بحر الإنترنت وأمواج الميمز

ولسنا بحاجة إلى عناءٍ أو بحث لنستمتع بردات أفعال طريفة حول ما يحدث بعالمنا. فهي تظهر أمام أعيننا أينما اتجهنا في العالم الافتراضي، فبحر الإنترنت هائج بأمواج «الميمز»....

أتساءل أحيانًا: كيف ستبدو كتب التاريخ المدرسية في المستقبل؟ بم ستمتلئ  صفحاتها من الواقع الذي نعيشه اليوم؟ هل ستغطّيها صورٌ من تغريدات أم لقطاتٌ من فيديوهات نشرها مستخدمو الإنترنت؟

لا شكَّ أن مشاركتنا وتفاعلنا عبر الإنترنت أصبح جزءًا لا يتجزأ من واقعنا، إن لم يصبح واقعنا كله. ولسنا بحاجة إلى عناءٍ أو بحث لنستمتع بردات أفعال طريفة حول ما يحدث بعالمنا. فهي تظهر أمام أعيننا أينما اتجهنا في العالم الافتراضي، فبحر الإنترنت هائج بأمواج «الميمز». لكن ما علاقة الميمز بالتاريخ؟

تاريخ «الميمز»

مفهوم «الميمز» ليس بجديد، بل له جذور قديمة ترجع إلى عصر ما قبل الإنترنت. إذ اقترح المؤلف ريتشارد دوكينز المصطلح «meme» في كتابه «الجين الأناني» عام 1976، في محاولة لشرح تكاثر الأفكار وتحولها.

ووصف الميم بأنها «جين ثقافي»: وحدة تنقل معلومات من شخص لآخر عن طريق التقليد. فعلى سبيل المثال، محاكاة القرد لتصرّف قردٍ آخر قد يُعدّ «ميمًا» لأنها تؤدي إلى تقليد تصرف ومن ثم انتشاره.

وكذلك الحال مع نقل الأفكار عن طريق صور أو رسومات ساخرة متى ما أصبحت مقلَّدة ومنتشرة لدلالتها الثقافية. 

فالرسومات الكاريكاتيرية التي نشرتها المجلة الأميركية «جج» (Judge) عام 1921 خير مثال على ذلك، فهي تشبه الميمز التي نراها اليوم إلى درجة كبيرة. حيث صُوّر في الرسومات شخص ذو مظهر مرتّب وجذّاب يقف أمام كاميرا لتلتقط صورةً له، بيد أنّه في الواقع يبدو مضحكًا مبعثر الشعر.

أحد الرسومات الكاريكاتيرية التي تنشرها المجلة / The Sun

أثارت الرسومات إعجابًا واستغرابًا لدى بعض المغرّدين الذين علّقوا على ملاءمة تلك الرسومات حتى بعد مرور حوالي مئة سنة.

وجدير بالذكر هنا تشابه تلك الفكرة لما نراه اليوم من ميمز «التوقعات مقابل الواقع» أو «Expectations vs Reality»، التي بدأت تنتشر في 2010 وبلغت عددًا لا يُحصى من الصور والمقاطع.

الكاريكاتير والميم في فضاء الإنترنت

ولعل «الكوميكس» أو الرسومات الكاريكاتيرية التي بدأ نشرها في المجلات العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر تبلورت هي الأخرى إلى الميمز التي نراها على الإنترنت اليوم، ووجدت لها بحلتها الجديدة حيزًا في العالم الرقمي.

يظل العنصر المشترك بين الميم وكاريكاتيرات المجلات العربية وجود صورة مع نص قصير، لكن الهدف تغير تمامًا مع تغير الوعاء الذي ينقل تلك الصور.

فبينما كانت مجلات مثل «روضة المدارس» تنشر القصص المصوّرة للأطفال بهدف التعليم، صار هدف الميم تقليد فكرةٍ ما لأنها ساخرة وتثير عواطف من يراها.

العلاقة بين الكاريكاتير والميم غريبة. ولعل أغرب مثال ما انتشر في أرجاء المنتديات عن «السحالي» و«التماسيح». حيث شاعت تسمية البنات بالسحالي والأولاد بالتماسيح، ودارت المقارنات بين الفريقين بدءًا من 2007. وانتشرت ميمز بدائية تقارن عادات التماسيح الفوضوية بالسحالي اللاتي يتمتعن بالجمال والنظافة.

وظهرت منتديات السحالي «ضد التماسيح» على أيدي فتيات يطالبن بحياة سعيدة دون الذكور. تفوح تلك المنتديات برائحة مراهقة الإنترنت ومستخدميه، وذكريات مرحلة يبدأ فيها الأولاد الضحك على البنات والعكس.

على أن أغلب تلك المنتديات أصبحت مؤرشفة، يظل الكاريكاتير «ألف مبروك “تمساح”!» المنشور بجريدة الرياض يخلّد هذه الميم إلى الأبد.

الميم الأول «الطفل تشا شا»

ثم جاء الإنترنت ليعيد تعريف الميم كليّةً ويحطّم كل ما عرفه العالم سابقًا عن انتشار الأفكار وتحولها.

الكلمة في ذاتها لم يرتبط استخدامها بالإنترنت إلا مطلع التسعينيات حينما عرض المحامي الأميركي مايك جودوين مفهوم ميم الإنترنت. ومذ ذاك  أصبحت تُعرف بأنها صور أو مقاطع فكاهية مقترنة بكلمات أو عبارات.

تلا اقتراح هذا المفهوم ظهور مقطع ثلاثي الأبعاد لطفل يرقص سُمّي بـ ( (Baby Cha Cha «الطفل تشا شا». وسرعان ما انتشر المقطع عبر المنتديات والبريد الإلكتروني وحتى التلفاز ليصبح نقطة مفصلية في تاريخ الميمز، وما نعرفه اليوم كأول ميم انتشرت على الإنترنت.

رؤية هذا الطفل الافتراضي الراقص على يوتيوب اليوم غريبة للغاية، لكن في حينه مثّل إمكانات مشوّقة لما يمكن إنشاؤه ومشاركته عبر اختراع الإنترنت الجديد. والأهم من ذلك، فتحت هذه الميم احتمالات غير محدودة للتعليق والمشاركة وربطها بما تمر به في حياتك اليومية.

 فهل كان ذاك الطفل الراقص بحركاته الغريبة مثار ضحك فحسب، أم خفّف عن أحدهم ضغوط الحياة وأتاح له أن يمزح ويتنفّس قليلاً قبل العودة إلى الواقع المُتعب؟

أو لعل مجموعة من الأصدقاء شبّهوا هذه الميم بشخص يعرفونه فتشاركوا المقطع سرًّا ليسخروا منه؟ أو هل انتشر المقطع لتمتعه بميزة تغيير موسيقى الخلفية، فتخرج ميم جديدة للعالم؟ 

تصعب معرفة جميع الأسباب التي كوّنت نجاح هذه الميم، لكنها كلها مواصفات تصنع من الميم رمزًا ثريًّا، ولغةً خاصة بجيل الإنترنت.

لكل عالم أعلامه ونجومه، وتزخر صالة مشاهير الميمز بنجوم عدّة، كُتب لبعضها الصيت والشهرة إلى يومنا هذا، وتلاشت أخرى هباءً منسيًّا. وهكذا، بعد صعود الطفل الراقص إلى الشهرة، جاء «الضفدع بيبي» (Pepe the Frog) ليحتلَّ مكانه.

كيف تحول «الضفدع بيبي» من ميم إلى رمز كراهية؟

أنشأ رسام الكاريكاتير الأميركي مات فوري شخصية بيبي في 2005 في كتاب قصص مصوّرة نشرها على موقع «ماي سبيس» (Myspace) حيث بدأت حياة بيبي ميمًا. تحوّل الضفدع بعد ذلك إلى نكتة ضمنية بين مستخدمي منتديات الإنترنت، وتحديدًا على موقع «فورتشان» (4chan).

نال بيبي شعبية واسعة بفضل شخصيته المرحة المضحكة التي تميل للكسل وقضاء وقت ممتع مع أصدقائه.

لكن سرعان ما تحولت شخصيته المرحة لشيء أكبر وأشرس، حينما غرّد الرئيس الأميركي دونالد ترمب صورةً لبيبي في أكتوبر 2015، يظهر فيها الضفدع مع تصفيفة شعر ترمب، واقفًا أمام منصة كرئيسٍ للولايات المتحدة. 

وهنا وقع تحوّل شنيع لم يتوقعه رسام بيبي قطّ. حيث استولى اليمين المتطرف على بيبي، وطفق الضفدع يظهر رمزًا لدى مؤيدي ترمب والمتعصبين للبيض. صار وجهه الأخضر بعينيه الواسعتين يزيّن لوحات المظاهرات على أرض الواقع وفي منتديات الإنترنت، مما أدّى إلى إدراج بيبي في قائمة البيانات التي  تضم رموز كراهية.

وانكشفت الحقيقة البديهية أمام معشر الإنترنت: حينما ينشر أحدهم شيئًا على الإنترنت، يفقد سيطرته عليه. وقد تتحوّل ميم بريئة في بدايتها إلى وحش شرس دونما قصد. هكذا الإنترنت، لا نعرف كيف تولد فكرة، وإلامَ ستؤول. 

بعد استيلاء بيبي، أطلق رسامه مات فوري في 2016 حملةً لمحاولة إنقاذ سمعة الضفدع القديمة كشخصية تدلّ على الضحك والمرح. وصارت هذه الحملة معروفة بـ «أنقذوا بيبي» (#SavePepe). وفي السنة اللاحقة نشر مات فوري رسمة بيبي الأخيرة حيث يستلقي الضفدع في تابوت في مشهد يصوّر مأتمه

قصة بيبي المأساوية لا تعني أن مصير جميع الميمز سيء. فإن كانت للميم قدرة على التحوّل إلى كائن شرير وشرس ومن ثم التلاشي، يمكنها أيضًا البقاء حيَّة في ذاكرة الإنترنت، حيث تتوالد ميمًا بعد ميم بفضل طبيعتها المضحكة الخالدة. ولا مثيل لسيادة القطط والكلاب في هذا المجال.

سر نجومية «ميمز» القطط والكلاب  

لطالما كانت القطط من أوائل النجوم وأكثرها شعبية في عالم الميمز. بدأ انتشارها مع طفولة الإنترنت في التسعينيات، وارتفعت مشاركتها ارتفاعًا مذهلًا مع إطلاق منصة يوتيوب، إلى أن بلغ عدد مقاطع القطط اليوتيوبية مليوني مقطع في 2015. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا؟ 

أثار هذا الموضوع انتباه العديد من العلماء والنقاد الذين حللوا سبب وصول هذا المحتوى التافه إلى مكانة أيقونية. فعلى الرغم من تفاهته، ثمة عمق ومعنى لميمز القطط البسيطة.

إذ لربما تستنسخ ميمز القطط المنتشرة على الإنترنت ذات التأثيرات النفسية الإيجابية التي تتركها الحيوانات الأليفة لدى أصحابها في واقع الحياة. إذ اقترحت الأبحاث أن مشاهدة محتوى القطط تحفز العواطف الإيجابية وتخفف التوتر لدى بعض المستخدمين. 

عدا أيضًا أنَّ طبيعة القطط العفوية وحركاتها المفرطة تجعلها مادة مثالية للميمز: غريبة ومضحكة ومصدر خصب للإضافات والتعديلات.  

لم يكن للكلاب نصيب القطط في الشعبية، لكن ذلك لم يمنع الكلب شيبا إينو من الصعود إلى بريق الشهرة. وسرعان ما أصبح «دوج» (doge) نجمًا يتمتع حتى اليوم بالشهرة في العالم الافتراضي.

فبالإضافة إلى تعابير وجهه المضحكة، ظهرت لدوج لغته الخاصة التي انعدمت فيها القواعد، مما أتاح للمستخدمين التحرر من قيود الإملاء واستخدام تراكيب غير سليمة نحويًا لكن مضحكة. فكانت اللغة أحد أسرار نجاح هذه الميم.

إذ شاع في الميمز استخدام اللهجات العامية الدارجة وبعض الأخطاء اللغوية المقصودة. فمثلًا انتشرت صور «دوج» – صوره يبتسم أو يحدّق أو يرفع حاجبيه – مع تعليقات قصيرة عديمة القواعد والإملاء.

وسرعان ما أصبحت هذه اللغة المكسورة هوية «دوج»، وصار كل من يشارك تلك الميمز يتحدث هذا اللسان العجيب الذي أصبح بالفعل لغة جيل الإنترنت.

ذات فكرة اللغة المكسورة ظهرت في الميمز العربية أيضًا. فصفحة الخنزير بفيسبوك اخترعت لغة خاصة بها تصبح فيها الجيم غينًا؛ فكلمة «مجنون» تصبح «مغنون»، و«حاجة» تُكتب «حاغة». والأمر المثير للاستغراب ليس وجود هذه اللغة من الأساس، بل تحدّث متابعي الصفحة بها. 

لكن لم الاستغراب، إذ هل يُتوقّع من ثقافة الميمز التي تحررت من قوانين الانتشار والشعبية الالتزام بقوانين اللغة؟ 

قوة «الميمز» الثقافية وقيمتها الاستهلاكية

قوة الميم وتأثيرها حقيقةٌ لم تغفلها العلامات التجارية. فكما لعبت الميم دورها في السياسة، أصبح لها دور في التسويق أيضًا. فكبرى الشركات كنيتفليكس وكينتاكي بدأت تركب أمواج الميمز لتستفيد من شيوعها ودلالاتها الضمنية. ولا غرابة في أن الردود على تلك المنشورات تأتي على صورة ميمز أيضًا، فذي طبيعتها: الميم الناجحة تولّد ميمًا أخرى.

ولأن الميم نكتة تشاركها مجموعة من الأصدقاء لا يفهمها إلا هم، ظهرت ميمز خاصّة بكل مجموعة إثنية، وبالطبع ميمز خاصة بالمجتمع العربي.

فالنجوم المعروفون لدى الجمهور العربي أصبحوا نجوم الميمز أيضًا. وانتشرت في العالم الرقمي العربي ميمز من بطولة حياة الفهد وعبلة كامل وناصر القصبي، تعكس مشاهد مألوفة ومضحكة ترتبط بها ذكريات المشاهدين. 

وثمة نوع من الميمز انبثق من هذا العالم الغريب الذي عُرف بانعدام القواعد وذوق أفراده الساخر. فانتشرت صفحات فيها فيديوهات لشخصيات مثل وائل غنيم وأبو الفدا من سبق أن نالوا شهرتهم عبر هذا الإنترنت نفسه.

والأغرب من ذلك أن الصفحات عبارة عن فيديو واحد فقط منشور عدة مرات؛ أي الشخص نفسه بالمشهد نفسه، إلا أن الموسيقى الخلفية مختلفة، تمامًا كسلفها ميم الطفل الراقص. إمكانية تغيير الموسيقى تخلق كل مرة ميمًا جديدة. 

لكن ثمة نجم دخل عالم الميمز عام 2011 وحطّم سقف جميع التوقعات رغم بساطته، حين جاء يطرح ما بدا سؤالًا بريئًا: «هل نحن وحدنا؟»

يصعب تحديد سبب انتشار هذا المقطع العفوي. فهل انتشر لأن هناك من نطق بما يخطر على بالنا كلنا؟ أو هل لأن الأولاد الصغار يطالبون بعضهم بأدلة تثبت الرأي بدلًا من تقبله صامتين هازين  رؤوسهم؟

 أو ربما شعرنا أن هؤلاء الثلاثة يمثّلون أنماط أغلب أفراد المجتمع: شخص يجادل، وآخر يطالب بالدليل، والأخير يشاهد فيما يأكل دون مبالاة. 

أصبح «هل نحن وحدنا؟» شعارًا أثار نقاشات كثيرة، من سلاسل تغريدات إلى حلقات بودكاست وحتى منتجات مطبوعة: من الملابس إلى الأكواب إلى الأوسمة وحتى الجوارب. فهكذا طبيعة الميم؛ تبدأ شيئًا عفويًا، وتنتهي إلى منتج استهلاكي. 

عبّر عن رأيك بـ«الميمز»

صارت الميم ردة فعل معشر الإنترنت الفورية تجاه كل موضوع مثير للضحك وحتى الجدل، فمجرد الضغط على وسمٍ ما في تويتر يفتح لك عددًا لا نهائيًّا من  صور ساخرة مقترنة بجمل قصيرة تعبّر عن رأي المغرّد.

 وكثيرًا ما يؤدي خطأ طفيف غير مقصود إلى صعود موجة هائجة من الميمز، سواءً أكان ذلك الخطأ تغريدة #coffeve من الرئيس ترمب، أم #لأنهم_سبايك من وزارة الصحة السعودية. فلا إخفاق مستور على الإنترنت، والأخطاء مادة ثرية للميمز.

تأثير الميمز العارم ينبثق من سهولة وصولها إلى شريحة واسعة في المجتمع، كونها تعلق على حدث في حياتنا اليومية نعرفه جيدًا فنرى أنفسنا فيها. ومشاركة سريعة لرمز معروف والاستفادة من دلالته الجاهزة أسهل علينا وأكثر متعة من كتابة عبارات طويلة قد لا تصيب الهدف. 

واضح من انتشار الميمز أنها جزء لا يتجزأ من تاريخ الإنترنت الحي، وجزءٌ جدير بالتسجيل والتوثيق. وهذا ما تقوم به مؤسسات عريقة مثل مكتبة مجلس الشيوخ  الأميركية، التي بدأت بالحفاظ على محتويات الإنترنت في خوادمها قبل نحو عشرين سنة.  

فدور الميمز لا يتوقف عند قدرتها على الإضحاك أو عند إنشائها ثقافة ولغة جديدة للتواصل. بل هي شاهدٌ على حياتنا وآرائنا في أرجاء الإنترنت، وتترك تاريخًا عن أحوالنا للأجيال القادمة. فالميمز تتيح لكل مستخدم ترك بصمته الصغيرة على نسيج الإنترنت، وتدوين جزءٍ صغير من التاريخ قبل أن تُرفع الأقلام وتجف الصحف. 

الإنترنتالشبكات الاجتماعيةالنكتةالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية