القهوة: سيرة غير ذاتيّة.. غير موضوعيّة
تحدَّث عن القهوة الكثيرون وكتب عنها القليلون وعلى ذيوعها فإن الكتابات في الشبكة بلا معنى مبتكر ولا وضع مقتدر.
عوّدتنا ثمانية كلَّ أحدٍ أن يطلَّ علينا الصديق عبدالرحمن أبو مالح في بودكاست ”فنجان“ الذي يقدّمه، فنقعدَ له مقاعد للسمّع، نرتشف -كما يقول- من كل مذاق رشفةً.. لكن هل فاتنا أن نرتشف مما أُعدَّت لأجله الفناجين؟ من القهوة السمراء التي أراق فيها الشُعراء قرائحهم، وأسال الأدباء مِداد يراعاتهم ليطوّقوا -زاعمين- شذاها الفوّاح.. عن الشاذليّة التي يقعد لها البدو مقاعد للكيف.. عن خمرة الصالحين ومُدام الواصلين..
سيكون فنجاننا هذه المرة -على غير عادة العرب- ممتلئًا حتّى أنفه. سننسلك في رحلةٍ غير مسبوقة إلى قرقعة الفناجين الأولى، للمنابت الأولى لحبّة محمدّ، كما عبّر الإنقليز عنها يومًا.. لحروب التحريم التي ذهب ضحيّتها عشّاق السمراء، وأرباب الكيف.. إلى كوب القهوة الذي تشربه اليوم وغدًا..
تحدَّثَ عن القهوة الكثيرون، وكتب عنها القليلون، وعلى ذيوعها، وتفاقم أمرها، فإن الكتابات الموجودة في الشبكة لا تعدو أن تكون تسويدًا للورق بلا معنى مبتكرٍ، ولا وضعٍ مقتَدِرٍ. ولله در القاضي أبي بكر بن العربي حيث قال:
ولا ينبغي لحصيفٍ يتصدى إلى تصنيف، أن يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، أو يبدعَ وضعًا ومبنًى. وما سوى هذين الوجهين فهو تسويدُ الورق، والتَّحلِّي بحلية السَّرَق
وأرجو أّلا أكون بهذا المقال ممن يُسوّدون الورق ويتحلّون بحليةِ السَّرق. فقد اجتهدتُ في تجميع الأشتات، وتقريب المتباعدات..وما هذا المقال في الأصل سوى قُصاصاتٍ جمعتها تذكرةً لنفسي، وجُزازاتٍ ضممتُ إليها أشباهها في طريق البحث عن المشروبات في ثقافة العرب، وقد أحسن فيها الظن من لا أجد في نفسي مدافعة طلبه. وما أبرّئ نفسي من زلّات وهفوات، وعُجمةٍ وإغلاق.. ولو بقي المقال عندي أصححه وأزيد فيه، لما نُشِرَ أبدًا.
نظرة في شهادة الميلاد
يوقفنا البحث في تاريخ القهوة على أساطيرَ قديمةٍ لا تثبتُ بها حجّةٌ عن المنشأ الأصلي للقهوة، وهي في مجملها رواياتٌ يتقارب فيها المكان، ويتباعد الزمان، ومع كونها في الغالب أساطيرَ من صنعِ الخيال إلا أنها تكشفُ بطريقة أو بأخرى وجهًا من الوجوه الثقافية للقهوة، وطَرفَا من عمل المخيّلة في صناعة البُهرج الثقافي لها منذ يومها الأوّل على كوكبنا.
فمن الروايات ما يرجع باكتشاف البنِّ إلى عهد نبي الله سليمان، في قصّة يرويها ابن العِماد الحنبلي في ”شذرات من الذهب“ وأنّ جبريل قد أوحى إلى سليمان -عليه السلام- لمّا نزل على قوم مرضى – أوحى إليه أن يأمر الجن أن يأتوه بثمر البن من بلاد اليمن، وأن يحرقه بالنار، ثم يطبخه ويسقيهم منه، ففعل، فبرئوا من علّتهم.. يقول ابن عماد الحنبليُّ: ”ثم تناسى أمرها الناس حتى ظهرت في القرن العاشر الهجري“.
في الرواية الغربية ينهض جبريل مكان الجنِّ في قصة سليمان، ويحلُّ النبي محمد محل النبي سليمان، وأن جبريل لمّا رأى غمَّ النبي وكمده، أحضر له البن وسقاه منه! ونحن في كل هذا نسبح في مخيّلات المؤرخين أو في فضاء الأساطير التي تلقّفوها بالسماع.
الموطن الأول للقهوة
في الروايتين السابقتين نلاحظ أن الرواة لم يعيّنوا المكان الذي أُتي منه بالبُن، بينما قامت الشخوص النبويّة بديلًا عن ذلك، ما جعل المؤرخين اللاحقين من العرب وغيرهم يتنازعون أطراف القضيّة بين الحبشة واليمن والصومال كلٌّ يريدُ أن يجعل أرضه الموطن الأول للقهوة، والتقارب المكاني والثقافي بين اليمن والحبشة والصومال يبرّرُ هذه التعالقات التاريخية، والتضارب في تبيين منشأ القهوة، وهذا لا يغضُّ حقيقةَ أن اليمنَ كانت الموطن الأول لظهور وتصديرِ البُن وتعريف العالم بالقهوة!
وحين يقترب رواة التاريخ من الواقعية بعيدًا عن الأساطير المحضة، يَحُلُّ الأولياء الصالحون والفقهاء محل الأنبياء والملائكة، ونمسك من هنا خيطًا يمكن تتبّعه، إذ لا تضرب هذه الروايات في جذور التاريخ بعيدًا جدًّا بحيث لا يمكن التحقّق من صدقها، بل هي لأناس معروفين، يقترب عصرهم من عصرنا، ولهم مآثر يمكن تدوينها وتناقلها التي تعزو اكتشاف القهوة في اليمن، وتسجّل لهم الريادة، على ثلاثة رجال من أهل اليمن:
على ثلاثة رجال من أهل اليمن:
فأوّلهم وأقدمهم الفقيهُ الصوفيُ عليُّ بنُ عمرَ الشاذليُّ (صاحب المَخَا) المتوفى سنة 821 هـ، وهذا الرجل يتّفق كثيرٌ من المؤرخين على أنه المكتشف الأول لشراب القهوة، وقد صحَّ عنه أنه قام برحلة إلى الحبشة، إلا أن الذين ترجموا له من علماء ما قبل القرن العاشر لم يذكروا عنه أي شيء يتعلّق بالقهوة، مع ذلك فقد ذكره العلّامة عبدالرحمن بن محمد العيدروس المتوفّى سنة 1112 هـ في كتابه ”أيناس الصفوة في أنفاس القهوة“:
كان أوّل حدوثه -أي مشروب القهوة- أوّل القرن التاسع وأواخر القرن الثامن باليمن المبارك، ومنشِئه الشيخ الإمام الحجة الهُمام صاحب المناقب الفاخرة، علي الشاذلي ابن عمرَ الشهير بدِعْسَيْن، صاحبُ المَخَا وحليف السَّخا
وهذا نصٌّ يذهب إلى أن اكتشاف القهوة يعود للشاذلي المذكور، يعضده في هذا ما جاء في كتابِ ”تفريح القلوب وتفريج الكروب“ للحبيب عمر السقّاف، ودائرة المعارف الإسلامية نقلًا عن أرجوزة العَمْريطي، ويحدّدُ ظهورها سنة 816 هـ، فإذا صحَّ هذا التاريخ فإن عَزو اكتشاف القهوة للشاذلي أمرٌ لا جدال فيه.
وثاني الثلاثة المعزو إليهم اكتشاف القهوة هو الفقيه الصوفي محمد بن سعيد الذَّبحاني المتوفى سنة 875 هـ، وللذبحاني ترجماتٌ موجزة في بعض الكتب، لا تذكر من أمر اكتشافه للقهوة شيئًا. وقد عزا اكتشاف القهوة إليه العلامة عبدالقادر بن محمد الجَزيري، المتوفى سنةَ 996 هـ.
أوليّات يمانية
وأما آخر الثلاثة الذين عُزِيَ اكتشاف القهوة لهم، هو الصوفي الفقيهُ، أبو بكرٍ عبدُاللهِ العيدروس المتوفى سنة 914 هـ، وقد انفردَ بعزو هذا الاكتشاف له، المؤرخُ الغَزِّيُّ في الكواكب السائرة جـ1/ص113 يقول عنه الغَزِّيُّ:
مبتكرُ القهوة المتّخَذةِ من البن المجلوب من اليمن، رأى البن في اليمن، فاقتات به فأعجبه، فاتخذه قوتًا وشرابًا، وأرشد أتباعه إليه
علَّقَ الأستاذُ عبدِاللاه الحِبْشي في كتابه “أوليّاتٌ يمانيّة” بعد أن ساقَ قول الغَزِّيِّ السابق:
وفي رأيي أنَّ هذا رأيٌ ضعيفٌ – أي رأيَ الغزِّي- أتى من مؤرخٍ عاش في الشام، ولم يوافقه عليه مؤرخو اليمن أنفسهم. وأنتَ تقرأُ ترجمة العيدروس المطوّلة في كتاب ”النور السافر لأعيان القرن العاشر“ لحفيده عبدالقادر بن شيخ العيدروس، فلا تجد إشارةً إلى اكتشافه لمشروب القهوة، وإنما كان مُعجبًا بشرابها، وله فيها مقاطيع كثيرة من الشعر. ومن هنا ظن من ظن أنه مكتشف القهوة.
إذن، فإن غلبة الظنِّ، وتوافر الشواهد يجعلنا نرجّحُ أن رائد اكتشافها في اليمن هو الشيخُ عمر بن علي الشاذلي، صاحبُ المَخَا.
في رحاب الدلالة
القهوة اسمٌ للخمر عند العرب، ففي لسان العرب: ”القهوة: الخمر، سميت بذلك لأنها تُقْهِي شاربها عن الطعام أَي تذهب بشهوته، وفي التهذيب أَي تُشبِعه“ وقد عدّدَّ السَّريُّ بن أحمدَ الرَّفَّاءُ (ت 362 هـ) في كتابه ”المحبُّ والمحبوب والمشموم والمشروب“ نيّفًا وخمسين اسمًا للخمر، ذكر منها القهوة، ثم نقل عن الكِسائي: ”سُمّيت قهوةً؛ لأن شاربها يُقهي، أي تذهب شهوته للطعام“.
وقد ذُكرت القهوة (الخمر) في أشعار العرب كثيرًا، منه قول الأعشى:
معتَّقةٌ قهوةٌ مُزَّةٌ.. لها زَبَدٌ بين كوبٍ ودُنٌّ
وله كذلك في معلقته:
نازعتُهم قُضُبَ الرَّيحانِ مُتَّكِئًا.. وقهوةً مُزَّةً راووقها خَضِلُ
ومن هنا، ذهب بعض الأغمار إلى أن قهوة البنِّ معروفة عند العرب الجاهليين، وقد أُتيَ هؤلاء من قِبل عدم معرفتهم بالاشتقاق والتطوّر الدلالي للكلام.
إذن أخذت قهوةُ البنِّ اسمها من قهوة الخمر لنفس العلّة؛ الإقهاء. أي أنها تُذهب شهوة الطعام. وقد نقل الشيخ عبدالقادرالجزيريُّ (ت 977هـ) في مؤلَّفه ”عُمدة الصَّفوة في حِلِّ القهوة“:
وأما اشتقاق اسم القهوة كما قال العلامة الفخر أبو بكر بن أبي يزيد في مؤلَّفه ”إثارة النخوة بحلِّ القهوة“ أنها من الإقهاء، وهو الاجتواء أي الكراهة.. حسبما نُقل عن من يعرف أحوالها، فكذلك هذا المعنى المذكور، فتُكرِه أو تُقعِد عن النوم الموضوعة (أي القهوة) لإذهابه، لِما يترتّب عليه من قيام الليل المطلوب
مادة القهوة
الخمرةُ تُقهي عن الطعام، وقهوة البُنِّ تُقهي عن النوم. وقد ذكر في موضعٍ آخر أنها تُقهي عن الطعام. كذلك.
وهنا ملاحظة تاريخية مهمّة، قبل أن نُتجاوز الكلام عن ذات القهوة، وهي أن الخلاف بين المؤرخين من القديم في شأن مكتشف القهوة ومذيعها، إنّما هو اختلافٌ في مادة القهوة من الأساس، فالقهوة كانت وصفًا لعددٍ من المشروبات قبل أن تصير عَلَمًا على القهوة المتّخذة من البن الذي نشربه اليوم، فهناك قهوة الكفتة (أو القهوة القاتية: وكانت تُتَّخذ من ورق القات) وهي أسبق في الوجود من قهوة البن، كما في كلام فخر الدين ابن بكر بن أبي يزيد المكي في العمدة، فليُراجع. ثم القهوة القِشريّة، وهي التي اتُّخذت من قِشر البنِّ، ثم القهوة البُنّية (ويُسمّونها البكريّة نسبة للسيد أبي بكر بن عبدالله العيدروس).. وحسبنا الوقوف عند هذه الإشارة دون الخوض في تحقيقٍ لا طائل منه.
المخا.. أول رشفة أوروبية للقهوة
وعند الحديث عن المخا فإننا نتحدَّثُ عن الميناء الأوّل الذي خرج منه البنُّ اليمني للعالم، وقد أخذت ”قهوة الموكا“ الشهيرة اسمها من المدينة الساحلية الوادعة أقصى غرب اليمن ”المَُخَا“، بل إن إطلاق ”الموكا“ على القهوة كان يدلّ على جودتها أوّل الأمر، وقد كانت ”قهوة المُخا“ تُشرب بداية الأمر في بلاط النبلاء الأوربيين.
ويسجّل لنا التاريخ أن البرتغاليين الذين حاولوا الاستيلاء على ساحل اليمن الغربي بداية القرن العاشر الهجري، هم أوّل الأوروبيّيين تذوّقًا للقهوة، وذلك عندما ضيّفهم شيخ المخا على ”مشروب أسود دافئ ينعش الجسم ويريح البال”.
وقد كانت أوّل صفقة عالمية للبن في ميناء المخا، للهولنديين قبل 400 سنة، عام 1037هـ (1628)، ثم استمروا في جلبه إلى مراكزهم في شمال غربي الهند وفارس ومن ثمَّ إلى هولندا، التي بدأ بيع البن اليمني فيها لأول مرّة عام 1071هـ (1661). قبل أن تنتشر مصانع البن في المخا في القرن التالي، ويبلغَ تصدير البن ذروته في عام 1132هـ (1720) إثر المصانع التي بناها الهولنديون والفرنسيون هناك.
تصدير القهوة
ولعلَّنا نقف متعجّبين أمام هذه الحقائق التاريخية التي بدأت شمسها تأفُل، ما مصير ذروة التصدير التي طالعتنا قبل 300 سنة؟ ولماذا اليمن اليوم ليس من أكبر مصدّري البن في العالم مع أن لها فضل تعريف العالم به؟
تأخذنا إجابة هذا السؤال إلى شهادة رجل سياسي درس جزيرة العرب، ووضع أصابعه علي الجروح المفتوحة، جان جاك بيربي (Jean Jacques Berreby)، يقول في كتابه ”جزيرة العرب“:
شجرة القات
”لمّا كانت شجرة القات تتطلّب الأراضي الجبليّة ذاتها -التي يُزرع بها البن- والمناخ نفسه، حلّت محلها شجرة القات“
بالطبع هذا فوق ما كانت تتّسم به طرق الزراعة من بدائية، ولنذكر في هذا السياق سعي هولندا الحثيث بداية ظهور القهوة في اليمن إلى استزراعها في ممالكها، مثل جاوه، وقد فشلت التجربة، لكنها لم تتوقف عن نثر البذور في ممالكها حتّى تمكنت من تأمين مزارعها الاستعمارية وشحن البن منها لأوروبا.
حسنًا، ظهر في اليمن منافسٌ جديد للقهوة، أخفض من مساحات زراعتها، وقد كانت الحاجة إليه أشد من حاجة الناس للقهوة، لما كان معروفًا من قدرة القات على تذويب الآلام والإيهام بواقع أفضل، فقد كان الشعب اليمني وقتها يعيش في ضنك ويعاني من استبداد الحكم الإمامي فيها.
فوق ما كانت تمارسه الوكالات الفرنسية والهولندية من احتكار وبخس لمجهودات مزارعي البن الذين فرّوا من ضرائب الحكومة وبخس وكالات التصدير إلى محصولات زراعية أقلّ إنتاجًا.
مسار القهوة
استطردنا قليلًا أو كثيرًا في الحديث عن نشأة البن، ونودُّ أن نعودَ للمسار التاريخي الجغرافي الذي مرَّت به القهوة حتى نجمع الصورة كاملةً ونفهم نظريّة نشوء المقاهي الثقافية وما صاحب دخول القهوة من طقوس وعادات في البلدان التي مرّت بها الحُبيبات الساحرة.
ربما قلنا إن البرتغاليين أول من تذوّق القهوة من الأوروبيين، ولكنهم فعلوا ذلك بعد أن كانت القهوة معروفةً في الحجاز، ووجود البرتغاليين في اليمن (بل في سواحل البحر الأحمر) كان بغرض استعماري، ولا يعدو تناولهم القهوة عند شيخ المخا موقفًا عفويًّا يليق بكرم العرب، ولا يدلُّ هذا الموقف على معرفةٍ لهم سابقة بالقهوة، وإن كان الأوروبيون لا يضيعون مثل هذه الفرص للتكسُّب واحتلال الدول، فالنفس الاستعمارية تعمل بطريقة نفعيّة خالصة.
يعني أن مسار القهوة مرّ بمكة والمدينة ومنها للقاهرة ودمشق في فترة متقاربة، ومن دمشق ومصر إلى إسطنبول ومن إسطنبول دخلت القهوة إلى أوربا ومن أوربا انتشرت القهوة لكل بلدان العالم. هذا المسار التاريخي الذي عرّف العالم الغربي بالقهوة، وإن كنّا لا ننفي اتصالا أوروبيًا مباشرًا باليمن، لكنه كان ضعيفًا، لا يمكن تفسير ظاهرة انتشار القهوة والمقاهي من خلاله، بالذات إذا عرفنا أن القهوة لم تكن مرحبًّا بها في جميع الأوساط الأوربية.
بيوت القهوة
على أية حال لم تكن خطوات القهوة في البلدان التي دخلتها وادعةً خفيفةً، ولم تكن هذه الحبوب السمراء بريئةً من اتّهام. كانت هذه الحبوب الصغيرة الساحرة تعمل عمل المتفجّرات في الثقافات التي تدخلها، ولا بُدَّ أن تُقام لأجل قدومها السياط والمقاصل، بدل الموسيقى ومراسم التشريف.
نعود إلى المسار، دخلت القهوة إلى مكّة من اليمن على يد أحد فقهاء اليمن، وبدأت تظهر في مجالس البسطاء، بعد أن كانت محكورة في مجالس العلماء والعُبّاد، وأخذت تُشرب في الأسواق والبيوت جهارًا دون إنكار، بل إنها كانت تُشرب بالحرم. وصارت تُقدّم في بيوت الكُبراء والأعيان، وصار القوم يتلذذون بنكهتها، ثم أُنشت لها أماكن مخصصة أسموها ”بيوت القهوة“ وشيئًا فشيئًا التصق بشرب القهوة والجلوس إليها مظاهرُ اجتماعيّة وطقوس تفريحية كالغناء ولعب الشطرنج، وربما صاحب ذلك الرقص والقمار أحيانًا.
محنة القهوة، وحرب الكيف
في ليلة الثالث والعشرين من ربيع الأول، عام 917 هـ، وفي أحد المقاهي جوار الحرم المكي، لم يكن شاربو القهوة الذين أرخوا العنان لسحر القهوة احتفالًا بالمولد النبي جوار الحرم، على علمٍ أن تلك الأقداح التي كانوا يتداولونها في سرور وغبطة ستنزل عليهم سِياط ناظر الحِسبة، وتُشغل الرأي الفكري في البلاد الإسلامية وتقسّم علماء الشريعة إلى فريقين يختصمان لعقود قادمة!
نعم، كانوا يشربون القهوة تحت إضاءة القناديل المتوهجة، قبل أن يلمحهم ناظر الحسبة بمكة خاير بِكْ المعمار وهو في طريقه إلى بيته من الكعبة، فتقدّم إليهم، وما إن رأوه حتى أطفأوا القناديل، فثارث الشكوك في نفسه، ووضعوا أنفسهم محل الشبهة. فأتاهم واستجوبهم عن ماهية ما يشربون، فأجابوا:
إنه شرابٌ اتُّخِذَ في هذا الزمان، وسُمِّيَ القهوة، يُطبخ من قشر حَبٍّ يأتي من بلاد اليمن، يقال له: البن.
فما سلّمَ لهم، وسمح لشكوكه أن تذهب أبعد مما تُطيق المسألة. فاقتادهم إلى الحبس، وجمع العلماء في اليوم التالي ليناقش معهم المسألة. كان منهم:
ابن ظَهِيرةَ الشافعي
والقاضي نجم الدين بن عبدالوهاب المالكي
الشيخ عبدالله اليماني الحضرمي
وغيرهم من علماء البلد الحرام
فاتّفق العلماء في تلك الجلسة على أن التمييز بين القهوة نفسها والهيئة التي تُشرب عليها، وما يصاحب شربها من مظاهر وأحوال. وأن القهوة أصلها الإباحة، وتركوا تحكيم المسألة عند الأطباء، ولعل ذلك ما كان يريده خاير بك. فأُتي بأخوين طبيبين: أحمد العجمي الكازَرُوني، وأخيه علاء الدين الكازروني، فانتهيا إلى أن القهوة مُفسدةٌ للبدن المعتدل.
الواعظ الجاهل
اعترض الشيخ نور الدين بن ناصر الشافعي (مفتي مكة آنذاك) عليهما بأن البن مباحٌ مفيدٌ حارقٌ للبلغم. فدُوفِع في ذلك، وقيل له: إنها وإن كانت مباحةً فشربها قد يجرُّ إلى معصيةٍ وتكاثر عليه الجالسون في مجلس خاير بك، ولم يسلم مفتي مكة الشافعي من أذى الجالسين، وطاله منهم التكفير والشتم. حتى إنهم وصفوه (بالواعظ الجاهل) في سؤالهم الذي ألحقوه بمحضر الاجتماع الذي أُرسِل للسلطان قانصوه الغُوري بالقاهرة بعد الاجتماع، وهذا نصُّه:
ما قولكم في مشروبٍ يُقال له القهوة، مُشاعٌ شُربه بمكة المشرّفة وغيرها، بحيث يتعاطونه في المسجد الحرام وغيره، يُدار بينهم بكأس من إناء لآخر. وقد أخبر خلقٌ ممن تابع عنه بأن كثيره يؤدي إلى السكر، وأخبر عدول من الأطباء بأنه مضرٌّ بالأبدان، وقد منَع من شربه من يُعتدُّ بقوله من العلماء بمكة والزهاد بها، وهناك شاهدٌ جاهلٌ جعل نفسه واعظًا، وأفتى الفساق بحلِّ شُربه.. فهل يحل شربه على الوجه المذكور أم يُحرم مطلقًا لكونه مسكرًا ومضرًّا بالأبدان؟ وماذا على الجاهل المبيح لشربه، وهل يجب على ولي الأمر أيّده الله تعالى إزالة هذا المنكر والمنع منه؟ ورد هذا الجاهل ومن يقول بقوله أم لا؟ ،من الحَكَمُ في ذلك؟
يمكن شمُّ رائحة التحامل في هذه البرقية التي لا شكّ أنها كُتبتْ في البدء لتأييد شكوك ناظر الحسبة خاير بك، ثم لاقتْ تعصّبًا عند بعض العلماء ممن لا معرفة له بالقهوة ولم يجرّبها في حياته، وربما كان بعضهم قد جرّبها وخَبِرَها وأيقن بحلِّها (كما يعبّر عبدالقادر الجزيري في ”عمدة الصفوة“)، لكنه اتّقى؛ خشية بطش خاير بك المعمار الذي ”كان سفيهًا بطّاشًا بالقضاة، ومتعصّبًا في جميع أموره“.
نهاية الحرب الفقهية
ولعلنا نستشفُّ أمرًا لطيفًا قد يكون خارج نطاق بحثنا، وننظر إلى أن معظم من وقف مع القهوة حين قامت الحرب الفقهية بمكة أوّ الأمر هم الشافعيّة، وليس هذا بمستغربٍ عند من عَلِمَ أن القُطرَ اليمانيَّ يغلب عليه التشفُّع، أو لنقل -لمزيد من الدقة- أوساط المتصوّفة في اليمن، وهم أول من عرف القهوة ونقلها لمكة، وكان فقهاء اليمن إذا أتوا مكة يشربون القهوة ويُشرِبونها من يجلسون معه، فلم يجد الشافعيّة في أنفسهم شيئًا مما توهمه أو لم يعرفه مشايخ المذاهب الأخرى.
حسنًا، وصلت الرسالة إلى سلطان مصر، فأصدر مرسومًا محايدًا يعوّم الأمر ولا يقضي فيه بشيء، يقول فيه:
أما القهوة فقد بلغنا أن أناسًا يشربونها على هيئة شرب الخمر، ويخلطون فيها المسكر ويغنّون عليها بآلة ويرقصون وينكسرون، ومعلومٌ أن ماء زمزم إذا شُرب على هذه الهيئة كان حرامًا، فليُمنع شُرَّابها من التظاهر بشربها والدوران بها في الأسواق
ويظهر جليًّا أن مرسوم السلطان، لم يستجب لأصوات التحيّز التي ارتفعت في المحضر ضدّ ابن ناصر الشافعي، بل كان خطابًا توفيقيًّا يحاول أن يمسك العصا من المنتصف، ومن يلاحظ ختام المرسوم لا يجد أمرًا بمنع بيع القهوة أو شربها! بل المنع من التظاهر بها: أي شربها جهرةً والدوران بها في الأسواق. ولعلّ جزءًا كبيرًا من هذا الهدوء والتوفيق سببه أنه كانت هناك حربٌ كلاميّة مستعرةٌ في القاهرة كذلك، ولم تكن القهوة ممنوعةً فيها بعدُ.
لكن هذا لم يمنع خاير بك من منع بيع القهوة وتعاطيها في مكة المكرمة، وفي سنة 918 هـ (أي بعد الحادثة بسنة) قدم الأمير قُطْلباي خلفًا لخاير بك المعمار فأكثر من شربها، فشاع شُرب القهوة واشتهرت أكثر مما كانت عليه من قبل، واستمر الأمر كذلك، حتى عام 932 هـ، حين قَدِم لمكة الشيخ محمّد بن عراق، فهاله ما رأى من أمر ذِيوع القهوة واختلاط مجالسها بالمحرّمات، فأشار على الحكام بإبطالها مع التصريح بها في ذاتها فأبطلوها، حتى توفّي سنة 933 هـ، فعاد الأمر كما كان.
القهوة بين الجائز والمباح
وفي سنوات المنع انطلقت الحرب الكلامية بين الفريقين (المجوّزين لشربها والمحرّمين)، كلّهم يكتب ويؤلف ويردّ، وكل هذا الجهد الترويجي لم يزد القهوة إلا ذيوعًا وانتشارًا، فقد سمع بها الذي لم يكن قد سمع بها من قبل، وقد شارك في هذه التظاهرة الشعبية البسطاء الذين لم يكن عندهم شيء يدافعون به عن مشروبهم الساحر سوى الشتائم والهجاء.
حتى إن أحد المفتيين بمنعها، وهو الشيخ شهاب الدين ابن عبدالحق السّنباطي أفتى بحرقها فثارت عليه العامة، وقالوا فيه يهجون:
الشيخ شهاب الدين السّنباطي
إن أقوامًا تعدَّوا والبلا منهم تأتَّى
حرّموا القهوة عمدًا .. قد رَوَوا إفكًا وبُهتًا
إن سألتَ النصَّ قالوا: .. ابن عبدالحق أفتى
يا أولي الفضل اشربوها.. واتركوا ما كان بُهتًا
ودعوا العُذَّال فيها.. يشربون الماء حتى
ومن طريف الردود على فتوى السّنباطي، ردُّ الشيخ محمد البكري الصديقي تلميذ شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عليه، إذ يقول:
الشيخ محمد البكري
أقول لمن ضاق بالهمّ صدرُه.. وأصبحَ من كُثْرِ التشاغل في فكرِ
عليك بشرب الصالحين فإنه.. شرابُ طهورٍ شرابُ طَهُرٍ ساميَ الذِّكرِ والقدرِ
فمطبوخُ قشر البن قد شاع ذكره.. عليك به تنجو من الهمّ في الصدر
وخلِّ ابنَ عبدِ الحقِّ يُفتي برأيه.. وخذها بفتوىً من أبي الحسن البكري
هدم المقاهي
على أية حالٍ.. لو طلبنا تقصّي التواريخ التي مُنعت فيها القهوة ثم فُسحتْ لطال بنا الحديث، ولوجدنا أنفسنا نتتبّع التفاصيل التي محلُّها المدوّنات التاريخيّة، ولأخَذَنَا المنع إلى بلادٍ كثيرة، فعندك القاهرة، والشام، والقدس، وسراييڤو، وإسطنبول..
وفي إسطنبول يُروى أن السلطان مراد الرابع قد أمر بمنع القهوة سنة 1024 هـ وهَدَمَ المقاهي، بل إنه أمر بإعدام بعض الأشخاص الذين لم يمتثلوا لأمر المنع وفضّلوا اتّباع الكيف، إلا أن ثورة أصحاب السمراء لم يكن بالإمكان كبحها بقرارات سلطانية، فسُمح بها في عهد السلطان محمد الرابع. أخذت حروب التحريم أكثر من 120 عامًا حتّى انتصر أصحاب السمراء انتصارًا يجعلنا نحتفي بكل كوبٍ يقع بين أيدينا، ونسكنَه أقصى آفاق أعصابنا المنهوكة ليغسلها برفقٍ ولباقة.
أبواب القهوة
دخلت القهوة إلى مصر عبر رواق اليمنيين الذين يدرسون في الأزهر، ودخلت إلى الشام حين زارها الشيخ علي بن محمَّدٍ بن عِراق عام 947 هـ قادمًا من الحجاز، فشرب القهوة وأشْربها من كان معه في المجلس واشتهرت من ذلك الوقت.
ومن الطرائف أن محمد بن عراق الذي مرَّ ذكره من قبل قد كان من المنكرين للقهوة، وهذا ابنه عليُّ هو من نشرها في دمشق! أمّا إسطنبول فقد دخلت فيها القهوة على يد تاجريْن سوريّين: حَكَم الحلبي، وشمس الدمشقي، اللذين قدِما إلى إسطنبول سنة 962 هـ وافتتحا فيها أول مقهى.
وأدخَل النمساويون القهوة إلى النمسا عام 1094 هـ بعد أن هزموا الأتراك في موقعة فيينا، فقد حدث أن أراد إمبراطور النمسا أن يكافئ أحد جنوده ويُدعى (كولشتزكي) على بطولته، فخيّره أن ينتقي ما يحبُّ من الغنائم، فختار الجنديُّ كميّة كبيرة من البن، وطلب من أحد الجنود الأتراك الأسرى أن يعلّمه طريقة صنع القهوة، وافتتح بذلك أول مقهى في فيينا.
دخلت القهوة إلى أوربا.. إما عن طريق الرحالات أو الحروب والغنائم أو التجارة، المهم أنها دخلت إلى العالم الغربي من أوسع أبوابه. انتشرت المقاهي في أوربا كالبقل، هذا في أوكسفورد، وذاك في فيينا، وآخر في أمستردام، وأقدمَ في لندن. ولم تكن الحبوب السمراء في أقداحها الأوربية بريئةً من التُّهم التي لاحقتها في الأقداح العربيّة، إن لم تكن أشدّ!
يا لهذه الحبوب المسكينة!
دار الجدل في الغرب كثيرًا حول الحبوب السمراء حتّى عَدَّها بعضهم مؤامرةً ”تركيّة“ يريدون بها الأتراك أسلمة أوربا! وتحفّظ بعضهم على القهوة لأنها؛ لا تجلب النصر كما تفعل جعّة الشعير.. وإن تعجبْ، فاعجب من صنيع رئيس أساقفة كانتربري الأسقف ”لاند“ إذ تقدم عام 1047 هـ (1637) بمذكرةٍ لمجلس العموم البريطاني طالب فيها بتحريم القهوة، وقد صدر تشريعُ بذلك، حتى إنهم أطلقوا على البن آنذاك ”حبّة محمد“؛ لأنهم أخذوها من المسلمين.. وعدّ القهوة مؤامرة إسلاميّة لتدمير المسيحية. وربما تكون هذه الحادثة وشبيهاتٌ لها لم يذكرها التاريخ أحد الدوافع اللاواعية لتفضيل البريطانيين للشاي! من يدري؟
وقد بلغت المعركة أوجها في مرسيليا عام 1090 هـ (1679)، حسب ما تذكره لنا عالمة الآثار والتاريخ جاكلين بيرين (Jacqueline Pirenne) في كتابها ”اكتشاف جزيرة العرب“.. ولم يكن قادة هذه المعركة من رجال الدين، بل من رجال الطب. فقد تقدّم طبيب شابٌ بأطروحة طبيّة بمناسبة تخرجه من معهد الطب..
جزم في أطروحته أن القهوة تقود إلى الشلل بعد عمليّة متكلّفة من القياسات والتعسّفات.. لكن معهد الطب لم يستطع حمل الناس على النفور من القهوة التي صارت منافسةً للخمور في فرنسًا. ومن نافلة القول أن القهوة دخلت لفرنسا عبر أحد السفراء الأتراك عام 1080 هـ ( 1669) ثم انتشرتْ بكل هدوء في كل ركن في فرنسا.
أخيرًا انتصرت القهوة على كل خطابات التحريم والكراهية، فازتْ السّمراء العَبِقة بمقعدها الدائم في جدول أعمال سكّان الكوكب.. جمعت أضداد البشر، ومتنافر النفوس.. القهوة هي السعادة بشكلها السائل.. حتى إن المتصوّفة كانوا يصفون القهوة لمريديهم إذا أرادوا غسل همومهم وتفريح قلوبهم. بل روي عن أحدهم أنه قال: ”القبض على البُنِّ يذهب الحُزن“.
مهما تكلّمنا عن القهوة، فهنالك المزيد.. ومهما شربنا من الأقداح، فالذي بانتظارنا أكثر..