كيف تخرجنا الألعاب الإلكترونية من بؤرة الأزمات النفسية؟

هل من الممكن فعلًا أن تشعل فينا الألعاب الإلكترونية شرارة الانتباه لوجود مشكلة نفسية نعاني منها؟ في عام 2017، دفعتني الضغوطات الجامعية...

كثيرًا ما نسمع أن للألعاب الإلكترونية مساوئ وآثار سلبية، إذ عادة ما تبنى هذه الرؤية على شكوك أو مخاوف أسيء فهمها. حيث قُرنت الألعاب بسوء الاستخدام والإدمان والعنف. فصارت الثقب الأسود الذي يلتهم الوقت ويسبب الاضطراب والانطواء.

ولكن للألعاب جانبًا آخر قد لا يفهمه إلا اللاعبون أنفسهم. فهل تستطيع الألعاب اليوم إخراجنا من بؤرة الأزمات النفسية التي تحيط بنا؟ 

الألعاب الإلكترونية تعزز الصحة النفسية

في الوقت الذي خضع فيه الناس حول العالم لحجر صحي إلزامي، وجدت لعبة «أنيمل كروسينق» (Animal Crossing) مرتعًا للانتشار، وكسبت شعبية كبيرة. إذ تجاوزت مبيعاتها التي بلغت 1.2 مليون مشترٍ مبيعات ألعاب شهيرة مثل «فيفا» و«كول أوف دوتي». 

ما حذا بأكاديميين من جامعة أوكسفورد منتصف نوفمبر الماضي لنشر دراسة اختبروا فيها شريحة من اللاعبين باستخدام «وقت اللعب المنزلي»، وهو عامل أساسي سهّل الحصول عليه اتصال اللاعبين الدائم بالإنترنت. إذ توفر خوادم الألعاب بنية تحتية مرنة لقياس وتتبع بيانات من هذا القبيل. 

تبدأ اللعبة على جزيرة صغيرة تسكنها حيوانات بوظائف متعددة، أحدها بائع أثاث والآخر مسؤول عقارات لتطوير المباني على الجزيرة وغيرها، ويعيش الكل في تفاعل وتكامل. 

ويكمن جمال اللعبة في استخدامها وقتك المحلي الفعلي، فإذا كانت الساعة الرابعة فجرًا بتوقيتك، ستشير الساعة لنفس الوقت في عالمك باللعبة. فتطابق الوقت مهم لصيد فصيلة معينة من الأسماك أو الفراشات ذات القيمة العالية للتقدم في مراحل اللعبة.

شجعت فكرة تماثل التوقيت هذه اللاعبين على نمط الاستيقاظ المبكر والعمل بهمة في ظل ظروف الحجر المنزلي، حيث ترتكز الأسماك المهمة في فترة الصباح الباكر.

كما تتيح اللعبة زيارة جزر الأصدقاء والتجول فيها وقضاء وقت ممتع معهم، ومشاهدة ما استطاعوا ترتيبه وتزيينه في مدينتهم وجزيرتهم الخاصة. وكان انتشار اللعبة الشعبي، حتى بين المشاهير ما عزز  شريان التواصل -ولو بصورة افتراضية- مشابهًا لحياتنا ما قبل الجائحة. 

كانت الدراسة الأول من نوعها، إذ لم يحصل أن تعاون مطورو الألعاب الإلكترونية والباحثون في قياس الأثر النفسي الذي تخلفه الألعاب. وهي بذلك تفتح الأفق لتعاون مستقبلي، سيسهم في تطوير وتوسعة الإنتاج العلمي في دراسة السلوك النفسي للاعبين ورصد مشكلاته، بالإضافة إلى تحليل بعض المظاهر المرتبطة باللاعبين كالإدمان والإفراط الإلكتروني وغير ذلك. 

وعلى أية حال، توصلت نتائج الدراسة إلى أن «أنيمل كروسينق» بالإضافة إلى ألعاب أخرى مشابهة، ساهمت -بخلاف ما هو شائع- في تعزيز الصحة النفسية للاعبين.

التشخيص النفسي الإدراكي

لا ترمي هذه الدراسة إلى إحلال الألعاب الإلكترونية محل التشخيص الطبي النفسي، بل إلى احتمالية تحفيزها على الإدراك الموضوعي لوجود خلل أو اضطراب نفسي أو ملاحظة فجوة نفسية ولو كانت طفيفة في أنفسنا.

ففي دراسة نشرت على «فرونتيرز سايكولوجي» (Frontiers in Psychology)، قيس المدى الإدراكي والموضوعي لمرضى الإكتئاب، عن طريق تعريض العينة المشاركة لألعاب الأكشن والمغامرة، وأثبتت مساعدة هذه الألعاب في تحفيز الإدراك الذاتي لمرضى الاكتئاب.

تشجع مثل هذه النتائج على طرح السؤال ذاته على المستخدمين: فهل من الممكن فعلًا أن تشعل فينا لعبة شرارة الانتباه لوجود مشكلة نفسية نعاني منها؟ 

في عام 2017، دفعتني الضغوطات الجامعية وظروف أخرى لعزل نفسي في غرفتي لعدة أسابيع. اعتكفت فيها على لعب «ريفنكت» (Refunct)، لعبة اقترحها علي بائع متجر الألعاب الإلكترونية.

صدرت اللعبة عام 2015، وعُرفت بخلطها عناصر موسيقية وبصرية متناغمة في فكرة بسيطة لا تتجاوز مدتها العشرين دقيقة، وتخاطبك فكرتها الإبداعية عن طريق «الجوائز». إذ تحمل كل جائزة سؤالًا بسيط التركيب، يتسلل بهدوء للذهن، لتنهمك في حديث مع نفسك وأنت تلعب. 

مع انغماسي باللعبة واستمراري في تلقي هذه الرسائل والأسئلة، بلغت الجائزة الأخيرة التي كان عنوانها «أنقول وداعًا؟». تردد السؤال في ذهني حتى بعد نهاية اللعبة بأيام.

بدت الأسئلة علامة واضحة للخروج من دائرة الانغلاق والعودة إلى مجرى حياتي وقبول ذاتي قبولًا تامًا. ولا أستطيع الجزم إن كانت اللعبة لوحدها الحل، ولكنها بالتأكيد إحدى أسباب كسري لحلقة العزلة تلك.

الألعاب الإلكترونية والاستنزاف النفسي

لم أكن الوحيد الذي أدرك الأثر الذاتي الذي خلفته اللعبة. إذ لحق بركب المتأثرين أحد أكبر مشاهير يوتيوب في ساحة الألعاب، «جاكسيبتك آي» (jacksepticeye). اشتهرت قناة جاك عندما نشر مقطعًا لتجربة نفس اللعبة في 2018.

يعد هذا الفيديو نموذجًا لأثر اللعبة التي تبدو في البداية لعبة قفز وتنقل عادية، لكن عشر دقائق من تلقيه الجوائز المضمنة بالأسئلة كانت كافية لتحيده عن الحديث عن اللعبة، ليتحدث عن مشاعر الاستنزاف النفسي (burnout) وضرورة المثابرة ومواصلة الكد. 

لم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، فقد ظهر في المقطع الذي يليه مباشرة يطلب من متابعيه تفهمهم لغيابه لبعض الوقت، بعد اعتيادهم مقاطع يومية منه طيلة أشهر. ليعود بعد أسبوع من غيابه بمقطع ثالث يتحدث فيه بحزن مكبوت عما يعتريه من استنزاف نفسي وإرهاق وغياب شعور النجاح حتى ومقاطعه على يوتيوب تحقق نجاحًا كبيرًا. 

حصدت هذه الفيديوهات الثلاثة مشاهدات تجاوزت الخمس ملايين ونصف. وكان من المدهش أن تجربته شابهت ما عشته وأنا ألعبها عام 2017. تجعلنا تلك الأسئلة البسيطة التي تحفز الغوص أعمق بحثًا عن إجابات تجاهلناها أو نسيناها ، ننتبه لقدرة لعبة على تحفيز إدراكنا وحثنا على الاعتراف بأزماتنا النفسية. 

الألعاب، حافز على أرض الواقع

تعدى أثر اللعبة الإدراك النفسي، وحفز جاك للبحث أكثر. إذ استقبل في حلقة خاصة أخصائية نفسية للحديث عن الاستنزاف النفسي، وأخرى للإجابة عن أسئلة متابعيه فيما يخص الصحة النفسية. لتجمع الحلقتان مليون مشاهدة تقريبًا. فصارت  التجربة فرصة لتثقيف متابعيه حول الصحة النفسية.

لعبة أخرى منحت لمستخدميها فرصة الخروج من غرف اللعب التقليدية، وحثت على التواصل والحركة الفعلية؛ «بوكيمون قو» (Pokemon Go) التي انتشرت عالميًا في 2016. إذ تقتضي القواعد خروج اللاعبين من محيط سكناهم والاندماج مع لاعبين آخرين على أرض الواقع.

وبالرغم من قضية سرقة اللعبة لبيانات اللاعبين الشخصية، أكدت الدراسة التي نشرت في موقع «سايكوسنترل» (Psychcentral) أن اللعبة ساعدت في محاربة وتقليل أعراض الاكتئاب والقلق، وزادت من قدرتهم على التواصل اجتماعيًا على أرض الواقع. 

عزز هذا الخبر البحث الذي نشرته «الجمعية الأميركية للطب النفسي»، والذي حمل التساؤل التالي: «بوكيمون قو الأداة المحتملة لعلاج مشاكل نفسية». إذ رصد البحث تغيرًا في السلوك الاجتماعي بنسبة 33% في العينة المدروسة منذ بدأوا لعب اللعبة، واستطاع 85% منهم التحدث إلى أشخاص لا يعرفونهم شخصيًا، فيما صار 76% من الشريحة يقضون وقتًا أطول مع أصدقائهم.

واستطاع 47% منهم بناء صداقة على أرض الواقع أثناء ممارستهم للعبة، بالإضافة إلى نتائج أخرى مشابهة توصلت لها الدراسة. 

الألعاب التنافسية، ترفيه نظيف

يبنى جوهر الألعاب الإلكترونية الأساسي على الترفيه المطلق أولًا،  وتفريغ الطاقة السلبية التي تتخلل يومنا. ولا يشترط أن تكون الألعاب معززة للسلوك النفسي بالضرورة، إذ  يتساءل كثيرون لِم لم تتناول هذه الدراسة ألعاب القتال والعنف مثلًا.

ويأتي الرد بأن تجارب القتال والتنافسية والعنف تقع في لب عددٍ من وسائل الترفيه الأخرى، على رأسها الرياضات البدنية. ويمكن وصفها بـ«ترفيه نظيف»، كأجواء الجنود في الحرب، أو تفريغ طاقات الشباب مثل ألعاب السباقات و ألعاب القتال.

ولتعزيز السلامة، تُأسس اتحادات الرياضة الإلكترونية، مثل «الاتحاد السعودي للرياضات الإلكترونية والذهنية» الحريص على ضمان التنافس النزيه وتنمية روح الفريق بفعالياته ودورياته الإلكترونية. فهل نرى قريبًا مزيدًا من التعاونات الدراسية بين شركات الألعاب والباحثين في المجال النفسي، لنفهم أكثر الأثر النفسي الإيجابي لألعاب الفيديو؟

الألعابالتقنيةالصحة النفسيةكوروناالمستقبل
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية