كيف يقتلنا الانحياز: صراع الحدود بين أذربيجان وأرمينيا
يلقي صراع الحدود بين أذربيجان وأرمينيا الضوء على انحيازاتنا الثقافية والدينية، كيف تشكّلنا هذه الانحيازات؟ ومن يرسم حدودها؟
ما أول شكل تتذكره للكرة الأرضية؟ هل في كتب المدرسة أم مجسم في مكتبة عامة أم من صورة طبعها التلفاز والصور الملونة في ذهنك؟ هل تتذكر الكرة الأرضية بخرائط وحدود سياسية؟ أم ألوانًا جُغرافية فقط؟
غالبًا ما تكون صورة الكرة الأرضية ذات الحدود السياسية الأكثر رسوخًا وتكرارًا. إذ يخيل لمن يعيش في دولة أنها المركز الذي يتناثر من حوله بقية دول العالم. ومع أنها مُتخيلة، يبقى تأثير هذه الحدود قويًّا على هويتنا ومن نكون وفي أي مكان يحق لنا أن نعيش ونستمر.
ورغم أهمية الخريطة في عالمنا الحديث لما تشكله من رمزية للحدود السياسية بين الدول، تستمر الخرائط في التغير، ولا يتوقف النزاع على رسمها السياسي بين الدول والأقاليم، فتندمج دول منفصلة، أو كما هو شائع، تنفصل دول موحدة. ولكل واحدة منها قصة رسمتها المصلحة الاقتصادية والحق التاريخي والعنصر الأكثر تعقيدًا: الاختلاف الديني والثقافي، وعنصر آخر يحسم النزاع برمّته؛ دعم القوى الخارجية.
سلام برعاية روسية
في بداية شهر نوفمبر من عام 2020، بلغت واحدة من أطول النزاعات الحدودية بين أذربيجان وأرمينيا نهايتها. وقد تكون الحرب الأذربيجانية الأرمينية الثالثة -التي استمرت ستة أسابيع- من أقل أحداث هذه السنة جذبًا للانتباه، بين أخبار العالم المضطربة والمروعة، من إنتشار فيروس كورونا إلى ضوضاء الانتخابات الأميركية.
إلا أن نتيجة الحرب لفتت العالم في دقتها وسرعتها، والقوة التي اكتسبتها أذربيجان من خلال مواقف داعميها مثل تركيا، وحتى المحايدين ودعاة السلام -مثل روسيا- الذين حرصوا على عدم عرقلة فوز أذربيجان بهذه الحرب، أو التغيب عن عملية السلام.
حيث انتهت الحرب باتفاقية سلام رعتها روسيا، غادر على إثرها الأرمن المناطق التي حكموها لمدة ثلاثين سنة. وسُلّمت سبعة أقاليم بشكل تدريجي تحت رعاية روسية ودعم تركي، وموقف إيراني مزدوج يقارب بين دعمه لأرمينيا، وحساسية علاقاته المتينة مع الشعب الأذري.
بداية النزاع
تعود جذور هذه الحرب إلى اقتسام منطقة القوقاز بين دول لها انتماءات دينية وعرقية مختلفة، وتاريخ طويل بدأ قبل معاهدة غوليستان في عام 1813. إذ ذاك تقسمت المنطقة بموجب الاتفاقية بين الإمبراطورية الروسية والدولة الفارسية القاجارية، وبقي جزء من الأرمن تحت الحكم العثماني، الذين زادتهم مذابح 1915 تمسكًا بهويتهم المسيحية وعلاقاتهم الروسية.
أما الآذريون، فانتموا بدورهم إلى الدولة الفارسية، نسبة إلى الجذور الثقافية والدينية والصراع المشترك بينهم، ثم العثمانية والتركية لاحقًا لاعتبارات مختلفة. لتأخذ ملامح الصراع بين أذربيجان وأرمينيا في التمظهر مطلع القرن العشرين.
انضوت المنطقة المتنازع عليها (التي يسميها الآذريون ناقورنو-كاراباخ، والأرمن ارتساخ) أولاً تحت الحكم السوفيتي، ثم حكم جمهورية القوقاز. تلى ذلك نزاع اندلع بين أرمينيا وأذربيجان بعد التفكك وأعمال القتل والتهجير التي مارسها الآذريون ضد الأرمن، مما جعل المناطق ذات الأغلبية الأرمينية تُمارس نهجًا مضادًا ومشابهًا.
وخلال فترة الصراع ما بين 1988 و1994، ضمت أرمينيا 20% من أراض أذربيجان إليها، من ضمنها إقليم ناقورنو-كاراباخ وسبعة أقاليم أخرى، كانت تسبح كجزر معزولة وسط خريطة أذربيجان.
بعد هذه الحرب ترك الآذريون قراهم ومساكنهم في هذه الأقاليم ونزحوا عنها. أما اليوم، وبعد انتصار أذربيجان في الحرب الأخيرة، غادر الأرمن قراهم بعد إحراق مساكنهم، ونبش قبور موتاهم لنقل رفاتهم إلى مكان ما داخل أرمينيا. وكأنهم لا يطيقون العيش أو حتى الموت على ذات الأرض مع الآذار.
صراع الأنا والآخر
لم يكن الصراع بين الآذريين والأرمن مسألة أرض وموارد اقتصادية في جوهره، بل مسألة اختلاف ديني وثقافي وتشابك ديموغرافي، غذته سنوات الصراع بكراهية وإلغاء مطلق للآخر، صراع ألا تكون أنت أنا؛ صراع لا يُحتمل فيه حتى وجود رفات موتى الآخر.
صمد الأرمن خلال ثلاثين سنة في مقاطعاتهم السبع، على الرغم من أنهم محاطون بالآذاريين من كل جهة. لكن الاحتكاك لم يُحسّن من العلاقات، واستمرت العداوة وعجز التواصل باعتبارها السمة الأبرز للعيش المشترك بين الشعبين على أرض القوقاز.
يذكرنا هذا الصراع الذي لم يُحل إلا بالقوة العسكرية بعد سنوات من المفاوضات والوساطات الدولية، بأكثر الحقائق بشاعة؛ أن القوة ترسم الحدود في ظل انعدام حوار جاد منع تحقيقَه الثقل التاريخي للصراع. حيث اضطر الطرفان باستمرار لإثبات وجودهما والمحافظة على هويتهما.
ما وراء القوقاز
لم يكن ما يجمع أرمينيا وأذربيجان تاريخ صراع ثنائي فقط، فقد خضعت المنطقة لحكومات شمولية متعاقبة، انفصلت على إثرها شعوب القوقاز -التي تضم أذربجيان وجورجيا وأرمينيا- في جمهورية مستقلة عن الاتحاد السوفيتي سُميت بـ «جمهورية ما وراء القوقاز السوفيتية الاشتراكية».
وتبعًا لذلك، عُيّن مفوضون شيوعيون من الاتحاد السوفيتي، كحلقة وصل بين الشعوب التي ترغب بتأسيس جمهورياتها المستقلة عن حكومة السوفييت.
أما الممثل الذي اختير لشعوب القوقاز، فكان ستيبان شيوميان، ذي الأصول الأرمينية، والذي ثبت من خلال دوره التاريخي انحيازه لأصوله وتهميش الآذار، بل وإفشال مشروعهم في تأسيس جمهوريتهم المستقلة. مما خلّف شعورًا مرًا لدى الآذاريين، والذي أدى بعد هذه الفترة البسيطة من زمن العمل المشترك إلى زمن التهجير القسري والقتل، والمطالبة بعد الاستسلام بالحفاظ على المقدسات.
كيف يقتلنا الانحياز؟
لا نستطيع التخلص من انحيازاتنا، ولا تستطيع سلطة مهما بلغ حيادها، أن تكون غير منحازة لخلفيتها الثقافية والدينية. وهذا ما لم تستطع طبيعة شيوميان الإنسانية الفكاك منه بطبيعة الحال. إلا أن التفكير في دوره في تلك الفترة يجعلنا نتساءل، ماذا لو كان أقل انحيازًا؟ ماذا لو أن لحظة اتحاد شعوب القوقاز كُللت بقدر أقل من الخسائر وبتعصب أقل؟ أكان هذا الصراع سيستمر حتى الآن؟
وبالنظر إلى الخرائط التي كونتها الحروب بشكل أساسي، مثل أوربا والقوقاز، نستطيع أن نؤكد أن أكثر العداوات شراسة وتمزيقًا هي أكثرها قربًا، وأكثر الناس اختلافًا أشدهم شبهًا. وكلما اشترك شعبان في شيء، وجدا عشرة مسائل غيرها للاختلاف عليها والتفرق بسببها.
ماذا عن الحدود التي قررتها المسطرة؟ هذا النوع من الحدود الذي نعيش بداخله في المنطقة العربية. قد نكره الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو بل ونحتقرها، وندعو إلى التقليل من شأنها، لكن ماذا لو زالت حقًا؟ ماذا لو كانت حدودنا أوسع؟ أي انحياز سيضعنا على سُدة الصراع، ويختبر اختلافاتنا؟
في نهاية هذه الحرب، تُوجت أخبار النصر بنكتة على شكل شائعة، بثها بعض الحالمون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتفيد بأن 93% من الشعب الأذربيجاني يوافق على التحول إلى المذهب السني. ويجعلنا إطلاق شائعة مثل هذه -من مسلمين سنة يحتفلون بفوز أذربيجان وينغص عليهم مذهبها الشيعي- نتأمل رغبتنا المستميتة للتشابه والاتفاق، وعجزنا على الوصول إلى صورته المثالية حتى في أحلامنا.
ترسم الحروب الحدود مدفوعة بالعنصر الثقافي والانتماء العرقي، وترسم معها مصير اختلافاتنا والبقع التي يحق لنا أن ندعوها بالوطن، وتعلمنا بشراسة أن القوة هي ما يُقرر كل هذا.
رأينا في هذه الحرب أن سنوات من محاولات الوفاق، أنهتها ستة أسابيع فقط من الحرب الشرسة بين الدولتين، وذكرتنا بوضوح أن مصيرنا كأفراد، مرهون بتدخلات خارجية، ومُهدد بانحيازاتنا الخاصة؛ وأن الهدوء الذي يعقب الحرب، هو خواء القرى، والخوف الصامت على الدير والمقدسات.