أين يقع المسلمون الأخيار في عوالم الأبطال الخارقين؟
المراهقة المسلمة كمالا خان آخر تجسيد لشخصية «الآنسة مارڤل»، وكان نجاحها باهرًا منذ إطلاقها عام 2014، وهي اليوم من أنجح الأبطال الخارقين المسلمين....
لم يكن والدا كمالا خان ذات الستة عشرة عامًا يعلمان بوجودها في حفلة تلك الليلة، لكنها وكغيرها من أبناء المهاجرين أرادت أن تعيش حياتها كغالب الأميركيات المراهقات. لكن أبويها المسلمين القادمين من باكستان لم يريدا لابنتهما حياة كهذه. هناك تغافلها أحد أترابها وأعطاها شرابًا كحوليًا.
شكلت تلك الليلة نقطة التحول في حياة البطلة الصغيرة. إذ اكتشفت قواها الخارقة وانطلقت في أولى مهامها لمحاربة قوى الشر وهي تقول: «حينما كنت صغيرة كان والدي يردد آية كلما رأى شيئًا سيئًا على التلفاز؛ فيضانًا أو تفجيرًا» ثم تلت آية «من قتل نفسًا بغير نفس…» وهي تكمل حديثها لنفسها «حينما كنت طفلة صغيرة، كانت هذه الآية تشعرني بالراحة.»
المراهقة المسلمة كمالا خان آخر تجسيد لشخصية «الآنسة مارڤل»، وكان نجاحها باهرًا منذ إطلاقها عام 2014، وهي اليوم من أنجح الأبطال الخارقين المسلمين على الإطلاق.
لكن فكرة تمثيل المسلمين في هذا النوع من الفن مرت بعدة أطوار، قبل أن يتصدر فيه دور الأبطال الأخيار. وحتى مع هذا التطور الملحوظ، لا زالت هذه الشخصيات تتلقى الكثير من النقد. فهل يعد هذا الأدب استثناءً في تجربة تمثيل المسلمين عن غيره من أنواع الفن؟
جذور استشراقية
يبدو أن مسألة تمثيل المسلمين في القصص المصورة أقدم مما يتخيله كثيرٌ من الباحثين. حيث يعد قسمت، أول بطل خارق مسلم في عوالم هذا الأدب. وقد ظهر قسمت -الجزائري- لأول مرة عام 1944 مقاتلًا في صفوف قوى التحالف في الحرب العالمية الثانية على جبهات متعددة في أوربا. لكنه سرعان ما صار في طي النسيان، قبل أن يعود لجماهيره في عام 2016.
أغفل الباحث الأميركي جاك شاهين قسمت حينما لخص في مقال «الصور العربية في الكتب الأميركية المصورة» تاريخ ظهور الشخصيات العربية في عالم القصص المصورة منذ الخمسينيات وحتى تاريخ صدور المقال عام 1994.
ويقولِب جاك شاهين الشخصيات العربية «المعتدلة» في ثلاثين قالبًا. فقد يكون العربي «حاكمًا طيبًا» يستنجد بالأبطال الخارقين لمساعدة شعبه، أو عربيًا غلبانًا يشكو همومه للأبطال في بداية القصة ثم يختفي فلا يظهر إلا في نهايتها.
كان ذلك حتى عام 2002، حين قررت شركة مارفل ركوب موجة الإثارة التي لفّت الجماهير الغربية مع انتشار مصطلح «الحرب على الإرهاب»، وتسليط الضوء على الجماعات المسلمة في العالم العربي وجنوب آسيا لتعلن انضمام شخصية امرأة مسلمة لفريقها المسمى «المتحولون» (The Mutants).
القوى الصحراوية الخارقة
كانت ثريا البطلة المتحولة الجديدة القادمة من قندرهار في أفغانستان. حيث نتعرف عليها لأول مرة حين ينقذها وولفرين -أحد الشخصيات الرئيسة في فريق «المتحولين»- من مجندي طالبان خلال الحرب الأميركية على أفغانستان. لُقبت ثريا بـ(Dust) أو «تراب»، وذلك لقدرتها الخارقة في التحول إلى تراب.
لكن وصول بطلة خارقة مسلمة تقاتل في صفوف الأخيار أحدث موجة انتقادات واسعة لم تتوقف حتى اليوم. من جملة الانتقادات التي تلقتها الشخصية، لباسها الضيق الذي علق عليه كثيرٌ من المتابعين بسبب ما رأوه من عدم اتساق مع نقاب ثريا النابع من قناعة شخصية، والذي يفترض الاحتشام في إبراز معالم الجسد، ما دفع بعض جمهورها لرسم أزياء يرونها أكثر ملائمة لشخصية «تراب».
يبدو لمتابع شخصية ثريا أنها خليط من صور نمطية استشراقية عن المرأة المسلمة في بدايات الألفية، وتتقاطع في هويتها المسلمة ثقافات متعددة غير متجانسة، فهي أفغانية لكنها لا تتحدث إلا العربية دونًا عن اللغات المحكية في بلادها، وهي تلبس العباءة السوداء رغم عدم شيوعها بين الأفغانيات.
أما عن قواها الشخصية في التحول إلى تراب، فيعزو كُتابها خيارهم هذا إلى استلهامهم إياه من «الصحارى القاحلة في شبه الجزيرة العربية وإفريقيا» على بُعد آلاف الكليومترات من بلدها.
وأما على المستوى الديني، فحين نراها تمارس شعائرها الدينية فلا نرى ممارسات اعتيادية منتشرة بين المسلمين، فهي تصلي في نقابها وحين ترفع يدها للدعاء نراها تستحضر الشهادتين، وحين تُسأل عن سبب اعتزالها زملائها أثناء تناول وجباتهم تتعذر بحجابها ونقابها التي تشير إليه بـ«قبعتي».
البطل الآخر المدجن
في مقارنتها بين الشخصيات المسلمة ونظيراتها من غير المسلمين في قصص الأبطال الخارقين، تستحضر الباحثة في جامعة رايرسن الكندية، صفية حسين، مصطلح «الدجين الآخر» للباحثة الاستشراقية قاياتري سبيفاك، حيث يصور هذا المصطلح النسخة التي يرتضيها الغربي عن «الآخر».
تجتمع في هذا «المدجن» كل الصور النمطية المحمولة عنه مع إضافات تتماشى مع خطاب تحرير الغربي للآخر. فثريا مسلمة محافظة لكنها مستقلة وقوية، ولباسها على الرغم من احتشامه يركز على مفاتن جسدها ويبرزها، وهي العلامة التقليدية للباس كل البطلات الخارقات على مر العقود.
ورغم قوتها وقدرتها على سلخ جلود ثلاثة عشر مقاتلًا طالبانيًّا، إلا أنها تظل دائمًا في حاجة إلى مخلص أميركي ينقذها من رجال بلدها.
عالم الأبطال الخارقين والواقع
قد لا تعكس قصص الأبطال الخارقين الواقع لقرائها، لكنها قريبة منه؛ تتفاعل معه وتعلق عليه. فترى صفية حسين أن شخصية «تراب» وبعض الأحداث التي مرت بها خلال ظهورها الأول في الغزو الأميركي على أفغانستان يعكس الآراء السياسية التي يحملها كاتب هذه السلسلة حول الحرب.
فبعد أن يقاتل وولفرين مقاتلي طالبان، يدخل خيمة في طريقه ليجد فيها «تراب» مغشيًا عليها، أسيرة لص فرنسي يريد بيعها في سوق النخاسة الرائج بين البشر «المتحولين»، فينجح بإنقاذها من هذا المصير.
فإلى جانب نظرة «الأبيض المنقذ» (White saviorism) المترسبة عن بقايا الاستعمار، تقول صفية بأن هذا المشهد يعكس آراء كاتب السلسلة قرانت موريسن والواضحة في التعليقات المرافقة للحوارات. إذ يعبر عن سخط الحكومة الأميركية من رفض فرنسا القاطع التدخل في العراق بعد عامين من دخول أفغانستان.
أثر البطل الخارق في حياة قارئه
تميل هذه القصص بطبيعتها إلى عرض شخصياتها في صور نمطية قوية التأثير لما ينبغي أن تكون عليه هوية الإنسان: سواء أكانت الهوية الجنسية أو الطبقية أو العرقية أو غيرها، على قراء هذه القصص. حيث يوازي العنصر البصري الطاغي بأهميته النص المكتوب المرافق لها.
يخبرنا إدوارد سعيد عن الدهشة التي تعتري قارئ هذه القصص منطلقًا من تجربته الأولى في قرائتها. فيقول بأن القصة التي كان يقرأها في صغره بصور وكلمات جريئة مثّلت له الحقيقة بعينها، لكنه أيضًا كان يندهش من الألفة التي فرضتها هذه القصص على ثقافته ومعاداتها لما تمثله.
لكن سعيد لم يلق بالاً حينها لكل هذه المشاعر؛ وكان يكفيه أن تحرره هذه الصور بكلماتها من أنماط التفكير التي اعتادها، ليتخيل ويرى العالم بشكل مختلف.
تقول سنا أمانت، أحد منتجي سلسلة «الآنسة مارفل» بأن التوقعات التي يحملها المقربون عنا تجعلها مع مرور الوقت جزء منا. فتخبو آمالنا وتوقعاتنا عن أنفسنا وكأنها تختبئ تحت «قناع» نخفي خلفه حقيقتنا عمن حولنا، وأن شركة مارفل -بالرغم من كل أخطائها- كانت تحاول منذ خمسة وسبعين عامًا رواية قصص المنبوذين من وراء ستار أقنعتهم.
محاولات مسلمة لرسم بطل خارق مسلم
ربما جسّد هذا التعلق بعالم ذي قوى ميتافيزيقية الدافع وراء الكثير من الخلفيات الثقافية المسلمة إلى خوض غمار هذا الفن ونشره بين قرائه. فبين الظهور الأول لثريا قادر وكمالا خان، ظهر الكثير من الأبطال الخارقين المسلمين في محاولة لسد نقص التمثيل الحقيقي في هذه العوالم الخيالية.
ومن بين أهم تلك المحاولات الناجحة، عالم «مجموعة الـ99» الذي وضع أسسه أستاذ الطب النفسي في جامعة الكويت، الدكتور نايف المطوع، وأطلقه من خلال شركته تشكيل للقصص المصورة عام 2004.
وشيد المطوع هذا العالم على قصة تسعٍ وتسعين حجرًا تحمل معاني أسماء الله الحسنى، بحيث تصبح قوى هذه الأحجار في حوزة من يحملها. وبذا، أظهرت السلسلة أبطالاً من عدة دول مسلمة حول العالم.
وفي عام 2013، قررت شركة دي سي أن تحذو حذو منافستها مارفل. فأخرجت لقرائها شخصية الأميركي المسلم من أصل لبناني، سايمن باز، والذي كتبه جيف جونز، أميركي من أصل لبناني، وحاول أن يقتبس بعض تفاصيل حياته في شخصية باز.
تلى ذلك ظهور شخصية «إمارة»، بطلة خارقة أطلقتها الإماراتية فاطمة المهيري، لأنها كانت تبحث عنها في طفولتها «لكنها لم تكن موجودة آنذاك».
ويضاف إلى ما سبق الكثير من الشخصيات الناجحة التي خرجت من شركات صغيرة ورسامين على شبكات الإنترنت حول العالم، فكسرت هيمنة كبرى شركات القصص المصورة الأميركية واحتكارها لهذا الفن وتمثيل المجتمعات المسلمة حول العالم فيه. من تلك الشخصيات «براق» التي كتبها عادل امتياز، وشخصية «لطيفة» السعودية التي كتبها فهد السعود.
الآنسة مارفل المسلمة
حين تتحدث عن تجربة إنتاج سلسلة الآنسة مارفل، تستذكر سنا أمانت بيتًا للشاعر جلال الدين الرومي: «لا تقنع بالحكايا التي نُسجت قبل قدومك، احكِ اسطورتك بنفسك.» وكان إلهامًا أعانها على تحقيق حلمها، لتحيك مع فريقها قصة تشبه قصتها: فتاة عادية مسلمة من أسرة باكستانية محافظة، تعيش في ولاية نيو جيرسي.
يعزو الكثيرون نجاح كمالا خان إلى تجذّر قصتها في تجارب كتابها المسلمين: سنا أمانت وجي ويلو ويلسن. فالقصص التي نقرأها في هذه السلسلة قصص يألفها المسلمون في دول يمثلون فيها الأقلية: كتنازعها بين رغبتها في أكل لحم الخنزير ومعتقدها الديني، أو إلقاء والدتها اللوم على ثقافة بلدها الجديد بسبب ما تراه طيشًا في تصرفات ابنتها.
أدى نجاح السلسلة الباهر إلى قرار استوديوهات مارفل تحويلها إلى مسلسل درامي بطاقم ذي غالبية عربية مسلمة، أُعلن عنه نهاية العام الفائت.
لكن أهم عناصر خلطة النجاح هذه -التنوع الثقافي في فريق العمل- لم ينعكس على سلسلة أخرى من سلاسل شركة مارفل، سلسلة «الأبطال» (Champions) حين استعارت «الآنسة مارفل» لتقاتل في صفوف الأبطال لديها.
إذ ظهرت مع كاتبه الناجح في هذا الأدب مارك ويد تقاتل في بلدٍ آسيويٍّ متخيلٍ رجالاً إرهابيين تشبههم صفية حسين بالشخصيات الشريرة المسلمة التي اعتدنا ظهورها النمطي في أفلام هوليود.
الشرق والغرب في تمثيل المسلمين في القصص المصورة
كان من أهم الملاحظات على هذا الظهور للآنسة مارفل بعيدًا عن عالمها الخاص تخليد الفوقية الغربية في الشرق. حيث نُظر للآنسة مارفل كإحدى أعضاء فريق غربي، لا بصفتها كمالا خان الباكستانية المسلمة.
يخبرني المدون السعودي حسين «أبو لين» أن الفشل العام في تمثيل المسلمين بحميع أطيافهم في قصص الأبطال الخارقين نابعٌ من اهتمام الشركات الكبرى أولًا بسوقها المحلي الأميركي. ومع ذلك، تدل التجارب الأخيرة على أننا نعيش مرحلة تصحيح للصور النمطية التي سادت هذا الفن لعقود من الزمن.
توافق صفية حسين أبو لين في مسألة تركيز هذه الشركات على تمثيل الأقليات المسلمة في الغرب. وتقول أن هذه النزعة في تحسين صورة التمثيل آتية من حاجة يعيشها المسلمون هناك لأن «الإسلاموفوبيا هناك حقيقة ومرعبة» وهو ما قد لا يستشعره المسلمون في بلادهم التي يشكلون فيها الأغلبية.
وفي الوقت ذاته، تُقر لي بجاذبية هذه الشخصيات للجماهير العالمية، خصوصًا مع موجة الأفلام الأخيرة. وتقول بأن قلة الحساسية الثقافية في تفاصيل شخصية مثل «تراب» تخلق أثرًا محسوسًا في جميع المجتمعات المسلمة الشرقية والغربية. فحتى لو فرقتنا الحدود والثقافات، تبقى مشكلتنا مع التمثيل النمطي واحدة.
لكنها ترى أن الحل يكمن أيضًا في تركيز الجهود على خلق شخصيات مسلمة خارقة ضمن عوالمها الثقافية الشرقية، كما نجح بذلك كثيرٌ من المسلمين في بلدانهم.
وحتى منتجة أنجح سلسلة لبطلة خارقة مسلمة، سنا أمانات، ترى أن المهمة لا تزال صعبة، «لكن كل كلمة نكتبها في قصصنا ستقربنا مما نخبئه تحت أقنعتنا، وقد يدفعنا ذلك إلى تقبل الشقي المجنون فينا.»
قد يكون من غير المنصف ألا نلتفت لجهود صناع القصص المصورة في عالمنا المسلم، ونحن ننتقد عدم تمثيل كمالا خان لنا لأننا لم نرغب يومًا بأكل لحم الخنزير. فبفضل تطور التقنية وانتشارها، نعيش اليوم أفضل وقت يمكن للشخص فيه أن يخبر قصته بنفسه، فلم ننتظر من كبرى الشركات الأميركية أن تخبر قصصنا عنا؟