لماذا ينخرط سوريون ولبنانيون أرمن في النزاع الأرمني الأذري؟

يقف أرمن سوريا ولبنان في النزاع الأرمني والأذري مع أرمينيا، مما يثير سؤال محير على الهامش. إلى من ينتمي أرمن هذه الدول؟

تُلقى اللائمة الأساس في نزاع ناقورنو كاراباخ (آرتساخ حسب التسمية الأرمنية) على ستالين الذي زرع بذور الخلاف في قسمة جغرافية غير مؤهلة للحياة. إذ شهد الإقليم ذو الغالبية السكانية الأرمنية نهاية الثمانينیات ومطلع التسعينیات من القرن المنصرم معارك شديدة، ربط بها الأرمن الإقليم جغرافيًا بالجمهورية الأرمنية الوليدة بعد احتلال أراضٍ آذرية قُررت ضرورتها لضمان أمن الإقليم وسكانه.

دخلت الأمور في سبات قلق لسنوات، قبل أن تندلع نهايات العام الماضي معارك بدأتها أذربيجان المدعومة تركيا. واستمرت نحو ستة أسابيع، قبل أن تنتهي باتفاق بين العدوين برعاية روسية، كرست واقع انتصار الآذريين وخسارة أجزاء من الأراضي المسيطر عليها سابقًا من قبل الأرمن.

بالنسبة لمتابعين لا يملكون الاطلاع الكافي على تركيبة منطقة الصراع ومنطقة شرق المتوسط، بدا انخراط مواطنين سوريين ولبنانيين في المعارك المندلعة على بعد مئات الكيلومترات مفارقة أو أمرًا غير مفهوم تمامًا. فمن جهة، شارك سوريّون عرب من مسلحي المعارضة السورية في القتال إلى جانب الآذريين بتوجيه وتسهيل تركي، بينما قاتل أرمن سوريون ولبنانيون إلى جانب أرمن آرتساخ.

صراع الهويات في المعركة الأرمنية الآذرية 

كشفت المشاركة السورية اللبنانية الأرمنية جانب الهوية المزدوجة أو المركبة لدى أرمن هذين البلدين، وعليه تبدو المشاركة أمرًا مفهومًا ومبررًا. فالكثير من هؤلاء يحملون الجنسية الأرمنية إلى جانب جنسية البلد الذي ولدوا ونشأوا فيه كسوريا أو لبنان، وللبلد الذين يحملون جنسيته حقوق عليهم.

يشعر قسم كبير من أرمن سوريا ولبنان -على سبيل المثال لا الحصر- بانتماء مركب: سوري أرمني أو لبناني أرمني. انتماء لا يتناقض فيه عنصراه، بل يتكاملان ليشكّلا هويتهم الحالية. بالإضافة إلى ذلك، تشكل العداوة التاريخية للأتراك كورثة للعثمانيين مرتكبي المجازر والتهجير بحق الأرمن عاملًا حيويًا في موقفهم اليوم، خصوصًا مع النهج الأردوغاني الفخور بالأمجاد العثمانية والساعي لاستعادتها. وعليه، يبدو من الصعب على هؤلاء الأرمن النظر بإيجابية إلى أي فعل تقف وراءه تركيا أو تدعمه، بدءًا من الثورة السورية على الأسد وحتى الصراع الآذري الأرمني في آرتساخ.

أما في الطرف الثاني من الصراع، فقد تبدو مشاركة سوريين عرب في القتال إلى جانب آذريين لا يكاد يجمعهم بهم شيءٌ، تعبيرًا عن أزمة هوية يعيشها هؤلاء المشتتون، بين هوية سورية تجمعهم مع نظام أقلوي طائفي ينكل بهم من جهة، وهوية ثانية، سنية، تعاني مظلومية راهنة من العراق إلى سوريا فلبنان. وترى في قيادة أردوغان وحلم القوة العثمانية البائدة بريق أمل، يتمسك بعضهم به تمسك الغريق بقشة.

هذا ما تعبر عنه فصائل عسكرية سورية معارضة تركية الولاء، وناشطون مدنيون يرون في السلطة التركية ونموذجها مثالًا يحتذى. وقد أدى سوء الأحوال والافتقار إلى فرص العمل ووسائل الكسب إلى الاضطرار في حالات كثيرة للقتال في ليبيا أو أذربيجان تحت إمرة تركية، في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل إلا الحصول على راتب يقيهم وعائلاتهم ذل الحاجة.

الهوية الأرمنية: مركبة أم واحدة لا تتجزأ 

أعادت معركة آرتساخ طرح النقاشات والأسئلة حول هوية الأرمن السوريين، أسئلة لا تفهم ازدواج أو تعدد أوجه هويتهم. إذ تبدو الهوية في عرف السائلين وحيدة المصدر، لا تتناقض كتناقض العرب والأرمن. وبالتالي يصور هؤلاء الأرمن وكأنهم أبناء الأمس فقط، الأمر الذي يفتح باب التشكيك في وطنيتهم السورية على أساس ربط فاعلية الانتماء بقِدم التواجد في هذه البقعة من الأرض.

يذكر هذا بما أورده المفكر اللبناني الفرنسي أمين معلوف في مقدمة كتابه «الهويات القاتلة»، ردًا على سؤاله بشكل متكرر عن هويته كشخص عاش مطولًا في بلدين يحمل جنسية كل منهما: 

«هل أنا نصف فرنسي، أي نصف لبناني؟ لا أبدًا! فالهوية لا تتجزأ ولا تتوزع مناصفةً أو مثالثةً، ولا تصنف في خاناتٍ محددة ومنفصلة عن بعضها البعض. وأنا لا أملك هويات متعددة، بل هوية واحدة مؤلفة من العناصر التي صنعَتها وفقًا لـ«جرعة» خاصة لا تتطابق مطلقاً بين شخص وآخر».

وينسجم ذلك مع قول المغني الفرنسي الأرمني الشهير شارل أزنافور: «أنا فرنسي وأرمني، لا يمكن فصل أمر عن الآخر، تمامًا كما الحليب والقهوة، أمر رائع أن يكون هناك ثقافتان تعملان من أجلك إن أردت فعل شيء. الفرنسية هي لغة عملي، لكن الأرمنية لغة عائلتي. يمكنني أن أكون أيضًا من كاليفورنيا بعض الشيء حيث تقيم ابنتي وأحفادي».

في واقع الأمر، يمكن تصنيف أرمن بلداننا في شرق المتوسط، سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق وحتى مصر، من بين تصنيفات كثيرة على أساس زمني: من أتوا بسبب مجازر العثمانيين بحق الأرمن نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين -خاصة مجرزة 1915- وكل من أتوا قبل ذلك وصولًا إلى القرن الرابع عشر.

في الحالتين، لم يأت هؤلاء الأرمن من الأراضي التي تشكل أرمينيا الحالية، بل من أراضٍ كانت تشكل أرمينيا التاريخية الكبرى والتي تقع بعض أجزائها اليوم في تركيا.

تاريخ الوجود الأرمني في بلدان شرق المتوسط

مع سقوط آخر معاقل الأرمن في مملكة كيليكية الأرمنية سنة 1375، توجه الأرمن جنوبًا ليجدوا مستقرًا لهم في حلب وما تلاها جنوبًا من مدن وقرى كالقنية واليعقوبية في ريف إدلب. في حلب على سبيل المثال، وجد هؤلاء الأرمن القادمون من كيليكيا مجموعة أرمنية صغيرة قديمة العهد، لها كنيستها الشهيرة، كنيسة الأربعين شهيد، وخانها المعروف بالـ«هيكيدون»، جلبتها قوافل الحج إلى القدس والتجارة إلى حلب، فانضموا إليهم مستوطنين المدينة. 

ومنذ القرن الرابع عشر وما يليه بشكل رئيس، قلما خلت مدينة رئيسة في شرقنا، كحلب والموصل وبغداد ودمشق وطرابلس والقدس والقاهرة، من وجود أرمني. ويمكن أن نسمي هؤلاء الأرمن اليوم بـ«الأرمن القديم أو العتيق». فغالب هؤلاء فقدوا عمليًا جزءًا أو آخر من هويتهم الأرمنية، وخسروا ثقافتهم ولغتهم الأصليتين. فتعرَّبوا على نحو شبه تام إن صح التعبير. وبقي الأمر الوحيد الذي يربطهم بجذورهم الأرمنية اليوم انتماؤهم إلى الكنائس الأرمنية: الأرثوذكسية الأكبر عددًا والكاثوليكية والبروتستانتية.

لا يغفل كاهن أرمني سوري دور السلطات العثمانية وسياسات التتريك وعامل مرور الزمن في فقدان هؤلاء الأرمن هويتهم الأصلية، مشبهًا حالهم بحال الجيل الثالث أو الرابع اليوم من الأرمن المهاجرين من الشرق إلى أوروبا. وكيف فقد المجتمع الأرمني هناك لغته وهويته مع مرور الزمن وتناقص حجمه.

أما الأرمن الذين وصلوا إلى سوريا بسبب المجازر، فحافظوا في غالبيتهم بشكل ملفت للإعجاب على ثقافتهم ولغتهم وهويتهم الأرمنية. الأمر الذي يربطه كاهننا بوجود الجماعة الكبيرة المتكتلة التي تسهل وتضبط عملية نقل الثقافة للأجيال الجديدة. مشيرًا أيضًا إلى أن معايشة صدمة المجازر والاضطهاد تنمي عصبية الانتماء تجاه الجماعة، وتقوي الروابط بين أفرادها حدًا يرفع من شأن هويتها الأولى.

النزوح الأرمني الجديد 

خلق وصول الأرمن المضطهدين، الذين غالبًا ما استُقبلوا على الرحب والسعة من السوريين مسيحيين ومسلمين، حالة متجددة لمدينة كوزموبوليتانية مثل حلب، اعتادت موجات السكان الجدد من طوائف وإثنيات مختلفة. وفي المقابل أثبت هؤلاء الأرمن أنفسهم باجتهادهم ومهاراتهم. وشكلوا مجتمعات صغيرة متكاملة يكاد الساكن فيها لا يحتاج للتكلم باللغة العربية طيلة يومه.

لكن مع كل ما ضرب ويضرب سوريا ولبنان في السنوات الأخيرة من ويلات ومصائب، حروب معلنة وخفية، يبدو مواطنو هذين البلدين في موقع لا يحسدون عليه. فها الأرمن، أعدادهم تتضاءل رويدًا رويدًا، مسافرين طلبًا للهجرة والعيش في بلدان أكثر استقرارًا واحترامًا للإنسان.

ولنا أن نجد في ميزة ومعضلة الهوية السورية الأرمنية المركبة مدخلًا للتفكر بقضايا الهوية في عالمنا الشرقي المتخبط في انتماءاتٍ وتجاذباتٍ مختلفة. إذ يبدو -خاصة في زمن العولمة هذا- أن فرض شكل واحد من أشكال الهوية على الناس لا يحترم تعدد طبقات انتمائهم وثقافتهم. سلوكٌ  شموليٌ يعادي التنوع ولا يؤسس لاستقرار مبني على أسس ثابتة وعادلة.

أرمينياالشرق الأوسطالهويةسورياالسلطة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية