أرض المعارك المتخيلة: عن الطفولة والانتماء في عوالم فورتنايت

كنت أعاني من تقوقع ابنتي وانعزالها عن الأطفال في زيارات الأقارب. أما بعد انضمامها إلى عوالم فورتنايت فقد وجدت مدخلها إلى ساحة لعب العائلة.

يبدأ صباحي يوميًا بالهدوء والسكينة. أستيقظ، ومن مكاني أتأكد من أية اتصالات أو رسائل مهمة. ومن ثم أمارس بعض التأمل على السرير، أو كما يطلق عليها بالعامية «تناحة»، وهي النظر إلى اللاشيء، والتفكير في اللاشيء.

بعد «تناحتي» البسيطة، أتوجه إلى المطبخ كي أتفقد هاتفي الذكي، وأضيع بعض الوقت في ردهات تويتر التي تمتلئ بالإيجابية والسلبية والأمل ووعود القيامة. وبينما أنا تائه في ردهات العالم الرقمي، يسحبني صوت ابنتي التي استيقظت منذ دقائق وهي تقف بجانبي: «بابا ممكن ألعب فورتنايت؟»

التواصل من وراء الشاشات 

جربت ابنتي فورتنايت منذ أكثر من نصف سنة، لكني حذفت اللعبة بعد أن مللت الصراخ اليومي عبر سماعات اللعب حين تتحدث مع أبناء عمها، لدرجة تجعلك تظنهم مصابين بالصمم.

لم يكن الصراخ سبب حذفي الوحيد، بل كان الخوف من المجهول المتمثل في تأثير هذه الألعاب عليها. ولعلي كنت متأثرًا بالأخبار المنتشرة على الإنترنت والرازخة بالمعلومات المثيرة لقلق الآباء. لذا اتبعت المثل القائل: «الباب اللي يجيلك منه ريح، سده واستريح».

كانت السنة الماضية أول عام دراسي لابنتي. وبدل ارتداء الزي المدرسي وحضور طابور الصباح، جاءت كورونا وأوقفت العالم عن الحركة، ولم تسمح لابنتي بحضور فصولها المدرسية كما كنا نتخيل.

أصبحت دراسة الأطفال عن بعد ومن وراء الشاشات. وبفضل التقنية تمكنت ابنتي من بدء دراستها، وكان فصلها صالة البيت.

حاولت المُدرسات قدر الإمكان محاكاة جو الفصل، فحالما تدلف المُدرّسة الفصل الافتراضي، تحييهن بصوت عالٍ «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

هنا يمكنك أن تتبين جودة اتصال الإنترنت لكل طالبة من سرعة ردها السلام. كلما كان الرد أسرع، تعرف أن الاتصال أفضل. وبسبب تفاوت السرعات، يأتي رد الطالبات على شكل مزيج لأصوات الفتيات المتداخلة. وينتهي بصوت آخر طالبة سمعت صوت المدرسة وهي تردد أخر جملة «وبركاته يا أبله».

استمر الأمر على هذه الحال طوال العام. أكملت ابنتي فصلها الأول وهي تعرف أصوات صديقاتها وصورهن الرمزية على برنامج مايكروسوفت تيمز. لكني لا أظن أنها ستتعرف على إحداهن في الشارع.

بعد أن خفت قيود الحظر وسُمح للناس بالخروج، وخلال أحد زيارتي لوالدَّي، استرقت السمع لحديث الأطفال، لأكتشف أن مجموعة «فورتنايت» العائلية توسعت قليلًا. فبعد أن اقتصرت هذه الدائرة في الماضي على أبناء أخي وقريبٍ أو اثنين؛ تجاوز عدد الأعضاء الآن العشرة، وكلهم من الأقرباء.

انهمكت ابنة أخي الكبيرة في الحديث عن مغامراتهم، تعدد أسماء الشخصيات وتحكي لابنتي عن الأمور المضحكة التي حدثت. غاص كلامها في عقلي وأخرج ذكريات مشاهد عديدة من أيام الطفولة.

بين المسدسات البلاستيكية والحنين إلى الماضي  

كان يوم الخميس أهم يومٍ بالنسبة لي، إذ كنا نزور دار الجد ونجتمع مع أبناء خالاتي وأخوالي. لم تكن وجبة الإفطار مهمة بقدر ما كان التواجد مبكرًا لقضاء أكبر قدر من المتعة في الجري والقفز ولعب الكرة وزيارة دكان التموينات أكثر من مرة.

كنا نحكي لأولئك الذين لم يسعفهم الوقت بالقدوم مبكرًا عن مغامراتنا الصباحية، والفتوحات الطفولية التي أنجزناها، كزيارة دكان التموينات قبل صلاة الظهر، متلذذين بنظرات القهر المرتسمة على وجوههم، حين نخبرهم عن المتعة التي فاتتهم. وأنا نفسي وقعت ضحية هذا التعذيب النفسي، أكثر من مرة.

دفعني هذا الحنين لشيء من الحزن تجاه ابنتي التي سمعت من ابنة عمها عن متعة اللعب، وكيف يقضي بقية الأقرباء وقتهم. فهي منفصلة عن هذا الجزء من حياة أقرانها من أطفال العائلة. وإن حرمت الجائحة الأطفال من التجمع أو دخول الملاهي، سمح الإنترنت لهم بالعيش في العوالم التي تخيلناها ونحن نمسك المسدسات البلاستيكية أواخر القرن العشرين.

فورتنايت وتحديات الطفولة

قررت إعادة تحميل فورتنايت مرة أخرى، شريطة تنظيم الموضوع. ضبطت ساعات اللعب وأوقفت عمليات الشراء وإضافة الأصدقاء إلا عن طريقي، وانخرطت في مراقبة الوضع مرة أخرى.

عاد الصراخ عبر السماعات، وقبل أن أفقد أعصابي وأحذف اللعبة، تواصلت مع أخي وبقية أقربائي، ليتبين لي  أن هذا السلوك متفشٍ بين الجميع، أهو الحماس المفرط أم استجابة عقولهم الصغيرة لفارق المسافات الوهمية بين شخصياتهم داخل اللعبة؟

تركناها، زوجتي وأنا، لتصرخ وتتحدث بصوت عالٍ، وفي أسوأ الأحوال كنا نغادر الغرفة ونتركها في أرض معركتها المتخيلة، تصيح وتنادي الآخرين لعل الصياح يساعد على تفريغ ما تحمله بداخلها من طاقة. 

استمريت في مراقبة ابنتي وهي تلعب، واكتشفت أن هناك «مراحل» تلعبها وأقربائها لوحدهم دون وجود شخص غريب، وهناك تسمع التحديات الطفولية. أسمعها في خضم المنافسة تصيح بابن أخي «هذا فريق البنات» في إشارة أن عليه الانضمام للفريق الآخر. 

ولو أرادوا السخرية من أحدهم ينعتونه «أنت سمكة». ورغم محاولاتي الاستفسار عن سبب اختيار «سمكة» للإهانة، لم يكن ردهم سوى «كده…سمكة». فتقبلت الموضوع وأصبحت أفهم أن السمكة في عرف الأطفال إهانة، ولعل الأسماك تعترض على هذا الاستخدام وتراه عنصرية.

ابنتي وقبيلة فورتنايت 

في الماضي، كنت أعاني من تقوقع ابنتي وانعزالها عن الأطفال في كل زيارة عائلية، وخصوصًا في الأعياد. إذ كانت لا تعرف بقية صغار العائلة، وتحتاج لوقت قبل تقبلهم واللعب معهم. أما بعد فورتنايت، صار الاندماج سهلًا عليها، فهي تعرف الأسماء والأصوات، بل وصارت تنعت الكثير منهم بـ«السمكة».

حين أسترجع بداياتي مع ألعاب الفيديو، أتذكر نقاشاتي مع أقربائي، عن مدى جمال لعبة ما أو صعوبة مرحلة منها. كما أتذكر قلق والدي من أن تصيّرني كثرة اللعب إلى «تنبل» متبلد التفكير. 

ما يريح بالي أن ابنتي لا تحب لعب  فورتنايت لوحدها، وتحبذ دائمًا الرفقة خلال اللعب. وهو مؤشر مهم يؤكد حرصها على الانتماء إلى جماعة تعرفها. Click To Tweet

مع مرور الوقت بدأت في تقبل الصراخ -أو الهروب منه- واستيعاب التغير الذي يحصل. صحيحٌ أن العالم الافتراضي ليس بديلًا لساحات اللعب، إلا أنه أصبح امتدادًا يتيح للأطفال التواصل والتفاعل بطرق مختلفة، دون الحاجة إلى انتظار نهاية الأسبوع للذهاب إلى بيت جدهم.

الألعابالتربيةالتواصلالطفلالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية