مخيمات النزوح السوري ومأساة إبريق الزيت
تتصدر أخبار غرق مخيمات النزوح محطات الأخبار دائمًا، لأسباب طبيعية وغياب البنى التحتية، لكن لم لا يغادر النازحين هذه المخيمات لأماكن أفضل؟
مع كل شتاء، تتكرر أزمة غرق بعض مخيمات النزوح السوري في ريفَي حلب وإدلب شمال سوريا. أودت هذه الأزمة العام الماضي بغرق أكثر من 228 مخيم للمهجرين، وبالكاد توقف المتابعون عند الخبر.
لكن حتى في ظل ضعف التغطية الإعلاميّة، تدفع هذه المأساة السنوية بالكثير من السوريين والعرب والأجانب، أفرادًا وجماعات، إلى التعاطف والعمل على تقديم الدعم. مثلها مثل حكاية الإبريق الذي ما ينفك الزيت يرشح منه مهما استبدلوه بإبريق جديد، تتكرر المأساة دونما حلٍّ نهائي.
نشأة مخيمات اللاجئين
رغم متابعتي الحثيثة خلال السنوات الماضية للقضية السورية والعمل في الشؤون المتعلقة بها، بالإضافة إلى التواصل مع بعض سكان المخيمات والناشطين في المناطق المعنية، تظل قصة المخيمات معقدة بعض الشيء ولها تفاصيلها.
ففي البداية، نشأت المخيمات استجابة لحاجات المهجرين من مناطق سورية مختلفة، عقب المعارك التي شنتها قوات النظام السوري على مناطق المعارضة، وحالات الحصار التي طبقتها على بعض هذه المناطق. لتنتهي في الحالتين باتفاقيات شبه رسمية، فرضت على فئة من السكان التهجير إلى مناطق المعارضة في شمال غرب سوريا.
وثمة ضمن النازحين من اختار بنفسه خيار التهجير خوفًا من تبعات العودة للعيش تحت سيطرة النظام، تبعات تتضمن احتمالات الاعتقال والتعذيب والاختفاء القسري والتجنيد الإجباري.
وهكذا، في بلد يضم أعلى نسبة مهجرين داخليًا على مستوى العالم، يتدفق عشرات الآلاف من المهجرين الجدد من بيوتهم إلى ريفي حلب وإدلب بعد كل معركة يشنها النظام. يفوق العدد بطبيعة الحال كل التوقعات، ويستنفذ كل خيارات السكن التقليدية من بيوت ومزارع وحتى المحلات التجارية. الأمر الذي أدى أيضًا إلى ارتفاع إيجار المساكن القليلة المتوفرة إلى أرقام غير مسبوقة.
ففي العام المنصرم، فاقت أعداد المهجرين في المخيمات وحدها 600 ألف نازح موزعين على نحو 400 مخيمٍ، شملتها إحصائيات وحدة تنسيق الدعم، عدا تلك غير المشمولة بالدراسة.
من هنا ظهرت مخيمات اللاجئين التي يمكن اليوم تقسيمها إلى قسمين رئيسين: المخيمات التي نشأت على يد منظمات ومؤسسات، وتتمتع عادة بالحد الأدنى من التجهيز والبنى التحتية من حيث الموقع وتصريف المياه والصرف الصحي؛ والمخيمات التي أقيمت على نحو عشوائي وغالبًا لا تتمتع بشيء مما سبق.
لماذا يرفض اللاجئون مغادرة المخيمات العشوائية؟
عقب موجات النزوح، خاصة موجات النزوح الأولى بعد كل تهجير، بلغ عدد سكان المخيمات العشوائية نحو ثلث عدد المهجرين. وفي أكثر الأحوال، تتصدر هذه المخيمات نشرات الأخبار كل سنة. إذ تغرق بمياه الأمطار والفيضانات، لاتخاذها موقعًا سيئًا أو لانعدام البنى التحتية البسيطة والضرورية.
يرفض كثير من سكان هذه المخيمات العشوائية مغادرة المخيم أو تغيير موقعه. إذ تمكنوا عبر السنين من إقامة علاقات مع الجوار وتوفير بعض فرص العمل الضئيلة أصلًا، واعتادوا محيطهم واعتادهم. ما يجعل تغيير المخيم أمرًا أشبه بالمراهنة المحفوفة بمخاطر مجهولة. ومع تفاقم البؤس وضعف الحال، يفضل هؤلاء النازحون المهجرون من منازلهم التمسك بالقليل المضمون، بدل المغامرة في سبيل ظروف أفضل قد تتحقق وقد لا تتحقق.
لكن مع كل الدعم السنوي الذي تقدمه أطراف ثالثة، سواء فردية أو منظمات، في محاولة لإغاثة المخيمات المتضررة، أو حتى الدعم المقدم للمخيمات المنظمة ذات البنية التحتية الأفضل، ما الذي يحول دون تحويل هذا الدعم نحو حلول أكثر استدامة كبناء بيوت بسيطة تقي المهجرين شر الفيضانات والبرد والحرائق التي سريعًا ما تنتشر في المخيمات وتلتهم كل شيء؟
توطين المهجرين والحاجة لعيش كريم
يورد الناشط عبد الله الحافي أن كلفة الخيمة التقليدية التي يقدمها «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية» (OCHA) تقدر بـ600 دولار أميركي، في حين يكلف بناء غرفة إسمنتية قرابة 450 دولار. لكن المنظمات المحلية المقيدة بسياسات المانحين الغربيين والمنظمات الدولية ترفض ما يسمى «توطين المهجرين» في مساكن ثابتة دائمة، أي اعترافٌ بالتهجير الحاصل وقوننته من خلال فرض الأمر الواقع.
كذلك ثمة جانب يصفه بعضهم بالمظلم، ويتجنب كثيرون الخوض فيه علنًا، لكن الحافي يتناوله بهدوء وموضوعية وفق خبرته ومشاهداته على أرض الواقع. فيشير إلى أن فقر الناس وتوالي خساراتهم وهوانهم، بالإضافة إلى ندرة فرص العمل وتوفر الدخل الذي يؤمن حدًا أدنى من العيش الكريم، دفع بعض سكان هذه المخيمات إلى التمسك بخيامهم.
إذ يضمن لهم السكن في الخيام الحصول على بعض المساعدات الغذائية والصحية والطبية وغيرها من أساسيات المعيشة، وكأن «الخيمة جواز سفر المهجر إلى الحصول على المساعدات». فالمتبرعون وعمال الإغاثة سيلتفتون -بطبيعة الحال- إلى حاجات سكان الخيم قبل حاجات سكان الغرف والبيوت، على اعتبار أن الأولين في وضع أكثر هشاشة.
على هذا الأساس، يفضل بعضهم شقاء الخيمة التي تضمن معها بعض المأكل والحاجات الأساسية على أمان وراحة البيت الذي سيأتي معه بالجوع والفاقة. فيقعون بذلك ضحية الحرب مرتين: ضحية النزوح وضحية الفقر.
رغم ذلك، ومع مرور الزمن وبإمكانات ذاتية وضئيلة تذكّر بمسيرة تهجير ونزوح الشعب الفلسطيني، تحولت بعض الخيم إلى أشباه غرف، اختلط فيها الإسمنت بالحجارة بألواح التوتياء والشوادر العازلة ودواليب السيارات المستعملة.
منظمات الإغاثة ومستقبل المهجرين
يؤكد ناشط آخر انتقل عبر الحدود مستعينًا بالمهربين، من مخيم في ريف إدلب إلى مدينة غازي عنتاب التركية للاستقرار فيها، أن حاجات المهجرين وقسوة الحال تفرض عليهم خيارات ما كانوا ليقبلوا بها لولا الاضطرار.
ويردف أيضًا في السياق ذاته أن وجود المخيمات واستمرارها يشكل «شئنا أم أبينا» سوق عمل للمنظمات الإغاثية وموظفيها، محليةً كانت أم دولية. وقد يشبه السعي إلى إنهاء أزمة المخيمات بالانتقال إلى حلول أفضل، بالنسبة لبعض هذه المنظمات من يقوم ذاتيًّا بتدمير مستقبله المهني إثر انتفاء الحاجة إلى خدماته.
الأمر أشبه بالحلقة المفرغة: المهجرون يحتاجون المخيمات، والمخيمات تحتاج المنظمات الإغاثية، والمنظمات الإغاثية تحتاج المنظمات الدولية، والمنظمات الدولية بحاجة للمهجرين.
وهكذا، عامًا بعد عام، تستمر أزمة اللاجئين السوريين خارج حدود بلدهم، واللاجئين السوريين داخل بلدهم. كما الواقع بين وحشية النظام وآلته العسكرية من جهة، ومحدودية إمكانات المنظمات الإغاثية محلية ودولية من جهة أخرى، دون تبرئة قوى الأمر الواقع الأخرى من إيرانيين وروس وأتراك وميليشيات طائفية وتنظيمات متشددة على طرفي الصراع من مسؤوليتها المباشرة فيما وصل إليه حال المدنيين.
وبينما تتوفر نظريًا حلول قصيرة ومتوسطة المدى أفضل من تلك التي توفرها الخيام، يبقى الحل النهائي للأزمة الإنسانية الشديدة التي يمثل المهجرون واللاجئون أحد أوجهها مرتبطًا بشكل رئيس بتحقيق انتقال سياسي حقيقي على أسس سليمة؛ يضمن إيقاف دائرة العنف، ويعيد الحل -قدر الإمكان- إلى أيدي السوريين دون غيرهم.