب. فالمعارضون يذكرون مشاكل تضخم المدن والازدحام وأن المدن الصغيرة تموت تدريجيًا، عدا المشاكل الاجتماعية الكثيرة التي تعانيها المدن. والمؤيدون يقللون من هذه الآثار ويركزون على الاقتصاد وخلق فرص العمل وازدهار الأعمال.
في رأيي الشخصي، أرى أنَّ توزيع التنمية بين المدن حافزٌ اقتصادي مهم. ولا بد من الحرص على بقاء جاذبية تواجد بعض الأعمال في المدن الأصغر، موازاة مع إثراء جاذبية المدن الكبرى وزيادة تنافسيتها على المنظور الإقليمي والعالمي.
فواقع «اقتصاد المدن» أصبح حقيقة لا يمكن إنكارها رغم كل ما تحمله من آثار سيئة. إذ ساهم تمركز الأعمال في السيليكون فالي على سبيل المثال في تطور المنطقة وازدياد حجمها بشكل كبير وهجرة السكان إليها، مما ساهم في خلق اقتصاد يعادل اقتصاد دولٍ كاملة. ليزيد نجاحها من جاذبية العيش فيها واستقطاب العقول والأفكار، حتى أصبحت السيلكون فالي قوة اقتصادية ضخمة.
وبالطبع أدى تطور المدينة إلى هجرة من المدن القريبة وتأثّر كثيرٍ من الأعمال والولايات بسببها. أي أن تحقيق نمو بهذا الشكل لا يمكن أن يأتي دونما آثار سلبية على المدن الأصغر. Click To Tweet
أدوات تنمية المدن الصغيرة
في اعتقادي، ثمة أدوات بالإمكان استخدامها لتخفيف الآثار السيئة على المدن الصغيرة. وفي نفس الوقت، تساعد على إبقاء مزايا جاذبة لها تضمن لها الحياة والاستمرار، ومن تلك الأدوات:
1- خفض تكاليف العيش في هذه المدن. فتخفيض تكاليف الخدمات العامة مثل الوقود والكهرباء والماء سيزيد من جاذبية العيش فيها. وهنا قد تصبح ملاذًا مناسبًا جدًا للعيش في فترة ما بعد التقاعد، وعودة الكثير من الموظفين في المدن الكبرى إلى مدنهم ومناطقهم التي ولدوا بها.
2- تقليل تكاليف ممارسة الأعمال. إذ لا يعقل أن تكون تكلفة ممارسة الأعمال من ناحية التكاليف الحكومية في الرياض مثلها مثل مدينة كعرعر أو بيشة. فلا حجم السوق ولا القدرة الشرائية متقاربة مع الرياض. والمفترض بالحكومة تخفيض تكاليفها على أي منشأة يكون مقر عملها في هذه المدن كمبادرة لزيادة الاستثمار فيها.
3- جذب المستثمرين في قطاع الخدمات الطبية والتعليمية. وذلك بهدف رفع مستوى الخدمات في المدن الصغيرة حتى تستطيع جذب السكان وتوفير مقدار معقول من التعليم الجيد والخدمات الطبية المناسبة.
التحديات أمام «استراتيجية الرياض»
هنالك عدة تحديات تواجه خطط نمو مدينة الرياض، منها القدرة على تلبية الطلب على المساكن، والذي سيتطلب تطويرًا عقاريًّا مبتكرًا. فمثلًا، هل ستستمر المدينة بالتوسع الأفقي؟
أعتقد أن الحل يكمن في زيادة عرض وتطوير المساكن العمودية والتوسع بها مع ابتكار منتجات عقارية ملائمة لهذا النوع من الطلب. بالطبع هنالك مشكلة توفير الخدمات العامة من كهرباء وماء وغيرها، وهذه خدمات ستتطلب من الشركات استثمارات كبيرة لتوفيرها.
وأيضًا من التحديات إثبات قدرة الرياض على المنافسة في مجال الأعمال. فمع زيادة التنافس عالميًا وإقليميًا، يصبح واقع هذه المنافسة أمرًا حتميًّا. وتراهن القيادة على تنافسية الرياض بما تملكه من حجم السوق وقوة الخدمات اللوجستية وتقارب الأعمال وتمركزها في مدينة واحدة. بحيث تصبح تلك العوامل مجتمعة المحرك لرفع تنافسية الرياض إقليميًّا وعالميًا، بل وحتى محليًّا.
فالرياض زادت من استقطاب الأعمال والكوادر البشرية من المدن الأخرى مثل مكة وجدة والشرقية. وصرنا نلاحظ الآن هجرة ملحوظة لرجال الأعمال والمكاتب نحو الرياض. من جهة أخرى، وحسب المخطط، يُعتزم أن تستقطب الرياض ما يقارب من أربعمائة إلى خمسمائة شركة أجنبية خلال العشر سنوات القادمة. نجحت خلال الشهور القليلة الماضية في استقطاب أكثر من أربع وعشرين شركة أجنبية منها.
بلا شك تشكل المدن الكبيرة اقتصادًا مهمًا اليوم، وحققت عدة أمثلة نجاحات كبيرة وإن كانت على حساب تنمية وتطور مدن ومناطق أخرى. لكن هذا هو حال اقتصاد اليوم وحال العولمة والتنافس. إذ ينبغي على الدول البحث عن زيادة تنافسية مناطقها والدفاع عنها.
ولعل من أفضل الأمثلة لدينا إقليميًّا مدينة دبي، كيف نمت وأصبحت من ضمن أهم المناطق الاقتصادية والسياحية؛ وقبلها المنامة التي ركزت على الخدمات المالية. واليوم يأتي الدور على الرياض لتصبح هي المركز الاقتصادي الأكبر والأهم في منطقة الشرق الأوسط.