القبيلة في تأبين الشعر
«الشعر لا يموت بهدوء،» تقول الشاعرة سي دي رايت في كتابها «فورة الدم» (Cooling Time)، «إذ لزامٌ عليك تجويعه، وللشعر.....
كان في الرابعة عشر من عمره حين قرر التسلل إلى مكتبة أبيه المقفلة وسرقة كتبها، واحدًا واحدًا، كي يقضي ساعات اليوم الطويلة من الضجر. كل الكتب أعادها خلسة، إلا كتابًا: ديوانٌ شعريّ. وعلى خلاف معظم الكتب كان مهترئًا، تنقصه صفحات، مع ذلك تعلّق قلبه به.
يوم وجد أبوه الكتاب في حقيبته المدرسية انهال عليه ضربًا. لكن ليس الضرب المبرح ما صدم الفتى يومها، بل معرفته أنَّ الديوان الشعريّ ديوان خاله، بل أنَّ المكتبة بأسرها تعود إليه؛ إرث خاله القليل الذي تُرِك بوفاته المفجعة في عُمر التاسعة والعشرين. والصدمة أنه لم يعرف أصلًا أنَّ رياض الصالح الحسين خاله.
هذه الحادثة أطلقت رحلة سيخوضها عماد نجار من عمر الثامنة عشر، حين سيترك بيت أبيه، ويقضي سبعة عشر عامًا بحثًا عن رياض الصالح الحسين، محاولًا تقفيّ أثره وجمع أعماله.
«الشعر لا يموت بهدوء،» تقول الشاعرة سي دي رايت في كتابها «فورة الدم» (Cooling Time)، «إذ لزامٌ عليك تجويعه، وللشعر أن يقتات على أقل القليل.» قارئٌ واحد يكفيه.
إن بحثت عن معنى الفعل «أبَّن، يؤبن، تأبينًا»، ستجد من معانيها معنيين: أثنى عليه بعد موته، لحق به وتتبع أثره. إذن المؤبِّن لا يرثي فحسب، بل يقضي أعوامًا باحثًا عن أثر. ولكل شعرٍ يموت صاحبه، يُتْرَك للنسيان قارئٌ مؤبِّن لا يكتفي فقط بالقراءة. لكن ليس كل قارئ مؤبنًا، فكما الشعر بين صنوف الآداب، للمؤبن طبيعته الخاصة بين القراء.
في أثر بسام حجار
كان يتصفح أنطولوجيا الشعر اللبناني على الإنترنت حين وقعت عيناه على نصوص شعرية قليلة شدّته وتركت في قلبه «جرحًا لم يندمل، الجرح الذي يفتحه الشعر ليدخل النور إلى الروح.» هكذا يصف الشاعر علي محمود خضيّر لقاءه الأول- قارئًا – بالشاعر بسام حجار عام 2008.
حينذاك حاول البحث عن كتبه في مكتبات العراق، وفوجئ بالمشقة الكبيرة. فبسام حجار ما كان بالشاعر الذي يعير بالًا إلى سوق الكتب، ولا كان يعنيه سباق أرقام القرّاء. فظنّ علي خضيّر أنّه إن لم يجد دواوين بسام حجار في العراق، فلا بد سيجدها في موطنه لبنان، فكان يوصي كل صديق ذاهب إلى بيروت بالبحث عن دواوين حجار، لكن دائمًا ما يعود الصديق خالي الوفاض.
«لم أترك أثرًا، لذلك لن تهتدوا إليّ. محوتُ وأنا أمشي الطريقَ، تتقدم من أمامي وتتلاشى من ورائي.» يستذكر علي خضيّر نص «مهن القسوة» الذي كتبه بسام حجار تعبيرًا عن مشقة بحثه عن الدواوين، بعضها من الندرة بمكان كما لو أنَّ بسام حجّار «تعمّد محو أثره».
لكن ليس بسام حجار من تعمد محوها، بل عدم تعنّي دور النشر جمعها وإعادة طباعتها، كون الشعر بضاعة غير مربحة. مع ذلك، لم ييأس علي خضيّر لدى اختفاء الأثر، فمضى في مختلف الاتجاهات محاولًا التقاط أثرٍ جديد.
تراسل مع العشرات من معاصري بسام وأصدقائه. سافر من البصرة إلى بغداد حين علم بوجود ديوان «مشاغل رجل هادئ جدًا» في دار الكتب والوثائق الوطنية حيث نسخه. ومن الدواوين الشحيحة ما ارتحلت عبر الباخرات وقطعت الحدود حتى تصل إلى يده. ومع ذلك ليس كل ما كتبه بسام حجار وصل إليه.
بعد عشر سنوات من تقفي الأثر وجمع عظام الشعر، قرر علي خضيّر أن يودعها في جسدٍ جديد، وحتى يكتمل الجسد كان لا بدّ من تقفي الأثر حتى آخره. فتواصل مع السيدة نجلاء محمود، فمنحته بكل النبل البقية الباقية من شعر زوجها. Click To Tweet
في عام 2019 نشرت المجموعة الشعرية الكاملة لبسام حجار. وفي عام 2019 بدأتُ قراءتها.
سارق ديوان رياض الصالح الحسين
ما الذي يدفع قارئًا إلى كل هذا العناء؟ ما المنطق النفعيّ وراء رحلة كهذه؟ تجيب سي دي رايت على هذا السؤال.
لزامٌ علينا أن نفعل شيئًا بوقتنا المحدود في هذه الدنيا المتبدلة حظوظها لدافعٍ غير المال. فالقوة ليست البديل المقبول. حتى أني مستعدة للبرهنة على أنَّ الشغف ما يفصلنا عن المخلوقات الأخرى- أي أنَّ ما تفوق قوانا المنطقية قدرتُنا على الفرار من صحراء المنطق الكليّ بأداته الرئيسة ذاتها: اللغة. فإن كان الشعر ما يصيّر الكلمة جسدًا، فمثلنا إذن لا فرار لتلك الكلمات من أجسادها. لكن أيضًا، مثلنا، هي حرّة في السعي إلى حريتها.
كان مهدي محمد علي في زيارة إلى دمشق، وبعد عدة أيام افتقد وجود صديقه في المقهى حيث اعتاد الالتقاء به، وكذلك في مكتب المجلة حيث يحرر. وعند سؤاله أصدقاء صديقه عنه، دون إجابة، قرر الذهاب إلى غرفة صديقه الصغيرة الضيقة حيث يقطن، وهناك وجده ملقىً على مشارف الموت، يرجو شربة ماء.
عصر اليوم التالي، السبت، العشرين من نوفمبر 1982، توفي الشاعر رياض الصالح الحسين في مستشفى المواساة في دمشق. ركبٌ من عشر سيارات ضمت أصدقاءه- من ضمنهم مهدي محمد علي- حملت جثمانه البارد إلى مسقط رأسه في بلدة مارع. وفي بلدته الأم، استقبلهم أهل رياض في عزاءٍ أبرد. وبعد أن دفن، رافقهم الأب طالبًا الذهاب إلى غرفة ابنه حيث راح ينقب فيها، يتلقّط ما تركه من مال أو أغراض مادية.
مهدي محمد علي، في وجوده الأخير في غرفة صديقه، في غمرة اضطرابه، حدسٌ يتملكه وخلسةً يفتح الجارور ويحرر مخطوطة ديوان رياض الصالح الحسين الأخير، ويهربّها خارج الغرفة خشية عليها من مصير الكثير من الشعر عبر التاريخ: الحرق.
بعد عام صدر الديوان، يحمل عنوان «وعلٌ في الغابة». وبعدها بعشرة أعوام، سيسرق عماد نجار هذا الديوان من مكتبة أبيه المقفلة في بلدة مارع.
وبعد عماد نجار بثمانيةٍ وعشرين عامًا، بدأتُ قراءة الديوان ضمن مجموعة الأعمال الكاملة لرياض الصالح الحسين.
الشعر إيمانٌ في الكلمة
تستهل سي دي رايت كتابها بـ«افتتاحية اعتراضية» على الرأي السائد حول الشعر (Op Ed). افتتاحية تجسد قوة القصيدة وقدرتها على النجاة في أحلك الظروف، وتجسد كذلك ما يؤمن به القارئ المؤبِّن.
أؤمن بالفن العنيد، أؤمن بالممارسة المطّردة المتعجرفة لإيمان المرء بالكلمة وفق شروطه المستعصية على التغيير. أؤمن بأنَّ الكلمة خلقت منذ البدء طيبة؛ وتظل طيبة حتى اللحظة. أؤمن بأنَّ الكلمات من ذهب مثلما الطيبة من ذهب. ولا شعر يثنيني عن قراءته مفرطًا كان في الإبهام أو مفصحًا لا حاجة به إلى تأويل. فأنا أسعى إلى الشعر على كل مقامات السلم الموسيقي وتجذبني الأضداد على طرفي النقيض.
أؤمن بأنَّ الكلمة التي يساء استخدامها تشوّه العالم. أؤمن بالفيصل بين الحق والباطل. وأرى أنَّ صور الشعر المتناقضة ينبغي لها- بل لزامٌ عليها- التعايش دون أن تعيق إحداها الأخرى. ففي اختلافها لا تضمن فحسب وجودها مقارنةً بالآخر- وجودًا ما كان ليكون في غياب الآخر- بل تضمن بقاء التنوع في جموع أنصار الشعر، على صغر أحجامها المؤسف.
وأؤمن، فوق كل شيء، بمقاومة الشاعر دافع النهائية الحاسمة في كدحه على إكمال قصيدته. أؤمن بالأذى البليغ لذعر الشاعر من احتمال تجاوز الآخرين لقصيدته، هذا الوهم الذي تفّه القصيدة إلى فرس سباق. وأعلن خلافي الأخلاقيّ الوحيد مع الشعراء الشتّامين اللعّانين مَنْ غايةُ شعرهم الريادة على الآخرين.
ثقوب قلب ستانفورد السوداء
كان الثلج منهمرًا تلك الليلة في ولاية أركنسا. كانت جالسة على الأريكة وإلى جانبها ملفان بنيان ضخمان من أوراق الكربون الصفراء تقرأ فيها قصيدة من خمسة عشر ألف سطر. توقف هطول الثلج ومرَّ الشاعر عليها، إذ كان جارها، وتمشيا قبل أن يودعها، دونما يحصل منها على رأي عن مخطوطة قصيدته الموكلة بتدقيقها.
لو لم تكن خجلى، لأخبرته سي دي رايت عن تمنيها الموت الآن، حتى تكفّن بأوراق تلك القصيدة.
نشرت قصيدة «ساحة المعركة حيث القمر يقول أحبك» (The Battlefield Where the Moon Says I Love You) عام 1977، ولاقت انتقاد التقليديين ممن رأوا في قصيدة فرانك ستانفورد كسرًا للأعراف، في رفضها الالتزام بالنظم وفرط الحريّة في كلماتها.
مساء يوم ما، في الصيف التالي، شبَّ عراك بين فرانك ستانفورد وزوجته. في فورة دم، هرع ستانفورد إلى غرفة نومهما وتناول مسدسًا من الخزانة، صوّب فوهته إلى قلبه، وثلاث رصاصات متلاحقة اخترقت صدره. سي دي رايت كانت هناك، وبيديها حاولت إيقاف دم يفور من صدره بين أصابعها. الأصابع ذاتها التي طبعت بها قصيدة ستانفورد بعد أن صححت مئات الأخطاء وغفلت عن مئات.
الكثير الكثير قيل عن موسيقية الشعر، والقليل القليل عن وجوده الماديّ. عن كنهه الصلب لدى كتابته، كنهه الملموس، حدًّا يترك دمغته على أطراف الأصابع. لمستُ الكثير من الأشياء الممنوع لمسها: اللوحات خلف الحبال المخملية الحمراء، سياجٌ كهربائي، خزنة المكتب الحديدية، مسدسٌ في جارور، مال أخي المطويّ، الثقوب السوداء في قلب الشاعر، من حيث فارقته الحياة.
بعد وفاته، أشرفت سي دي رايت على توزيع النسخ في المكتبات. بعد أعوام، حاولت إنقاذ مئات النسخ المتبقية- إثر ضعف المبيعات- في سرداب مطبعة في أركنسا لدى هبوب عاصفة مطرية، وبعد رحلة بالسيارة من سان فرانسيسكو وجدت النسخ كلها تالفة. وفي جامعة براون، قدمت مادة «القصيدة الطويلة»، فقط حتى يتسنى لها فرصة تعريف القلة بقصيدة ستانفورد.
عام 2000، أعادت نشر القصيدة. وفي 2008 نشرت الطبعة الثانية. وفي 2021 بدأتُ قراءتها.
قبيلة الشعر
«الشعر قبليّ وليس ماديّ» كذا تصف سي دي رايت كَنَه الشعر:
أي يوقد النار ويبقي عليها مشتعلة. صدقني، ههنا ستنال الدفء ثانية، ههنا ستتعرى من كل شيء. ههنا حيث تتذكر الأوقات الطيبة والسيئة؛ حيث يمنع عليك نسيان الأسوأ، لأنك إن نسيت فلن تُشفى. هنا حيث للذاكرة أن تكون دقيقة- حيث أنت وذريتك تتحملون مسؤولية كل ما صنعته أيديكم وكذلك تنالون الصيت الحسن. وفي يومنا هذا، لا سيما على أرضنا فاقدة الذاكرة، فالشعراء هم الرحالة، الحريصون أبد الدهر على ألا تزوغ الكلمة عن جسدها.
نار الشعر المشتعلة هي التي تجذب القارئ المؤبِّن إليها، فلا يراها في البدء سواه. فيرتحل على الطريق يقتفي أثر الشاعر في الرمال لا وصولًا إليه، بل وصولًا إلى الكلمة، إلى الكلمة التي دمغت أثرها في روحه. وما إن يصل إليها لا يستأثر بها لنفسه، بل يحمل المهمة على عاتقه بأن يجعل من تلك النار مرئية أمام أعين كل القراء، عالمًا تمام العلم أنَّ القلة وحسب من ستتحلق معه حولها.
لكن في قبيلة الشعر، على خلاف كل صنوف القبائل، تكفيها القلة حتى تتوهج نارها وتحافظ على وجودها مدى الحياة.