بعد نجاتي من انفجار مرفأ بيروت
كنت ممتنًا لبقائي على قيد الحياة بعد انفجار مرفأ بيروت ودون خسائر مباشرة. لكني كعشرات الألوف ممن خبروا الانفجار أظلُّ ضحية وإن نجوت.
كنت أحضر نفسي لاجتماع على زوم مع منظمةٍ تابعة للأمم المتحدة حول موضوع يخص النسيج الاجتماعي في سوريا، حين سمعت صوت انفجار ترافق مع اهتزاز بسيط وصراخ من الشارع.
اقتربت من نافذة غرفتي، أبعدت الستارة بأطراف أصابعي ليأتي الانفجار الثاني. زجاج الأبنية المجاورة تساقط، شقتي في الطابق السادس وكأنها أزيحت من مكانها مسافةً مهولة قبل عودتها إلى حيث كانت، أضواء الغرفة اضطربت والمصباح المثبت إلى حافة مكتبي سقط أرضًا. استدرت لأجد لارا، قطتي، مذعورة على نحوٍ لم أره من قبل.
مشاهد الصدمة الأولى
لأجزاء من الثانية، لم أكن واثقًا بأن البناء سيبقى متماسكًا، بأني سأبقى على قيد الحياة. وفي بلد كلبنان، مع كل تاريخه المعاصر وكل الاحتقان السياسي الذي يعانيه، لم أشكّ للحظة أنه اغتيال بسيارة مفخخة، وفورًا تبادرت إلى ذهني صورة مسرح اغتيال رفيق الحريري.
ارتديت حذائي الرياضي على قدمين عاريتين، استللت كامرتي بحسّ الصحفي وقفزت على الدرج متجاهلًا المصعد. وتواصلت -في الوقت عينه- مع أخي في فرنسا كي يطمئن أهلي، فعادة أبي قضاء وقته متقصيًا الأخبار من نشرة إخبارية إلى أخرى: «انفجار كبير في بيروت بجوار منزلي، اغتيال، أنا بخير، طمئن الأهل.»
وصلت الشارع لأجد الزجاج منتثرًا عليه هنا وهناك. تفحصت السماء من زوايا متعددة بحثًا عن عمود دخان دون جدوى، سيارات الإطفاء والإسعاف تهرع يكاد لا ينقطع مرورها. الأخبار على الهاتف جاءت متضاربة لكن كلها تفيد بانفجار في منطقة بعيدة نسبيًا. الانفجار الحقيقي وقع في العنبر «اثنا عشر» في مرفأ بيروت على بعد ثلاثة كيلومترات كاملة من المبنى الذي أقطنه.
عدت إلى شقتي، لأكتشف بعد نصف ساعة -من الصور التي بدأت تتوارد- هول ما حصل، وأدركت أنني لن أستطيع المكوث حيث أنا. كنت مضطربًا وفي أمسّ الحاجة إلى الخروج، لكني شعرت بغياب لارا. فبحثت عنها طويلًا في شقتي الصغيرة، قبل عثوري عليها حاشرةً نفسها في الفراغ الضئيل بين أسفل الأريكة وأرض الغرفة. وبعد عناء أخرجتها، ورحت، أنا القلق، أحاول طمأنتها.
حيوانات منزلية كثيرة فُقدت إثر الانفجار، وعلى مثال أصحابها، منها من عاد ومنها من أصيب ومنها من قضت عليه الكارثة. Click To Tweet
الانفجار والخسائر النفسيّة
بينت الأيام التالية، لا سيما كلما حاولت الخلود إلى النوم، أن صحتي النفسية، أنا وعشرات الألوف ممن خبروا الانفجار، ليست على ما يرام. أنا ممتن على بقائي حيًّا دون خسائر مباشرة، لكن هذا لم يكن كافيًا، الصدمة لم تكن عادية.
ففي لحظة أعادتني الصدمة إلى بيت أهلي في حلب، البيت الذي تركته عام 2000 لأنتقل إلى بيروت، وآخر مرة زرته كانت عام 2011. البيت ذاته الذي قضوا فيه سنوات المعارك وسقوط القذائف العشوائية. كان خط التماس يبعد مئات الأمتار ليس إلا. وحدث لمرة أو أكثر أن مهد مسلحو المعارضة -بقصف عشوائي بقذائف الهاون وعبوات الغاز- لهجوم أكبر يهدف إلى كسر خطوط النظام. وكل مرة كاد القصف يصيب منزلنا وأهلي فيه.
ومع كل قصفٍ كانت الأخبار تأتيني، فأتصل لأطمئن على عدم إصابتهم وعلى سلامة المنزل وإن كانوا يحتاجون شيئًا. أعرف أن عاقلًا لن يكون سعيدًا بتجربة ما عاشوه، لكني لم أنتبه يومًا إلى صحتهم النفسية في ظل ما يعايشونه. إذ اختصرتُ إنسانيتهم، ودونما وعي مني، بالاطمئنان ألّا إصابات نالت منهم، وألّا خسائر نالت بيوتهم وممتلكاتهم المادية وحسب.
والحال ذاته مع الجهة الثانية للمدينة، القسم المحسوب معارضًا، حيث موقفي وقلبي وعقلي، وحيث قصف النظام على المدنيين أعظم وأفتك وأكثر تدميرًا بما لا يقاس مقارنة بما عاناه أهلي وجيرانهم في قسم المدينة الواقع تحت سيطرة النظام. لم أفكر بعد كل جولة قصف وتدمير إلا في سلامة المدنيين الجسدية وبقاء منازلهم المتواضعة تأويهم وتقيهم شر التشرد والنزوح.
جاء انفجار مرفأ بيروت ليهزني من الداخل ويكشف لي ضعفي، أنني في أي لحظة قابلٌ للانهيار. وجاء ضربةً مستحقةً لتكبّري الخفيّ و«أناي» المتعاظمة، التي قد تتقبل المرض الجسدي الأسهل فهمًا، وتستثني ذاتها من احتمال الضعف النفسي، وكأنه مرادف للضعف والفشل.
كشف لي كم كان تعاطفي وفهمي لما عاناه ويعانيه أهلي وغيرهم الكثيرون، المعارضون والموالون على أطيافهم في حلب وسواها، تعاطفًا جاهلًا وقاصرًا.
شعبٌ بائس في بلدين
«شعبٌ واحد في بلدين» كانت هذه دعاية البعث السوري الذي احتل جنود نظامه لبنان لعقود. ومع شيءٍ من السخرية المريرة، يعود الشعار إلى ذهني اليوم: شعبٌ بائس مغلوبٌ على أمره، شعبٌ واحد، في بلدين مدمرين. إذ حتى في انفجار مرفأ بيروت، كان للسوريين حصة كبيرة، عشرات من الضحايا بين قتيل وجريح، من سكان منطقة الكرنتينا المجاورة للمرفأ أو عمال في محلات الجميزة ومار مخايل أو حتى مجرد عابري سبيل.
كانت عادتي الخروج للمشي في شوارع الحي الذي أسكن فيه، مشيٌ أحرك فيه جسدي بعد تصلّب الحَجْر، بعد ساعات عمل من المنزل تجاوزت اليوم السنة، فأحسّن مزاجي وأتجنب ضمور العضلات. وفي ساعة المشي ألاحظ كم غدا شارعي الشهير بحياته الليلية ومطاعمه وحاناته ومقاهيه كئيبًا، بل ومخيفًا دون إضاءة بسبب التقنين المكثف الذي يشهده البلد.
بعد الانفجار بأيام، وأثناء سيري في الشوارع المظلمة حدَّ خشيتي التعثر فيها، فجأة، استحال الخوف هلعًا حين تذكرت أن أهلي والملايين غيرهم عاشوا هذه الكآبة والبؤس القابضيْن على القلب، على مرّ سنوات وسنوات، وها أنا لا أكاد أحتملهما لأيام.
أعرف كم أنا متخفف من همّ وجود عائلة أكون مسؤولًا عنها في ظروف سيئة كهذه، حيث يتغير سعر الليرة يوميًا وتفقد قيمتها بتسارع مذهل ومخيف. في حياة من القلق اليومي والتفاصيل المعيشية التي يجبروننا على الغرق فيها دون انتباه، بينما تحفر كلها بصمتٍ في جدران النفس، في شعوري الواهي بالأمان والاستقرار والقدرة على الاستمرار.
وتذكرني، مرة أخرى، بضعفي وبما يعانيه مواطنو البلد حيث أقيم، ومواطنو بلدي ما وراء الحدود. الحدود التي سيقودني عبورها إلى الموت تحت التعذيب أو تمني الموت في معتقل أمني دون رفاهية الحصول عليه.
من «خبر عاجل» إلى مجرد «رقم»
أظنني، وكالعادة، أصبت لارا بالعدوى. أصبتها قبلًا بعدوى الوسواس وإبعاد الآخرين عني رغم ثقل الوحدة، وهذه المرة نقلت لها عدوى القلق والضعف. لم تعد كما كانت، أو ربما ببساطة أصابها تأثير الانفجار مباشرة كما أصاب كثيرين، لم تكن حتى بحاجة إلى التقاط العدوى مني.
أصبحت أكثر حساسية، تستيقظ عند أدنى حركة مني، وإن كانت مستيقظة تقفز من مكانها. صارت كما نقول في اللهجة العامية: «قاعدة على أعصابها».
ما يعزي النفس ويخيف العقل في الوقت عينه حقيقة أن هذا الجحيم اليومي -الشبيه بالرمال المتحركة- محصور في بلدينا البائسين. أما هناك، في الخارج، فثمة حياة «طبيعية»، طبيعية أكثر بكثير، بقدر ما يسمح كوفيد بذلك. حيث الآخر يتابع مجريات أخبارنا دون أن تصيبه شظاياه.
أعود بالذاكرة، إلى مطلع إطلاق النظام حملته الأمنية والعسكرية على الشعب السوري، وتوالي سقوط ضحايا وحشيته حتى أصبحوا مع التكرار مجرد رقم على الشاشات، تذكرت طفولتي، وكيف غدا الفلسطينيون من قتلى وأسرى ومهجرين على يد الجيش الإسرائيلي مجرد رقم. ولو وقع انفجار بيروت في مرفأ آخر في مدينة لا أعرفها، أما كنت سأرى الضحايا، دونما قصد مني، مجرد أرقام؟ خبر عاجل مهما بلغت مأساويته فلن تتجاوز دورته الإخبارية بحدها الأقصى عدة أيام؟
ثمانية شهور وأنا عالقٌ في دوامة الكآبة والقلق والعمل دون إنتاجية تذكر. لكني اليوم، وفي السعي للخروج من المستنقع، أراها محطة للتأمل والتفكر في الكيفية التي توفر فيها مأساتنا التي نعيش فرصة للتفكير بالآخرين، قريبين وبعيدين، والإحساس صدقًا بمعاناتهم الماضية والحاضرة.
إحساسٌ يعيد إليهم إنسانية يستحقونها، وجردوا منها دون أن يشعروا. إحساسٌ يقود إلى فهم أفضل، لا تبرير، حتى لمواقف الطرف الآخر وسلوكياتهم، ما قد يؤسس لتعاطف أفضل وأصدق وتضامن ضروري وأكثر فعالية مع الآخرين، وحتى مع نفسي.
حتى وإن نجوت من الانفجار
قد أكون ضحيةً من ضحايا ما جرى ويجري في سوريا، وما حدث ويحدث في لبنان. أقصد أني ضحية بالتعريف، فأنا غير قادر على العودة إلى البلد الذي أحمل جنسيته بسبب موقفي السياسي والثورة والحرب. وعليه تغير حاضري ومستقبلي، بل لربما أصبحت ما أنا عليه الآن بسبب ما جرى ويجري.
لكن، في الكفة الأخرى من ميزان التقدير، أنا ناجٍ ومحظوظ. إذ شهدتُ المأساتين وعايشتهما عن قربٍ كافٍ، لكن دون أن تطال نيرانهما جسدي أو بيتي. لكن بعد التجربة والاختبار، أدرك بعيدًا عن أي تعريف نظري أو أكاديمي أو تصنيف عفوي، أنني ضحية وإن نجوت. وهذه حال كل من بقي حيًا أو لم يهجر من بيته رغم الحرب في سوريا ورغم الانفجار في بيروت.
وما تعلمته من نجاتي سأطبقه في المصيبة القادمة، فسلسلة المصائب لن تنتهي عن قريب. ويومها، سأحاول تجنب تصنيف الضحايا على أساس الأضرار الظاهرة التي أصابتهم. فالإصابات الظاهرة ناطقة، أما تلك النفسية فبَكْماء. الأولى قد تكون أسهل علاجًا رغم كل الصعوبات، أما الثانية فتدفع بنا نحو موتٍ صامتٍ وبطيء.