الأمراض العصبية واختراق الذات في الأدب

ففي مطلع القرن العشرين، نشر الكاتب البريطاني بروس كامينقز، كتاب «مذكرات رجل محبط» والتي تعد من أولى أدبيات الأمراض العصبية. ويصف فيها...

تعد الأمراض العصبية المسبب الرئيس للإعاقة والسبب الثاني للوفاة عالميًا. وفي ظل هذا الانتشار، أخذت بدورها حيزًا أدبيًا عبر التاريخ، فكانت موضوعًا للعديد من المذكرات والأعمال الأدبية الكلاسيكية والحديثة.

ففي مطلع القرن العشرين، نشر الكاتب البريطاني بروس كامينقز، كتاب «مذكرات رجل محبط» (The Journal of A Disappointed Man)، والتي تعد من أولى أدبيات الأمراض العصبية. ويصف فيها حياته منذ عمر الثالثة عشر حتى تشخيصه بمرض التصلب اللويحي في عمر السادسة والعشرين. وبذلك، عرّف المجتمع بمرض بالكاد كان مفهومًا آنذاك. 

وفي الثمانينيات، كتب طبيب الأعصاب البريطاني، أوليفر ساكس، مؤلفات عدة تطرق فيها إلى حالات بعض مرضاه الاستثنائية، أشهرها «الرجل الذي حسب زوجته قبعة».

وفي العام 2006، نشرت عالمة الأعصاب، جيل تايلور، مذكرة حديثة بعنوان «الجلطة التي أنارت بصيرتي»، وروت تفاصيل تعافيها واستعادتها الذاكرة والقدرة على الكلام بعد تعرضها لجلطة في الدماغ.

بالإضافة إلى مذكرات سوزانا كاهالان الشهيرة، «عقل يشتعل» (Brain on Fire)، وتحدثت فيها عن إصابتها بمرض عصبي نادر تشبه أعراضه أعراض الفصام.

قد يلجأ العديد من الكتاب إلى الرواية كمحاولة لاكتشاف هذا الفضاء الغامض، والمساهمة في توضيح الحالات العصبية بشكل عام، بعيدًا عن المصطلحات الطبية المعقدة، لنقل صورة إنسانية لتجربة المرضى وذويهم.

ويعد دوستويفسكي من رواد هذا المجال، فقد صور تجربته الشخصية مع الصرع من خلال شخصية الأمير ميشكين بطل رواية «الأبله»، لتلهم التفسيرات الأدبية لمرضه أجيالًا لاحقة من علماء الأعصاب كفرويد وقاستو.

الخيال كوسيلة لأنسنة العلم

تقول عالمة الأعصاب والكاتبة ليسا جينوفا: «من المرجح أنك لن تقرأ مجلة علم الأعصاب لهذا الشهر، لكنك قد تحصل على نسخة من رواية.»

على الرغم من حصولها على شهادة الدكتوراه في علم الأعصاب من جامعة هارفارد، ونشرها لعدة أوراق علمية، اتجهت جينوفا إلى الكتابة الروائية، لإدراكها أن قراءة الروايات تستعطف القراء. حيث تمكنهم اللغة المستخدمة وأسلوب القص من استيعاب حياة الآخرين وتجاربهم.

تبني جينوفا أعمالها حول حالات عصبية معقدة، تندرج تحت الأمراض التنكسية العصبية مثل الزهايمر والتصلب الجانبي الضموري ومرض هنتنقتون. وتؤدي هذه الأمراض إلى إتلاف الوظائف الإدراكية أو الحركية، مما يجبر المرضى على تغيير حياتهم جذريًا وتقييد استقلاليتهم بطبيعة الحال.

وتصف الكاتبة في أعمالها تفاصيل المرض وطرق العلاج المتاحة بهدف نشر التوعية، وكذلك لاستخدامها كدليل لمقدمي الرعاية ومن يواجهون تشخيصًا مشابهًا. ويتجاوز الأثر الذي تتركه عند القراء مجرد التصور التخيلي للأمراض، بل الحث على مساهمة فعلية في مكافحة للوصمة الاجتماعية المصاحبة لها.

لا أزال أليس، الذاكرة والذات في صراع الهوية 

في عام 2007، صدرت رواية جينوفا الأولى «لا تزال أليس» (Still Alice)، والتي ضربت على وتر حساس. حيث صورت شخصية أليس -أستاذة علم نفس في جامعة هارفارد- رحلة اكتشافها المبكرة بمرض الزهايمر في سن الخمسين. لتبدأ تدريجيًا بفقدان قدرتها على الحديث، وصولاً إلى قدرتها على الاعتماد على أفكارها وذكرياتها وكل ما بنت عليه هويتها.

لتبدأ بالتساؤل عما يشكل الذات، والعلاقة بين الهوية والذاكرة في خطاب ألقته في مؤتمر رعاية مرضى الخرف:

في أغلب الأحيان، تنتابني خشية من المستقبل، ماذا إن استيقظت ذات يوم ولم أعرف من هو زوجي؟ ماذا إن لم أعرف أين أنا؟ أو كيف أميز صورتي في المرآة؟ ألن أعود أنا؟ أذاك الجزء في دماغي المسؤول عن هويتي الفريدة هش وضعيف أمام هذا المرض؟ أم أن هويتي شيء يتعدى نطاق العصبونات والبروتينات والجينات الدفاعية والحمض النووي؟

ولصعوبة نقل التجربة الداخلية الكاملة لمريض الزهايمر، تقتصر معظم الكتب على نقل تجارب المختصين أو مقدمي الرعاية. لكن جينوفا حرصت في روايتها على تصوير رحلة المعاناة من منظور المصاب نفسه. حيث استخدمت الخيال الأدبي لإيمانها بقدرته على اختراق تلك الحالة الذهنية المجهولة.

غازي القصيبي وأقصوصة ألزهايمر 

يقول غازي القصيبي: «عندما يتغلغل العزيز الزهايمر في خلايا الدماغ سيحرق الماضي بأكمله. […] إن سياسة الأرض المحروقة! أرض الماضي المحروقة! هذه الفكرة بشكل خاص، تسبب لي الكآبة. أن أصبح رجلًا بلا ماضٍ، بلا ذكريات، بلا أمس.»

انشغل غازي القصيبي بهذه المسألة قبل وفاته في 2010، بعد أن نشر آخر كتبه «ألزهايمر». وتدور أحداث القصة حول البروفيسور يعقوب العريان الذي يُشخص بمرض الزهايمر، فيقرر السفر لأميركا بهدف العلاج.

من هناك، يبدأ بكتابة عدة رسائل لزوجته، يحكي فيها أفكاره ومخاوفه ومراحل تقدم المرض. ويتساءل البروفيسور في إحدى رسائله «ألا توجد قوة تقهر النسيان؟» فيجد في الحب والإيمان عزاءً له.

رغم أن الكتاب يتناول بغير إسهابٍ شعور المصاب، ويكاد يخلو من التفاصيل الطبية، إلا أن شخصية البروفيسور تعطي انطباعًا عن طريقة تعامل مجتمعاتنا العربية مع المرض. حيث يقرر أن يواجه المرض وحيدًا، خوفًا من أن يشكل عبئًا أو أن يُنظر إليه بعين الشفقة. 

التصلب الجانبي الضموري، الجسد يتخلى عن ذاته

من الجانب الآخر، يناقش كتاب جينوفا الأخير «كل النغمات التي عزفت» (Every Note Played) مرض التصلب الجانبي الضموري. فتصور الرواية حياة ريتشارد، عازف بيانو مرموق الذي شُخّص بالمرض وهو في خضم مسيرته المهنية المزدهرة. فنشهد هذا المرض المدمر يأخذ مجراه بسرعة ويتركه أضعف وعرضة لخطر الموت أكثر في كل يوم.

وكرواية «لا تزال أليس»، تتطرق هذه الرواية لموضوع الذات والهوية وارتباطها بالمرض. فالمصاب هنا قد لا يخسر ذاته فكريًا. فعندما تخلى عنه جسده، استطاع ريتشارد اتخاذ أكثر القرارات صعوبة، إما خضوعه لرقابة صحية ذات تكاليف عالية يفرضها النظام الصحي الأميركي أو أن يُترك لمواجهة مصيره، من خلال أن يرمش فقط.

وفي مثال مشابه، نذكر العالم الفيزيائي ستيفن هوكينق الذي لم يتجاوز عامه الحادي والعشرين حين شُخص بالمرض، وعاش معه لمدة تتجاوز الخمسين عامًا، نشر خلالها عدة كتب وأوراق علمية غيرت مفهوم العالم للكون وعلم الفلك.

ويوضح هوكينق في مذكراته، «موجز سيرتي الذاتية»، التي نشرها عام 2013 كيف ساهمت إصابته بالمرض في تمسكه بالحياة بشكل أكبر، فيقول: «عندما تواجه احتمال الموت في سن مبكرة، تدرك أن الحياة تستحق العيش وأن هناك الكثير من الأشياء التي تريد تحقيقها». بالإضافة إلى رجل الأعمال والمهندس السعودي سلطان العذل الذي أصيب بنفس المرض، وأدار شركاته وموظفيه باستخدام جهاز تواصل بديل قبل أن يتوفى مطلع هذا العام. 

ليس كل من يصاب بالمرض عبقريًا بذاته، إذ تصور رواية «كل النغمات التي عزفت» الشخص العادي، ذي الحرفة اليدوية، كيف يعيش حياته مدركًا أنه سيصاب بالشلل الكلي.

الأمراض العصبية، تفضيل الموت على الإعاقة

من الجانب الآخر، ساهمت عدة حملات في التوعية بهذا المرض، منها «تحدي دلو الثلج» (Ice Bucket Challenge) الذي بدأ عام 2014، ونجح خلال أربع سنوات فقط، في جمع ما يقارب التسعين مليون دولار لدعم الأبحاث العلمية.

وتصرّ جينوفا على أهمية السرد القصصي، كوسيلة أساسية لفهم شعور المصاب، رغم أهمية هذه الحملات في نشر الوعي وجمع التبرعات. «نعلم شيئًا واحدًا عن هذه الأمراض، أنها قد تقتل الناس، لكنها في الوقت ذاته لا تدمر قدرتهم على عيش حياة ذات معنى». وهذا ما تتعلمه شخصيات رواياتها في النهاية.

بطبيعة الحال، لم توفق جميع المحاولات الأدبية في تمثيل الحالات العصبية بشكل واقعي، وتعد رواية «Me Before You» أحد أشهر الأمثلة على ذلك. فقد واجهت الرواية والفيلم المقتبس منها عدة انتقادات من ناشطي حقوق الإعاقة، لتعزيزها الصورة النمطية بانعدام قيمة المصاب بالإعاقة. الصورة التي دام عرضها في الأدب والسينما. 

كما تصور الرواية قصة «ويل» شاب ثري يعيش حياة مثالية حتى تعرضه لحادث سيارة يتركه مع إصابة دائمة بالشلل الرباعي. رغم حصوله على عدة موارد وفرص، إضافة إلى عائلة وفتاة مُحبة، يعجز «ويل» عن إيجاد قيمة لحياته ويعلن رغبته باتخاذ إجراء الموت الرحيم المعروف بـ«الانتحار بمساعدة طبية». 

تعزز مثل هذه القصص تفوق الأشخاص غير المصابين بالإعاقة، في تشكيل وعي جمعي يُعنى بأهمية التغلب عليها. ويُقر بانعدام الفرصة للحياة في جسد مشلول، وأن خيار الموت هو الخيار المنطقي لمواجهة هذه الحالات.

ما هي مسؤوليتنا إزاء هذه الحالات؟

على الرغم من التحول الإيجابي في الحديث عن الأمراض العصبية، لا يزال المصابون يواجهون وصمة اجتماعية تضاعف إلى عبء المرض. لذلك، يمكن للأدب أن يشكل وسيلة فريدة للوصول إلى تلك الحالات العصبية الموجودة خارج اللغة.

إذ توظف الرواية شخصيات خيالية لحل مشاكل حقيقية، لتساعد على تقليص فجوة الوعي، والمساهمة في خلق حوار للوصول إلى نطاق أوسع من الناس، وتشكيل التصور المجتمعي للمرض والتعامل معه في مجتمعاتنا العربية.

ومع ذلك، لا تخلو الكتابة عن الأمراض، خصوصًا العصبية منها، من الاشكالات الأخلاقية أو الفنية. حيث واجهت عدة أعمال قصورًا في فهم ماهية هذه الحالات، وساهمت في نشر صورة نمطية لا تعكس الواقع.

من ناحية أخرى، اتخذت عدة أعمالٍ أدبية منحنىً واقعيًا، من خلال التعاون بين المختصين والأدباء، لإيصال صوت من فقدوا قدرة التعبير عن ذواتهم. ورغم من تأخر العلم في مساعدتهم، سيجدون تخليدًا أدبيًا لمعاناتهم.

الأدبالهويةفقدان الذاكرةالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية