جذور الاستقطاب السياسي بين الحزب الديمقراطي والجمهوري
نظن أن الاستقطاب السياسي والصراعات الحزبية الصبيانية الأميركية زادت بتولي ترامب لمنصبه الرئاسي، لكنها جزءٌ لا يتجزأ من الانتخابات الأميركية.
في فبراير من هذا العام ألقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب خطاب حالة الاتحاد أمام الكونقرس. إلا أن هذا التقليد السنوي اختلف هذه المرة، إذ كان الرئيس الأميركي يخضع لمحاكمة من قبل الكونقرس تقودها الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب.
و بمعزل عن مضمون الخطاب، كان الأداء الاستعراضي للرئيس ترمب ورئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي الحدث الأهم. فقد تجاهل الرئيس يد بيلوسي الممدودة لمصافحته قبل بداية الخطاب، وبدورها قامت بيلوسي بتمزيق نسخة مكتوبة من خطاب الرئيس فور انتهائه.
حصل كل هذا أمام مشاهد الملايين من الشعب الأمريكي. ورغم غرابة هذا السلوك، إلا أن هذه المناكفات العلنية بين قادة الحزبين الديمقراطي والجمهوري ليست إلا إحدى تجليات حالة الاحتراب السياسي والاستقطاب المتفاقم بينهما.
قد يظن المتابع للسياسة الأميركية خلال الأعوام القليلة الماضية، وتحديدًا منذ فوز دونالد ترمب بالرئاسة عام 2016 أن الاحتراب والاستقطاب السياسي الحالي هو حالة طارئة مرتبطة بشخص ترمب وخطابه الذي يؤجج الانقسام والعداوة.
كما يربط البعض هذه الظاهرة بالصعود العالمي للحركات الشعبوية، أو بتأثير وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. ولربما ساهمت كل هذه العوامل في تأجيج حدة الاستقطاب، إلا أن جذور الاستقطاب والاحتراب المتفاقم بين الحزبين تعود لما يزيد على نصف قرن.
الاستقطاب بين النخب السياسية
يشير مصطلح الاستقطاب عادةً إلى تباعد المواقف الأيدولوجية والرؤى السياسية بين الفاعلين السياسيين. أما في السياق الأميركي، يستخدم الاستقطاب لوصف مدى ابتعاد كل من الحزبين عن دائرة الوسط الأيديولوجي المعتدلة والميل نحو الأطراف يمينًا ويسارًا.
ويتفق أغلب دراسي السياسة الأميركية على وجود استقطاب متزايد بين النخب السياسية، وتحديدًا داخل الكونقرس الأميركي. ويمكن قياس مدى الاستقطاب بين النخبة بالنظر للسجل التصويتي لأعضاء الكونقرس خلال القرن الماضي، حيث يحدد هذا المقياس موقعًا إيديولوجيًا لكل عضو في الكونقرس، كما يقدم لنا تقديرًا لمتوسط أيديولوجية كل حزب.
يوضح الرسم البياني أعلاه التغير في المسافة بين متوسط الموقف الأيديولوجي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. فمنذ الثلاثينيات الميلادية، كان التقارب الأيديولوجي بين الحزبين كبيرًا، إلا أنه بدأ في الاتساع تدريجيًا منذ السبعينيات. حيث أصبح الحزب الجمهوري أكثر محافظة والديمقراطي أكثر ليبرالية، كما صار أعضاء كل حزب أقل تنوعًا وأكثر تجانسًا أيديولوجيًا.
الحزبية السلبية
إذا كان هذا حال النخبة الحزبية، فماذا عن الشعب الأميركي؟ يختلف الباحثون في مدى الاستقطاب بين عامة الشعب الأميركي. فيرى البعض أن لا تغيير يذكر حصل في المواقف الأيديولوجية أو التفضيلات السياسية لغالبية المواطنين الأميركيين خلال العقود الأربعة الأخيرة، وأن ظاهرة الاستقطاب المتفاقمة تقتصر على النخب السياسية والنشطاء الحزبيين.
أصبح الدافع الأبرز للتصويت لحزب ما هو العداء للحزب الآخر
إلا أن تفاقم العداء بين أنصار الحزبين لا يتطلب تغيرًا في المواقف الأيديولوجية. هذا ما يبرهن عليه صعود ما يسمى «الحزبية السلبية» (Negative Partisanship) بين الناخبين. ففي دراسة نشرت في عام 2015، وجد إبرامويتز و ويبستر (Abramowitz and Webster) أن عددًا متزايدًا من المنتمين لأحد الحزبين عبروا عن عدائهم الشديد للحزب الآخر.
كما وجدا أن شعور العداوة لحزب ما منفصل عن مدى الولاء للحزب الآخر، حيث عبر الكثير ممن يصفون أنفسهم بالمستقلين عن عداء متزايد لأحد الحزبين. ونتيجة لذلك، أصبح الدافع الأبرز للتصويت لحزب ما هو العداء للحزب الآخر. فعلى سبيل المثال، فإن كراهية الحزب الديمقراطي تقود ناخبًا ما للتصويت لمرشح جمهوري رغم عدم اقتناعه أو إعجابه بشخص أو سياسات ذلك المرشح.
الجذور التاريخية للاستقطاب السياسي
يقدم أستاذ علم الاجتماع في جامعة ستانفورد دوق ماكادم (Doug McAdam) و الباحثة كارينا كلوس (Karina Kloos) في كتابهما المنشور عام 2014 سردًا تاريخيًا عن التحول الذي طال الحزبين منذ الستينيات الميلادية.
كان للحزب الديمقراطي قاعدة واسعة في الولايات الجنوب أميركية بين البيض، ساهم في ترسيخها كراهية الجنوبيين البيض للحزب الجمهوري كونه حزب لينكون الذي قاد جيش الشمال ضد الولايات الجنوبية المنفصلة خلال الحرب الأهلية.
في عام 1932، سعى الرئيس الأميركي روزفلت لحشد الدعم لأجندته التشريعية عبر بناء «تحالف الصفقة الجديدة» (The New Deal)، والذي جمع بين صفوفه عدة جماعات متنافرة عرقيًا وأيديولوجيًا، كان من بينها نقابات العمال والسود والمحافظون البيض في الجنوب.
شكّل هذا التحالف مصدر قوة للحزب الديمقراطي ضمنت له هيمنة شبه كاملة على الكونقرس لعدة عقود. كما كان تحالف الخصوم هذا سببًا مهمًا في فوز الرئيس الديمقراطي جون كيندي في انتخابات الرئاسة عام 1960، حيث كان لأصوات الناخبين السود دور مهم في فوز كيندي بولايات جمهورية، بينما دعم الناخبون البيض كيندي في ولايات الجنوب.
وبالمقابل، كان أعضاء الحزب الجمهوري في الكونقرس أكثر تنوعًا وليبرالية من كثير من الديمقراطيين، خصوصًا فيما يتعلق بقضايا الحقوق المدنية والتمييز العرقي.
حركة الحقوق المدنية و تأثيرها على الحزبين
لعب العامل العرقي دورًا كبيرًا في التحولات التاريخية التي أنتجت الواقع السياسي الذي نراه اليوم. أدى الحراك الاحتجاجي المتزايد لحركة الحقوق المدنية في أوائل الستينيات إلى زيادة الضغط على قيادة الحزب الديمقراطي الذي كان يسيطر على الرئاسة والكونقرس، لإقرار تشريعات تنهي التمييز والفصل الذي يواجهه السود في الولايات الجنوبية.
لاقت هذه المطالبات معارضة كبيرة في الولايات الجنوبية، خصوصًا بين قادة الحزب الديمقراطي في تلك الولايات الذين سعوا لإجهاض محاولات إنهاء التمييز والفصل العنصري بشتى الوسائل. وكان حاكم ولاية ألاباما جورج والاس (George Wallace) من أبرز السياسيين الديمقراطيين المعارضين لحركة الحقوق المدنية، حيث تعهد في خطاب شهير عام 1963 بالحفاظ على سياسات الفصل العنصري «اليوم وغدًا وللأبد».
إلا أن الكونقرس أقر تشريع الحقوق المدنية عام 1964، تلاه تشريع حق التصويت عام 1965 وذلك بدعم من بعض أعضاء الحزب الجمهوري و معارضة ديمقراطيي الجنوب.
كان هذا سببًا رئيسًا في تفكك تحالف الصفقة الجديدة والذي طالما اعتبر مصدر قوة للحزب الديمقراطي، حيث أدى انشقاق ديمقراطيي الجنوب المؤيدين لسياسات الفصل والتمييز ضد السود إلى خسارة الحزب الديمقراطي سيطرته على الولايات الجنوبية.
في الوقت ذاته، عمل الحزب الجمهوري جاهدًا على ترسيخ نفوذه في تلك الولايات عبر ما أطلق عليه «الاستراتيجية الجنوبية» والتي اجتهدت في استغلال ردة فعل البيض المناهضين لحركة الحقوق المدنية. وبحلول عقد الثمانينيات، صارت الولايات الجنوبية معقلًا للحزب الجمهوري.
وهكذا، غيرت حركة الحقوق المدنية والحركات المناهضة لها الطبيعة الأيديولوجية والجغرافية للتحالفات المكونة للحزبين، ودفعت الحزب الديمقراطي نحو اليسار والجمهوري نحو اليمين. وكما يوضح الرسم البياني أعلاه، نتج عن هذا الاستقطاب اتساع متزايد للهوة الأيديولوجية بين أعضاء الحزبين في الكونقرس.
الأغلبيات القلقة
إلا أن التحول لم يكن أيديولوجيًا فحسب، حيث ترى فرانسيس ليي (Frances Lee) أستاذة السياسة في جامعة برينستون، أن تغير التحالفات الحزبية نتيجة لحركة الحقوق المدنية وإنهيار تحالف الصفقة الجديدة كان له تأثير كبير على طبيعة التنافس الانتخابي بين الحزبين.
كان الحزب الديمقراطي هو الحزب الأقوى والمهيمن على الكونقرس منذ الثلاثينيات وحتى بداية الثمانينيات، بينما كان الحزب الجمهوري حزب أقلية طيلة هذه الفترة، ولم يعتقد غالبية أعضائه بقدرتهم على الحصول على الأغلبية في الكونقرس.
قادت هذه القناعة بدور الأقلية النواب الجمهوريين للتعاون مع الأغلبية الديمقراطية أملًا في الحصول على شيء من التأثير على السياسات العامة. ونتيجة لذلك، كان من السائد إقرار تشريعات مدعومة من كلا الحزبين (Bipartisan).
إلا أنه ومنذ الثمانينيات، ونتيجة للتحولات التي ذكرناها سابقًا، زادت قوة الحزب الجمهوري وأصبح ندًا لنظيره الديمقراطي. واعتبر فوز رونالد ريقان الساحق بالرئاسة عام 1980 أحد تجليات هذا التحول، و الذي اكتمل عام 1994 عندما نجح الجمهوريون أخيرًا في الحصول على الأغلبية في كل من مجلسي النواب والشيوخ.
غيرت هذه «الثورة الجمهورية» طبيعة التنافس بين الحزبين، فمنذ ذلك الحين تناوب الحزبان على السيطرة على الكونقرس. كما تقلص الفارق بين عدد مقاعدهما ولم يعد لأي من الحزبين أغلبية ساحقة لا يمكن فقدانها بسهولة، حيث صار من السائد أن يحصل أي حزب على ما يقارب 47 أو 53 في المئة من الأصوات في كل انتخابات تشريعية.
هذا ما تسميه ليي «الأغلبيات القلقة» (Insecure Majorities) والتي يمكن أن تتحول لأقلية بمجرد فقدان بضع مقاعد في الانتخابات المقبلة.
تضخيم الاختلاف
كان لهذه البيئة التنافسية الجديدة تأثير كبير على سلوك الحزبين داخل الكونقرس. فلكي يحافظ الحزب المسيطر على أغلبيته الضئيلة، ويستعيد حزب الأقلية الأغلبية، يتحتم على كل منهما إقناع الناخبين باختلافه الكبير عن الحزب الآخر، وإظهار الحزب المنافس على أنه فاسد وعديم الكفاءة و متطرف أيديولوجيًا.
ولتحقيق ذلك، بدأ أعضاء الحزبين بانتهاج خطاب حزبي هجومي كاستراتيجية إعلامية وانتخابية. وأصبحت العملية التشريعية مسرحًا لبث الرسائل الحزبية والهادفة إلى إيهام الناخبين بالفرق الشاسع بين الحزبين في كل القضايا. يتم هذا على حساب العملية التشريعية ذاتها، حيث يصبح التعاون بين أعضاء الحزبين لتمرير التشريعات استراتيجية خاسرة، كونها توحي بمحدودية الاختلاف بين الحزبين وتضفي شرعية على الحزب المنافس.
الاحتراب الحزبي كاستراتيجية انتخابية
تظهر هذه الاستراتيجية بجلاء في أداء أعضاء الكونقرس، فإضافة لدورهم كمشرعين، تحتم على أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب العمل باستمرار على تحسين صورة الحزب وتشويه الحزب المنافس، وهو ما تسميه ليي «الحملة الانتخابية الدائمة» (Perpetual Campaign).
كما تنامت ظاهرة استخدام المقترحات التشريعية والتصويت عليها كفرصة لبث الرسائل الحزبية، حيث أصبح من السائد اقتراح حزب الأقلية تشريعات لها شعبية لدى بعض الناخبين المحتملين، بالرغم من إدراكه أن حزب الأغلبية سيمنع إقرارها.
يأمل حزب الأقلية أن يقنع فشل المقترح التشريعي بعض الناخبين بتعنت وتطرف الحزب الآخر وبضرورة تغيير ميزان القوى في الانتخابات المقبلة. وهكذا، تصبح الحسابات الانتخابية مقدمة على الإنجازات التشريعية التي يمكن تأجيلها لحين انتزاع الأغلبية في الانتخابات المقبلة.
الأيديولوجيا ليست كل شيء
يدل هذا التوظيف التكتيكي للعداء الحزبي على أن الاستقطاب السياسي ليس مجرد نتيجة لزيادة الهوة الأيديولوجية بين الحزبين، بل نابع أيضًا عن استراتيجية انتخابية فرضتها البيئة التنافسية التي ظهرت منذ الثمانينيات. ولعل من أبرز الأمثلة الاستراتيجية معارضة الجمهوريين تمرير قانون الرعاية الصحية عام 2010، بالرغم من أن أغلب مواد التشريع مستقاة من مقترحات تشريعية قدمها نواب جمهوريون، وأفكار رائجة في الأوساط المحافظة.
فالبرغم من عدم وجود معارضة أيديولوجية حقيقية للمقترح التشريعي، إلا أن الحسابات الانتخابية دفعت أعضاء الحزب الجمهوري لمعارضة القانون.
إن ما تشهده السياسة الأميركية اليوم من احتراب واستقطاب بين الحزبين هو حصيلة تحولات تاريخية طويلة غيرت التكوين الأيديولوجي والعرقي والجغرافي للحزبين، وخلقت بيئة تنافسية خصبة للمزيد من الاحتراب والاستقطاب.
ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية والتشريعية في نوفمبر 2020، يُتوقّع تزايد حدة المواجهات الاستعراضية بين قادة الحزبين، كتلك التي شهدناها بين ترمب وبيلوسي. وختامًا، يختصر لنا ديك تشيني، النائب الجمهوري السابق والذي أصبح لاحقًا نائبًا للرئيس الأميركي جورج بوش، منطق الاستقطاب الحزبي حيث يقول:
إن الاستقطاب مفيد جدًا في أغلب الأحيان. إذا سلكنا نهج التوافق والتنازلات في كل أمورنا، ولم تكن هناك قضايا حقيقية تفرقنا عن الديمقراطيين، ما الذي يدفع الناس لأن تتغير وتمنحنا الأغلبية؟