هل تتبنى السعودية سياسة تقشفية عبر ضريبة القيمة المضافة؟
بإعلان السعودية لضريبة القيمة المضافة تفاجأ المهتمين بالشأن الاقتصادي أكثر من غيرهم، فكيف نفهم هذه السياسة في ظل الواقع الاقتصادي؟
عندما تم الإعلان عن زيادة ضريبة القيمة المضافة تفاجأ المختصون والاقتصاديون قبل غيرهم وذلك بسبب ما فهموه من أساسيات الاقتصاد الكلي حول تبني السياسات التوسعية عندما يتعرض الاقتصاد للانكماش ويتراجع الناتج المحلي على سبيل المثال.
وأهم هذه السياسات هي السياسة المالية التوسعية والتي تتمثل بتخفيض الضرائب وزيادة الإنفاق. ولهذا، يبقى الأصح تبنّي معظم دول العالم اليوم سياسات مشابهة ومشجعة لنمو الاقتصاد. ولكن لم تبنت السعودية سياسة أشبه ما تكون بالتقشفية عبر زيادة ضريبة القيمة المضافة؟
هيكلة الاقتصاد السعودي
تكمن الإجابة في فهم هيكلة الاقتصاد السعودي اليوم المشابه لأغلب اقتصاديات دول الخليج والمخالف للاقتصاديات المتقدمة.
إذ أن مساهمة الحكومة في الاقتصاديات المتقدمة عبر الإنفاق والرواتب و الناتج المحلي ليست بالمهمة مقارنة مع العناصر الأخرى كالاستهلاك، فمثلًا يبلغ الناتج المحلي في أميركا أكثر من 19 ترليون دولار، ولا يشكل إنفاق القطاع الحكومي أكثر من 17% فقط، بينما يشكل الاستهلاك 70% من الناتج المحلي، ولك أن تتخيل حجم السوق الأميركي الاستهلاكي فهو بضخامة لا يقارعه فيها أحد.
أما في ألمانيا، لا يتجاوز إنفاق القطاع الحكومي أكثر من 19.5% ويبلغ الاستهلاك 53%، بينما في بريطانيا لا يزيد الإنفاق الحكومي عن 18% باستهلاك يبلغ 65%.
على الجانب الآخر، يبلغ حجم استهلاك القطاع الخاص في الناتج المحلي السعودي 38% فقط، ويشكل الإنفاق الحكومي 23%، ويبرز هذا التباين الفارق بين الاستهلاك في مساهمته في الناتج المحلي بيننا وبين الدول المتقدمة، وكذلك حجم مشاركة القطاع الخاص (غير النفطي) والتي مازالت دون المستويات المطلوبة إذ لا تتعدى 44%.
تختلف إذن نسب تأثير الاستهلاك لدينا عما لدى هذه الدول، ويعني انخفاض الاستهلاك هذا، تراجع الاقتصاد بكل تأكيد، لا بنفس تداعيات اقتصاديات الدول المتقدمة، ولهذا نلحظ حرص هذه الدول على تحفيز الإنفاق والاستهلاك لديها أولًا للمحافظة على الناتج المحلي، وثانيًا لاعتبارها أن محققي إيرادات الدولة الرئيسيون هم القطاع الخاص والأفراد من خلال فرض الضرائب.
فمن مصلحة الحكومة المحافظة على سلامة هذه القطاعات ونموها ضمانًا لتدفق الضرائب عبر تقديم حافز لزيادة الاستهلاك بتخفيض نسبة الضريبة.
تعزيز الإيرادات
في الوقت الذي يقوم فيه القطاع الخاص مقام المكينة في خلق التدفقات النقدية والتصدير وغيرها عند الاقتصاديات المتقدمة، يلعب الإنفاق الحكومي الدور نفسه في السعودية، إذ يمكن وصفه بمنبع التدفقات النقدية ومعزز الاحتياطات والتصدير (عبر أرامكو).
فتحتاج الحكومة إلى تعزيز إيراداتها (بعيدًا عن النفط وتقلبات أسعاره) عن طريق رفع ضريبة القيمة المضافة بغية تحقيق استقرار الإنفاق على الوظائف والمشاريع وبرامج الرؤية. إن فهم هذه الفروقات الجوهرية مهم جدًا عند النظر لتأثيرات رفع نسبة الضريبة وعدم استسهالها. فمتى ما تحمّلت الدولة جزءً كبيرًا من الناتج المحلي، من الطبيعي سعيُها لاستقرار إنفاقها حتى وإن كان على حساب مكونات الناتج المحلي.
لا يعنى هذا إغفال حد هذا الأثر الذي قد يجعل من القرار سلبيًّا على الجميع، وهو تأثير رفع النسبة على الناتج المحلي سلبيًّا، لا على المدى القصير فحسب بل على المدى المتوسط والطويل.
ويستدل به على انخفاض كبير في الاستثمار وانخفاض أكبر في الاستهلاك وعدم تعافيه على المدى المتوسط، والذي يصاحبه فقدان الوظائف مما يؤدي إلى زيادة نسبة البطالة. يلزم هنا تعديل التأثير السلبي سريعًا. ولهذا من المفترض أن تعطي النماذج الرياضية التي تم الاعتماد عليها في قياس أثر القرار توقعات جيدة بالتعافي تدريجيًا.
ضريبة القيمة المضافة وأزمة فيروس كورونا
إن مناسبة تمرير هذا القرار في ظل ظروف أزمة فيروس كورونا لها أكثر من معنى، أولًا توفّر بيئة اقتصادية فوضوية قد تسمح بتمرير مثل هذه القرارات وبالتالي يبدأ التعافي عند هدوء العاصفة. ثانيًا، انتباه المستهلك لعدة سلوكيات استهلاكية يستطيع وبسهولة الاستغناء عنها في هذه الظروف فيخفّض حجم استهلاكه تلقائيًا مما يعني تخفيض حجم تأثير ارتفاع الضريبة عليه، ويظل هذا افتراضًا قد لا يتحقق، إذ أنه مرهون بسلوكيات الأفراد.
ثالثًا، زادت الحاجة إلى إصلاح مالي للمالية السعودية عقب أحداث تقلب أسعار البترول وعدم المرونة في التحكم بالنفقات حيث تمثل نفقات الرواتب والتعويضات نصف ترليون ريال وهو حجم ضخم من الصعب الاستمرار في إنفاقه اعتمادًا على النفط فقط حيث يمثل 50% من نفقات الدولة على الأقل، فما بالك بالنفقات الأخرى كالإنفاق على المشاريع والتشغيل والصيانة التي يصعُب تخفيفها.
تحت ضغط هذا الوضع الاقتصادي، لا يمكن الاستمرار بمثل هذه النفقات غير المرنة إلى الأبد خصوصا وأن 40% من الأجيال الصاعدة هم تحت سن العشرين، وهو ما يستوجب حلًّا قويًّا وسريعًا لخلق وظائف لهم. فمن غير المنطقي الاستمرار بالاعتماد على النفط رغم كل دروس الماضي القاسية بل يلزم وضع حل مستديم بالإصلاح الاقتصادي.
ومن سبل هذا الإصلاح تنويع الإنتاج ورفع مشاركة القطاع الخاص لتوليد الوظائف وتسريع عملية الخصخصة وكذلك المضي قدمًا بالإصلاح المالي الذي بدأ تطبيقه من خلال برنامج التوازن المالي الذي أطلق عام 2016 والذي خفف سلفًا من آثار انخفاض النفط السريع القاسية. حلول لم تكن كافية، لتلجأ الحكومة للاستدانة والسحب من الاحتياطيات بشكل غير مسبوق، أمرٌ لا نرغب في تكراره مما يزيد الحاجة إلى حلول أفضل كان من ضمنها رفع ضريبة القيمة المضافة.
الاستهلاك وضريبة القيمة المضافة
في النهاية، ترتكز طبيعة ضريبة القيمة المضافة على الاستهلاك لا على الدخل ولا الأصول ولا الاستثمار. فهي في نظر الفرد المستهلك في نطاق قدراته على التحكم في حجم الاستهلاك، لكننا يجب ألا ننسى أن أي انخفاض كبير في الاستهلاك يعني تأثر القطاع الخاص وبالتالي خروج مستثمرين و فقدان العديد من الوظائف وهنا تكمن المشكلة.
يتوضح جليًّا أهمية الانتباه إلى التأثيرات المستقبلية جراء رفع نسبة الضريبة المضافة على الاستهلاك ومن ثَم على الاقتصاد إذ يلزم تحديد انخفاض الاستهلاك والتعافي بعدها وإلا فإن التراجع عن القرار سيصير واقعًا وضرورة حتمية.
خصوصًا أن تراجع الاستهلاك معناه تراجع إيرادات الضريبة وبالتالي تراجع دخل الدولة وبذلك يكون ضرر الإرتفاع في نسبة الضريبة شمل الجميع المستهلك والقطاع الخاص والحكومة.