سوق العمل في الربع الثالث، متى ينتهي شبح أزمة البطالة السعودية؟
ازدات نسبة البطالة في السعودية بعد أزمة جائحة كورونا، لكن ماهي جهود الدولة لاحتواء هذه الأزمة وتقليل نسبة العاطلين عن العمل؟
تعج مواقع التواصل الاجتماعي بقصص الكثير من السعوديين ممن تغلبوا على أزمة البطالة بحلول مؤقتة، كبائع الشاي على الطرقات والجامعية التي امتهنت تجارة الخضار في سوق جدة.
وعادة ما تأتي جهودهم إما محط تقدير وإعجاب أو تشجيعًا على إطلاق حملة إنسانية توفر المساعدات لهم، أو تولد الغضب والاستياء بسبب ندرة وظائف للمواطنين في المقام الأول، بينما يستمد القطاع الخاص أغلب موظفيه من الخارج.
وهكذا، أمام مشاعر التحفيز والإعجاب والرحمة والمواساة، يقع المواطن الذي يقضي أعوامًا في البحث عن عملٍ بين مطرقة الترقب اليومي لوظيفة ما وسندان نظرة المجتمع له، سواءً كانت سلبية أو إيجابية.
كذلك، تعكس محاولات العديدين للتغلب على البطالة من خلال بيع المشروبات والمأكولات توجه المنشآت السعودية الجديدة في تركيزها على هذا القطاع، قطاعٌ أبتر لا يولد وظائف ويزيد من مصاريف المواطنين.
لا ينبغي تجاهل المجهودات الحثيثة التي بذلتها الدولة في الآونة الأخيرة لمعالجة أزمة البطالة. مما يعيد الأمل في إيجاد حلول أفضل وأكثر استدامة للمشكلة، خصوصًا في ظل الإعلان المستمر عن مشاريع ضخمة للاستثمار تضع في جوهرها إيجاد فرص وظيفية للمواطنين.
وحتى تثمر هذه الجهود في حل الأزمة، لا بد من النظر إلى جذورها ومعالجتها بعيدًا عن الصور الاجتماعية النمطية وسياسة إلقاء اللوم.
كيف تفاقمت أزمة البطالة؟
إن أزمة البطالة الحالية –والتي ارتفعت بشكل ملفت في الأشهر القليلة الماضية بسبب جائحة كورونا– ليست وليدة اللحظة. إذ مثلت هاجسًا متناميًا لسنوات عدة، ولم تنفع معها كل الحلول الموضوعة كونها مؤقتة لا تعالج جذور المشكلة. لذلك ما تفتأ تعاود الظهور كل مرة إما لنفس الأسباب أو لأخرى جديدة.
فعلى سبيل المثال، كان السماح للنساء في العمل بقطاع التجزئة (فيما كان يسمى بتأنيث الوظائف عام 2012) أحد الحلول التي حاولت المساهمة في علاج أزمة البطالة. تلك كانت خطوة مهمة، لا فقط في معالجة البطالة بين النساء، وإنما في مواجهة بعض الأعراف والتقاليد التي وقفت في طريق دخول المرأة إلى سوق العمل.
واليوم تولي السعودية المرأة العديد من المناصب القيادية وغيرها من الوظائف تماشيًا مع انفتاحها وتوجهها الجديد. ورغم أن عدد النساء السعوديات اللاتي دخلن سوق العمل في تزايد مستمر، لا زالت البطالة بين النساء متفشية، بنسبة 30.2% حسب إحصاءات الربع الثالث من 2020.
في السابق ارتفعت البطالة بين صفوف السعوديين الذين لم ينهوا دراستهم الجامعية أو خريجي بعض التخصصات التي أشبع بها سوق العمل مثل إدارة الأعمال.
أما الآن فالبطالة تشمل خريجي جامعات الداخل والخارج وحملة المؤهلات العليا أيضًا، فأكثر من نصف العاطلين عن العمل يحملون شهادة البكالوريوس. تحولت المشكلة إذن من عدم كفاءة السعودي إلى عدم توفر الوظيفة المناسبة له، ولذلك فالحاجة ملحة لخلق الوظائف التي تتلاءم مع المواطنين الباحثين عن عمل.
كذلك وضعت جائحة كورونا سوق العمل تحت أكبر التحديات التي تواجه اقتصاد اليوم، فارتفعت نسبة البطالة في الربع الثاني من 2020 إلى 15.4%، وهي أعلى نسبة بطالة سجلت على الإطلاق قبل أن تنخفض قليلًا في الربع الثالث إلى 14.9% بعد الانتعاش الاقتصادي الذي تلى رفع القيود للحد من انتشار الجائحة.
لكن الرجوع إلى الإجراءات الاحترازية التي أُعلن عنها مؤخرًا والقابلة للتمديد قد لا يساعد في خفض مستوى البطالة لما كانت عليه قبل الجائحة.
جذور الخلل في سوق الوظيفة بين القطاع العام والخاص
يشغل السعوديون أغلب وظائف القطاع العام، في حين يستحوذ الموظف الأجنبي على حصة الأسد في القطاع الخاص. ولا يقتصر خلل التوازن هذا على السعودية فقط، بل ينطبق على جميع دول الخليج العربية.
إذ طالما فضل المواطن الخليجي العمل في القطاع العام الذي يوفر له العديد من الضمانات كالدخل الجيد وساعات العمل الأقل، بينما يستقطب القطاع الخاص العديد من العمالة الأجنبية الرخيصة لشغل وظائف ثانوية شاقة، بكلفة قليلة لا تتلاءم مع متطلبات وتطلعات المواطنين.
عززت الثروة النفطية هذا النمط لدى المواطن ورسخته، عدا أنَّ هذا النمط ما بات يتلاءم اليوم مع توجه السعودية الحالي نحو الحد من الاعتماد على النفط والتركيز في تنوع مصادر الدخل.
كما تعوَّد القطاع الخاص على وفرة العمالة الأجنبية الرخيصة، فهمَّش طالب العمل السعودي حتى إن رضي بساعات عمل أطول ومرتب أقل مما يطمح إليه. وتفاديًا لهذا التهميش، أطلقت السعودية قبل عشرة أعوام برنامج «نطاقات»، والذي أجبر القطاع الخاص على توظيف المزيد من المواطنين مقابل الحصول على التحفيز والدعم.
لكن هذا لم يردع القطاع الخاص عن الالتفاف حول القوانين والتنظيمات من خلال التوطين الوهمي أو تغيير المسمى الوظيفي حتى لا تشملهم قرارات سعودة بعض الوظائف.
ففي حين يدخل ما يزيد عن 200 ألف مواطنٍ سعوديّ سنويًا سوق العمل، يوفر القطاع الخاص أقل من 100 ألف وظيفة سنويًّا للسعوديين.
لماذا يعزف القطاع الخاص عن توظيف المواطن السعودي؟
يبدو أن أزمة الثقة بين القطاع الخاص وباحثي العمل السعوديين قد تفاقمت في السنوات الماضية بين الطرفين. حيث عادة ما ينسب للتاجر أو صاحب العمل قوله في تبرير عزوفه عن توظيف السعوديين أن المواطن لا يستمر في الوظيفة ولا يأخذها بجدية.
ويبقى من غير المنصف تعميم أسباب عدم قابلية أو رغبة السعوديين في العمل بالقطاع الخاص، فطموح الشباب السعودي وتطلعاته تختلف بطبيعة الحال عن الأجنبي.
لن يتردد البعض فعلًا في ترك وظيفته عند توفر فرصة أفضل تاركًا صاحب العمل يبحث مجددًا عمَّن يملأ مكانه ويدربه من جديد. مما ساهم في تكوين تلك الصورة النمطية السلبية عن باحث العمل السعودي.
وفي المقابل، يتطلّع الكثير من السعوديين فعلًا للحصول على وظيفة حتى وإن كانت متدنية. إذ لا يجب إغفال أن المردود المالي -وإن كان مهمًا- ليس الدافع الوحيد للقبول بالعمل. حيث أن الخروج من المنزل ومخالطة الآخرين عاملٌ حيويّ في بناء علاقات الشخص الاجتماعية والتي بطبيعة الحال تنعكس إيجابًا على صحته النفسية.
إن مشكلة القطاع الخاص اليوم لا تقتصر فقط على عزوفه عن توطين الوظائف وإنما تشمل أيضًا عدم توفيره البيئة الملائمة للعمل فيه. فحسب إحصاءات سوق العمل الصادرة عن الهيئة العامة للإحصاء، قدم 286 ألف عامل سعودي استقالته في 2020.
قد يكون لهذه الاستقالات أسباب عدة منها توفر وظيفة أفضل، لكنها تدل أيضًا على ضرورة تحسين وتطوير بيئة منشآت القطاع الخاص، حتى لا تجبر المواطن على ترك وظيفته.
بين سعودة الوظائف القيادية وتحسين العلاقات التعاقدية
من أهداف رؤية 2030 خفض نسبة البطالة إلى 7%، من خلال خلق المزيد من الوظائف في القطاع الخاص. وعبر إجراءات من قبيل فرض رسوم على العمالة الوافدة منذ 2018، تتراوح بين 300 و400 ريالا شهريًّا شاملة لمرافقيهم وقابلة للارتفاع سنويًا، وكذا تقليص عدد الأجانب واستبدال المواطنين للوظائف التي يشغلونها؛ حاولت الدولة جعل توظيف العمالة الأجنبية أكثر تكلفة.
لا يمكن تجاهل استخدم القطاع الخاص لنظام الكفالة ذريعةً لتوظيف الأجنبي بحكم أمان بقائه، في مقابل السعودي الذي يملك حرية ترك وظيفته متى ما توفرت له فرصة عمل أفضل. ولدحض هذا العذر، تنطلق في مارس المقبل مبادرة «تحسين العلاقة التعاقدية»، والتي ستمنح العامل الأجنبي حرية التنقل الوظيفي، فلا يرتبط بكفيله كما كان معهودًا في السابق.
بمثل هذه الأنظمة الجديدة، لن يتميز العامل الأجنبي عن السعودي بالتكلفة المنخفضة أو الخضوع للسيطرة من خلال نظام الكفالة. ويظل الأهم ألا يقتصر هذا التنافس على الوظائف المتوسطة والدنيا فقط، بل ينبغي للأنظمة الجديدة أن تشمل أيضًا سعودة الوظائف القيادية المتاحة للعديد من السعوديين المؤهلين لشغلها، خصوصًا وأن توطين هذه الوظائف يساعد في تقليص حجم الحوالات إلى الخارج.
حيث أن الوظائف التي يوفرها القطاع الخاص للمواطنين السعوديين في أغلبها هي الأدنى أجورًا، ولا تتماشى مع تكلفة المعيشة.
كما أن القرارات التي وُضعت للضغط على القطاع الخاص لتوظيف السعوديين حددت 4000 ريالًا سعوديًا كحدٍ أدنى للأجور، مما شجع القطاع الخاص على توظيف الكثير من السعوديين بهذا المبلغ بغض النظر عن مؤهلاتهم. أما الوظائف القيادية، فلا تزال في أغلبها للموظف الأجنبي.
مستقبل البطالة بين التوطين الداخلي وجذب الاستثمار الخارجي
لا يبدو قرار إيقاف تعاقد الجهات الحكومية مع شركات أو مؤسسات أجنبية لها مقر إقليمي في المنطقة غير السعودية ذو مردودٍ إيجابيّ في خلق المزيد من الوظائف للمواطنين إذ ستكون السعودة لهذه الشركات خيارًا حسب ما صرّح وزير الاستثمار، المهندس خالد الفالح.
من الجانب الآخر، أُعلن في مطلع هذا الشهر عن قرار مجلس الوزراء إنشاء المنصة الوطنية الموحدة للتوظيف -بشقيها الخاص والعام- بهدف توحيد جهود احتواء أزمة البطالة. ولأن هذه المنصة ليست الأولى من نوعها، يلزمها إذن توفير المزيد من الخدمات حتى لا تقتصر فقط على جمع بيانات التوظيف كسابقاتها.
تدل محاولات السعودية الأخيرة لمعالجة ملف البطالة على جدية الدولة في حل هذه الأزمة. لكن الخروج منها لن يكون بهذه السهولة أو السرعة، نظرًا لتراكمها خلال العقود الماضية وتزايد المعوقات الجديدة كجائحة كورونا التي فاقمت من خطورة المشكلة وعقدت سبل الخروج منها.