عملي ليس مثاليًا، لكني راضية
فكرةً واحدة ساعدتني على إذكاء حماسي والاستمرار: أن أفعل الأشياء بصورة «جيدة بما فيه الكفاية» وأتوقف عند حدّ الرضا والقبول.
بعد تخرجي من الجامعة، عملت لعشرة أعوام متتالية ككاتبة مستقلة. لم يكن لديّ حينها تجربة وظيفية أتعلم منها وأشحذ أدواتي. بل كانت أشبه بمغامرة أخوضها وحدي وأتلمس فيها طريقي.
تعلّمت، من بين مهارات عدة، أن السرعة في تنفيذ المشاريع الكتابية وتغطية مهام متنوعة في وقتٍ قصير هي السرّ في الحصول على عملاء وفرص أفضل. وعبر تلك الأعوام، انتابني الإجهاد مرات عديدة، وداهمني الإحباط من حينٍ لآخر. لكن فكرةً واحدة ساعدتني على إذكاء حماسي والاستمرار: أن أفعل الأشياء بصورة «جيدة بما فيه الكفاية»، وأتوقف عند حدّ الرضا والقبول.
عوائق الإنجاز
نحرص ما استطعنا على تجنب الألم وصعوبات الحياة. وتظهر لنا هذه الصعوبات بأشكال متعددة، إما في مواقف جديدة أو تجارب صعبة أو عبر أي طريق نكتشفه للمرة الأولى بلا خارطة أو مرشد. لذلك، وبمجرد وصولنا إلى درجة معينة من الممارسة والكفاءة، نتوقف عن تجربة الجديد ونتحرك في منطقة راحتنا.
بقيت طويلًا في تلك المنطقة ولم أجد أي سبب يدفعني خارجها. لكن بعد عدة سنوات من السبات، اكتشفت أن منطقة الراحة سلاحٌ ذو حدّين وأن بقائي فيها مدةً أطول يعني امتناعي عن التحسن والانتقال إلى مرحلة جديدة.
لم يكن تطلّعي للمثالية مشكلتي الرئيسة في الإنجاز، وهذا الأمر تأكدت منه أكثر من مرة. فالمشاريع تبقى حبيسة ملف المسودات لأني ما أنفك أطور منها أو أضيف عليها. فبقاء مشروع ما قيد الإنجاز يجنبني مشاعر التوتر والقلق التي تعتريني حيال النقد أو طلبات التحسين والتعديل بعد إنجازه. أيْ ما دام الملف بين يديّ سأحميه وأحمي نفسي من أذى الرفض.
كنت أقول لنفسي: هذا مضحك، كيف تريدين المضي في حياتك الكتابية إذا لم تعطي نفسك فرصة التجربة؟
لم تكن المثالية دافعي لكنها أصبحت المعيار الذي أقيس به نقطة «جيد بما فيه الكفاية» الخاصة بي. أصبحت أرى بوضوح مكان تلك النقطة بين منطقتيْ «انعدام الإنجاز» و«تحقيقه بصورة مثالية». ويستحيل بلوغ المثالية مع معطيات الوقت ومحدودية مهاراتي.
مؤشر ضبط الوقت والجهد
المؤشر الأهم الذي أتبعه لأجل تحقيق الوصول إلى نقطة جيدة:
أن أيّ جهد أبذله على تحسين مهمة -بعد إتمامها- لن يجعلها أفضل، ولن يضرني التوقف عن المحاولة. بل يصبح التوقف إلزاميًّا في حالة الجهد الزائد الذي يعطّل وصولي للنقطة التالية أو يهدر وقتي ومواردي. Click To Tweet
الفكرة التي تزورني كلما حاولت شرح هذا المؤشر للآخرين هي عبثية غلي الماء مرتين. فعندما تغلي الماء لا يمكنه أن يذهب أبعد من نقطة الغليان، وإذا حدث وحاولت غليه لوقتٍ إضافي سيتبخر.
ككاتبة مستقلة، احتجت البحث في كثير من المواضيع للوصول لفكرة معينة، قضيت الساعات والأيام بحثًا عن قرية معزولة أو نوع محدد من الكائنات. بحثت أكثر من اللازم عندما كان الوقت كله إلى جانبي، لكن سرعة وجودة العمل في النهاية تأثرتا. ما الذي فعلته لاحقًا؟ بت أحدد مسبقًا عدد المصادر التي أعود إليها في كل عملية بحث. وهكذا مهما كان الاستمرار مغريًا، سأتوقف عند عدد معين وأنتقل فورًا للكتابة.
كان تحديد المصادر نقطة انطلاق لقيود أخرى ضبطت جودة عملي عند نقطة معينة. من بين تلك القيود تحديد موعد نهائي للتسليم واختيار مستشار أو اثنين فقط لقراءة نصّ ما وتقديم رؤيتهما حوله. وهكذا أصبحت المنطقة التي أطمح للوصول إليها هي «انتهيت» عوضًا عن «ما زال هناك المزيد من العمل».
هل ثمة معيار موحّد للرضا؟
عندما أقول لأحدهم عليك التفكير في نقطة «جيد بما فيه الكفاية» خاصتك، أستخدم مصطلحات من قبيل: مقبول ومُرضٍ وملائم. لكن ذلك ينقلنا لمزيد من الأسئلة والحيرة. فمَن يحدد معايير الرضا والقبول مع ملايين البشر والمشاريع والأفكار؟ والإجابة الوحيدة هي: أنت من يحدد ذلك.
لكن لا يعني ارتباط إنجازي بنقطة مقبولة أو مرضية أن أختار العمل بالمعايير التي تناسبني فقط. فقد اصطدمت كثيرًا بمعايير تقييم مختلفة، وهذا طبيعي ومقبول. وأحيانًا أجد نقطة «جيد بما فيه الكفاية» خاصتي أقل من المطلوب، ولن توصلني للتقييم الختامي الناجح.
إن تغير الظروف والمشاريع والعملاء محتمل دائمًا، وانتباهي لهذه التفاصيل دفعني للتجرؤ ولطرح الكثير من الأسئلة كل مرّة: هل تريد هذا المشروع في وقت قياسي وجودة منخفضة؟ ما الهدف الذي تودّ تحقيقه من هذا النص؟ هل الجودة هي الشيء الذي لا ترغب في التنازل عنه؟ إذن أتمنى أن تصبر على مسوداتي المتتالية وشكوكي الشخصية حتى أصل إلى نقطة الرضا خاصتي.
منصة التتويج الشخصية
قبل عدة سنوات تعرّفت على مصطلح «أقل جرعة مؤثرة» (Minimum Effective Dose) وغيَّر حياتي. علّمني الجمع بين هذا المصطلح وتطبيقاته في الحياة والعمل بالجودة الكافية متى أتوقف وكيف أركز على صحتي النفسية وطاقتي.
«أقل جرعة مؤثرة» هي جرعة العلاج التي تقدم للمريض ويلاحظ تأثيرها على صحته. يمكن أن تكون في حالتي الاكتفاء بقراءة صفحة واحدة من كتاب في الأسبوع بدلًا من الانقطاع التام عن القراءة، أو التحدث مع صديقة لعدة دقائق على الهاتف كل عدة أيام، أو مراجعة نصّ قبل نشره مرة واحدة بدلًا من ثلاث.
وهكذا، على مرّ الأعوام، تصالحت مع نقائصي التي لا يمكنني التخلص منها بمعجزة، وبدأت العمل عليها وتحسينها بالتدريج. أزيد من سرعتي هنا وأجوّد مهاراتي هناك. واليوم أستخدم عامل الوقت كضابط للعمل وجودته، وأمتنع عن مقارنة نفسي بالآخرين سواء كانت المقارنة حيال سرعة إنجازهم أو جودة عملهم.
قد لا يكون عملي مثاليًا لكنه أصبح جيدًا ومرضيًا لي. فأنا أركز على مضماري الخاص والوقوف على منصة التتويج في نهايته، حيث أستحضر بكثير من الحبّ قولًا للروائيّ ليو تولستوي: «إذا كنت تبحث عن الكمال؛ فلن تكون راضيًا أبدًا».