صعود دراسات الشرق الأوسط
تنال منطقة الشرق الأوسط اهتمامًا في الأوساط الأكاديمية بعد الحرب العالمية الثانية، ويصبح هذا الاهتمام قوة ثقافية وسياسية تهيمن على المنطقة.
تطرقت في الجزء الأول من هذه المقالة للصورة الاستعمارية المتخيلة عن الشرق وعما أسماه الضابط البحري الأميركي ألفريد ثاير ماهان بالشرق الأوسط مطلع القرن العشرين. واستعرضت بشكلٍ سريع علاقة هذا المتخيل بهوية القوى الاستعمارية ومطامعها.
وفي الجزء الثاني، سأحاول استكمال بحث تشكل وتطور دراسات الشرق الأوسط كمجال أكاديمي في الجامعات الأميركية من خلال استقصاء شقين مرتبطين: تفاعل المجال الأكاديمي بالمتخيلات الاستعمارية، وتأريخ تطور دراسات الشرق الأوسط ضمن المؤسسات التعليمية.
الشرق تحت مظلة الدراسات الدينية
كانت المنشورات الأميركية عن المنطقة بين الحربين العالميتين نادرة. حيث لم تكن دراسة المنطقة منعدمةً على جميع الأصعدة، لكنها كانت مهمشة بطريقةٍ أو بأخرى من حيث كونها غالبًا تندرج تحت مظلة الدراسات الدينية.
فبدل أن تُقارب المنطقة من باب تعقيداتها الجيوسياسية آنذاك -وهي ذات التعقيدات الكامنة في مفهوم الشرق الأوسط -، أٌخضِعت دراستها للقوالب مسبقة الصنع التي كانت تستخدم في دراسة أديان العالم بشكلٍ عام.
وليس هذا الأمر مستغربًا إذا وضعنا بعين الاعتبار أن أغلب الأدبيات التي أنتجت عن المنطقة حتى ذلك الوقت مرتبطةٌ بالمبشرين المسيحيين، أي مرتبطة بأهمية المنطقة من الزاوية الدينية بشكلٍ رئيسي.
ومن الضروري التفريق بين هاتين المقاربتين، أي الدينية والجيوسياسية، فلكل منهما أسسها المعرفية ومنهجيتها الخاصة، وبالتالي فإن المعاني التي تكتسبها المنطقة وترتيب العوامل المؤثرة عليها مختلفة في كلتا المقاربتين.
بداية التحول
بدأ الأمر بالتغير بشكلٍ جذري بعد الحرب العالمية الثانية. يقول ويندر أن الحكومة الأميركية بمجيء الحرب احتاجت إلى العديد من المختصين في مختلف المجالات بالمنطقة، وهذا ما جعل الحكومة تتوجه للجامعات طلبًا للعون. وتكمن هنا أولى بوادر التغيير.
هناك علاقة طردية بين التدخلات الأميركية بالمنطقة وعدد الأدبيات المنشورة عنها. سواء كانت التدخلات مرهونة بالخطر السوڤييتي كما يشير كونيهولم، أو مرتبطةً بوجود الثروات النفطية والدفاع عن إسرائيل كما يشير هدسون، المهم هو أن ازدياد التدخلات تتناسب طرديًا مع كم الدراسات المنشورة. تشير هذه العلاقة الطردية بحد ذاتها إلى الترابط الوثيق بينهما.
بل بالإمكان أيضًا قراءة هذا التغير بحد ذاته على ضوء التغيرات المؤسساتية الأكاديمية بشكلٍ أوسع. بعد انتهاء الحرب، تأسست العديد من البرامج المختصة بالشرق الأوسط في الجامعات الأميركية. على حد تعبير حداد:
أصبحت دراسة تاريخ الشرق الأوسط وسياسته جزءًا رئيسيًا من مناهج العديد من الجامعات والكليات، وقد أخذ عدد المختصين والكتاب المهتمين في المنطقة بالتزايد.
إعادة تشكيل الصورة المتخيلة
يمكن التمثيل على ذلك ببرامج التدريب اللغوي في جامعات ميشيقن وإنديانا وبنسلڤانيا وبرنامج الإدارة العالمية في جامعة كولومبيا، إذ أن كل هذه البرامج لم تتأسس إلا عام 1946، أي بعد نهاية الحرب مباشرة. وفي العام الذي يليه، أطلقت جامعة برينستون أول برنامجٍ بينيٍّ متمحورٍ حول الشرق الأوسط الحديث والمعاصر استجابةً لذات المتغيرات والصعوبات.
لا تكمن أهمية هذه التغيرات في كونها قد أثرت الساحة بمنشوراتها وأدبياتها وحسب، بل في كونها ساهمت في إعادة تشكيل الصورة المتخيلة للمنطقة وما يترتب عليها من مقاربات كذلك. بعبارةٍ أخرى، حين احتيج إلى فهمٍ أعمق للشرق الأوسط، بات من الواضح أن استمرارية إخضاع المنطقة للدراسات الدينية ومنهجياتها غير مجدٍ، بل أن من الضروري جعلها مجالًا منفصلًا يتطلب منهجياته وأطره المتفردة.
ضمن هذا السياق، اتضح للمرة الأولى غياب أي مختصين حقيقيين عدا المختصين اللغويين، وبات من الضروري تشكيل مجال الشرق الأوسط بوصفه امتدادًا لدراسات المناطق بحيث يصبح بالإمكان تكامله مع بقية المجالات.
دراسات المناطق
لكن ما هي دراسات المناطق تحديدًا؟ وما الذي يجعل الإشارة إليها مهمة في تشكل مجال دراسات الشرق الأوسط؟ هناك إجابةٌ ذات حدين: أولًا، على ضوء تعريف منالو لدراسات المناطق بأنها مقاربة بينية تهدف لتدريب الدبلوماسيين ورجال الأعمال وآخرين ممن يرغبون في العمل بالمنطقة المدروسة، يمكن من البداية ملاحظة كونها امتدادًا للمصالح الاستعمارية.
يلاحظُ بارجيرون أمرًا شبيهًا في مفهومه لدراسات المناطق، إذ يشدد على تمحور هذه الدراسات حول البعدين الاقتصادي والسياسي.
ثانيًا، برغم إعادة صياغتها تحت قوالب ومقاربات مغايرة لما كانت عليه قبل الحرب، ظلت المنطقة إلى حد كبير حبيسة المتخيلات الدينية والاستشراقية. بعبارةٍ أخرى، فيما أخذت أدبيات المنطقة الجيوسياسية بالازدياد، أخذت المفاهيم حول الإسلام ودور الدين في المنطقة تتعمق هي الأخرى، وظلت الصور الاستعمارية تعيد إنتاج نفسها بوسائل جديدة.
الأسلحة الأكاديمية
من الواضح إذن أن الحرب العالمية الثانية نقطة تحول رئيسية في تشكل دراسات الشرق الأوسط. وبالإضافة لذلك، العلاقة بين هذا التشكل والسياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة جليةٌ من البداية، إذ يمكن اعتبار مأسسة الدراسات بحد ذاتها استجابة لمتطلبات صناعة القرار. ولذا ليس من المستغرب أن المصالح السياسية والاقتصادية في المنطقة أدت منذ البداية للدعم المادي للباحثين بغرض دراسة المنطقة بشكل أعمق.
بل أن دعم البرامج التعليمية التي تخدم المصالح القومية لأميركا بحد ذاتها جزءٌ من قانون 1947 للأمن العام، فالمادة العاشرة فيه أقرت بضرورة تقديم الدعم والمنح للأفراد الساعين للحصول على شهادات عليا بالمجالات التي قد تعود بالفائدة على وكالة الأمن. وفيما كان مقدار الدعم المادي متأرجحًا في الفترة بين 1959 و1987 إلا أن اهتمام أميركا بالمنطقة جعل حكومتها تنفق أكثر من عشرين مليون دولار دعمًا لمراكز دراسة الشرق الأوسط.
ولم يقتصر الاهتمام الحكومي على الدعم المادي، بل لعبت الحكومة الأميركية دورًا رئيسيًا في صياغة أجندة الباحثين نفسها. يمكن الاستشهاد على ذلك بالعدد الهائل للدراسات المنشورة حول مواضيع متعلقة بالسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية.
تراوحت هذه المواضيع مثلًا حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وحرب الستة أيام والخطر السوڤييتي بل وحتى تأميم قناة السويس. إذا ما استحضرنا تعريف إدوارد سعيد الثالث للاستشراق بصفته “أسلوبًا غربيًا للهيمنة على الشرق وإعادة بنائه والتسلط عليه”، يصبح بالإمكان رؤية هذه المحاولات لبناء المعرفة عن الشرق الأوسط بوصفها جزءًا من عملية إخضاع المنطقة والهيمنة عليها من خلال الأسلحة الأكاديمية.
الصورة الاستشراقية
تطرقتُ في الجزء الأول من المقالة لمفهوم الشرق بوصفه “الآخر”، أي بوصفه صورة متخيلة ذات أغراض محددة تساهم في تعريف وتقويم هوية الغرب. وتطرقت في ختامها أيضًا لأبعاد هذه الآخرية في أميركا مطلع ومنتصف القرن العشرين. ولذا، لعل من المناسب الآن التساؤل سريعًا عن موقع هذه الظاهرة من الإعراب بعد مأسسة دراسة المنطقة والتشكلات الجديدة لمفهوم الشرق الأوسط.
يمكن اختزال الفكرة هنا كالتالي: الصور الاستشراقية لا تفنى ولا تستحدث من العدم، بل تتحول من شكلٍ لآخر. حيث رافق مأسسة دراسات الشرق الأوسط والتوسع المجالي فيها مأسسة للصور المتخيلة وتعميقٌ لما تنطوي عليه.
نجد مثلًا في بحث منشور عام 1948 أن السياسة الأميركية الخارجية، على حد تعبير كاتبه هندرسون، تهدف إلى «تعزيز رخاء ورفاهية شعب الولايات المتحدة وغيرها من الأمم.» وبالتالي تصبح أهمية الشرق الأوسط الاستراتيجية جزءًا من تعزيز رخاء الشعب الأميركي و الحضارة الغربية بشكلٍ عام.
يحتوي هذا الاقتباس على ربط بين ازدهار الغرب وسياساته في الشرق الأوسط، وبالتالي فهو يعزز ضمنيًا هوية هذا الغرب في مقابل خلافه.
الصورة المتخيلة ومخاطرها
ويمكن استشفاف فكرةٍ شبيهة في طرح بلانكس حول جندرة التاريخ حين قال أن من غير الممكن اختزال سلوك شعوب الشرق الأوسط بكونها اتباعًا لأحكام الشريعة وحسب، إذ يشير لكون هذا الاعتقاد شائعًا حتى وقت كتابته البحث عام 1999 بفضلِ الاستشراقيين ومنهجياتهم.
بل أن أصداء المتخيل عن الشرق وكونه متدينًا وروحانيًا موجودةٌ حتى في بعض الخطابات التي أنتجتها شعوب الشرق الأوسط عن نفسها في ذلك الوقت، ولعل رواية الحي اللاتيني لسهيل إدريس وثيمة الشرق-الغرب الرئيسية فيها خير مثالٍ على مقدار تفشي الفكرة على جميع الأصعدة النفسية والاجتماعية والسياسية.
لا يمكن تناول الإنتاج المعرفي عن المنطقة دون أن نضع بعين الاعتبار ما يكمن فيها من إنتاجٍ وتعزيزٍ لهذه الصور المتخيلة ومخاطرها، إذ أن هذا التعزيز يعني في نهاية المطاف اختزال تعقيد الظواهر بالمنطقة في تحليلات منفصلة عن أي أطر اجتماعية وثقافية ومادية، بالإضافة لكونه تشويهًا مغرضًا للواقع.
لا يعني كل ذلك أن سياسة أميركا تجاه المنطقة امتداد مباشر للسياسات البريطانية والفرنسية قبلها، كما أنه لا يعني أن موقعها المهيمن محض صدفة أو نتيجة ضعف القوى الأخرى وحسب. صحيحٌ أن أميركا بنت على هذا الإرث، ولكنها تمكنت من خلال مأسسة دراسات الشرق الأوسط بإحداث نقلةٍ مفاهيمية نوعية.
بروباقندا القيم الليبرالية
يمكن الادعاء بكون مقاربة أميركا لدراسات الشرق الأوسط متمايزةً لسببين رئيسيين: أولًا، فيما بُنيت الدراسات منذ القرن التاسع عشر على إطارٍ استشراقي “تطويري” يفترض فوقية الغرب الطبيعية على ما سواه، تحولت الدراسات مع الهيمنة الأميركية إلى الإطار التحديثي.
يتميز هذا الإطار التحديثي عن التطويري في كونه يلغي الحاجز الطبيعي بين الغرب وما سواه، فهو يفترض أن الشعوب متفاوتة بلا حتميات ولا طبيعيات ولا حواجز ثقافية جامدة. ولكنه في الوقت نفسه يفترض أن الفروقات بين الشعوب قابلةٌ للتجاوز والتمييع بما يحقق المصالح المرجوة، وبالتالي تصبح القيم الليبرالية-الرأسمالية الغاية التي يطمح هذا الإطار إلى تكريسها في المقام الأول والأخير.
فمع تقلد أميركا مقاليد الهيمنة، صارت هناك أجندةٌ واعية بترسيخ القيم الليبرالية وعجن دواخل الناس من أجل كسبهم في صف المصالح الأميركية.
الدولة – الشركة
يمكن ملاحظة السبب الثاني الذي يجعل مقاربة أميركا متمايزة عن سابقيها في ما أسماه كيلي بـ “التقاء الدولة – الشركة.” كما هو واضحٌ من المصطلح، يشير كيلي هنا إلى التقاء فضاءين مختلفين ظاهريًا في صياغة السياسات تجاه المنطقة، أي إلى التقاء القطاع العام (الحكومة) والقطاع الخاص (الشركات).
يمكن تلخيص هذه الفكرة كالتالي: لعبت الشركات الكبرى دورًا رئيسيًا في تحديد ماهية المصالح وتحديد الوسائل التي يجب اتباعها تجاه المنطقة. يمكن التمثيل على ذلك بالعلاقة بين عمليات بيع السلاح وما رافقها من سياسات صنع العداوات (الخلافات الطائفية مثلًا) كلما انخفضت أرباح شركات النفط الأميركية الكبرى.
بل أننا نجد أصداء هذه الفكرة بوضوحٍ في ورقة هندرسون السابق ذكرها حين يقول:
بدأنا نقارب مشكلة النفط بشكلٍ أنضج. ندرك الآن أن النفط ليس ذهبًا أسود وحسب، وأن إبداء الاهتمام في إدارة النفط والتحكم بمنتجاته لا يعكس بالضرورة نوايا إمبريالية شريرة. نتعلم الآن أن النفط في هذه المرحلة من التطور الصناعي أساسي بالنسبة لنا كالطعام من أجل سريان حياتنا الاقتصادية والحفاظ على ما نعتبره حضارةً.
يستخدم هندرسون صيغة الجمع هنا ليشير لشعب الولايات المتحدة بأشمله، ولا يقتصر في حديثه على السياسيين أو صناع القرار. أعتقد أن هذا الاقتباس بالغ الوضوح في التمثيل على التقاء المصالح العامة بالخاصة في السياسات الأميركية وارتباطهما الوثيق في المخيال العام.
الدولة – الشركة – الأكاديميا
عطفًا على كل ذلك، من الضروري التركيز على العلاقة الثلاثية بين الدولة والشركات والأكاديميا. تمكنت مراكز البحث الشرق أوسطية من التميز على ما يسبقها من محاولات دراسة المنطقة بفضل الدعم الذي حصلت عليه من الحكومة ومن الشركات. فبالإضافة للدعم المادي، زُوّدت مراكز البحث بالعتاد الآيديولوجي (ممثلًا بالحداثة) وبالأجندة التي على المراكز اتباعها في دراسة المنطقة لإتمام المهمة بشكلٍ ناجح وفعال.
ولذا كان من الطبيعي جدًا أن تترافق عمليات شركات النفط الأميركية واسعة النطاق مع عمليات دراسة المنطقة، إذ أن هذه العمليات بحد ذاتها هي هدف الدراسة في المقام الأول:
لقد حضر العلماء أو الباحثون أو المبشرون أو التجار أو الجنود إلى الشرق، أو فكروا في أمره، لأنهم كانوا يستطيعون الحضور إلى الشرق، أو التفكير فيه، دون مقاومة تذكر من جانب الشرق.
نمو دراسات الشرق الأوسط
ذكرت أعلاه تأسس بعض البرامج بعد الحرب مباشرة (عامي 1946-1947) استجابة لمطالبات السياسة الخارجية الأميركية، كما ذكرت أن مواضيع البحث كانت بشكل كبير مصاغةً ضمن قالب السياسة الخارجية. وبالتالي ليس من المستغرب أن تتوسع حدود هذه البرامج بسرعة بالغة في السنين التي تلتها استجابة لنفس المتغيرات.
نجد عام 1953 مثلًا مطالبات بتوسيع البحوث حول الشرق الأوسط خارج السياق السياسي المباشر لتشمل المجالات الاجتماعية والجغرافية وغيرها، مما يعكس بلوغ الدراسات مرحلة مواجهة حدود جديدة إن صح التعبير. وبالإضافة لذلك، نجد مطلع الستينيات ثورة في دراسة لغات الشرق الأوسط لدرجة أن الجامعات أنشأت برامج أكاديمية مشتركة مع جامعات بالشرق الأوسط لتمكين الطلاب من دراسة اللغات في بيئاتها الأصلية.
يرجع الفضل في العديد من هذه التطورات المتسارعة إلى تأسيس جمعية دراسات الشرق الأوسط (MESA) عام 1968، إذ تمكنت الجمعية منذ سنواتها الأولى من استقطاب المهتمين سواء من أميركا أو من مختلف مناطق العالم.
لفهم هذه الفكرة بشكلٍ أفضل، يتوجب وضعها في سياقي اتساع دراسات الشرق الأوسط لتشمل العلوم الاجتماعية والازدياد الضخم لأعداد المختصين، سواء كان هؤلاء المختصون “غربيون” أم شرق أوسطيين. يمكن ملاحظة الانفجار البحثي مثلًا في البرامج المعروضة بالجامعات بعد الحرب العالمية الثانية.
انتشار برامج الدراسات
لم يتأسس مركز الشرق الأدنى بجامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس إلا عام 1957، ولكنه بالرغم من ذلك كان يعرض شهادات عليا في تاريخ الشرق الأوسط وعلوم اجتماعه وسياسته بحلول 1968.
يمكن ملاحظة نزعة شبيهة في البرامج المعروضة بالجامعات في العقدين المقبلين، إذ صارت برامج دراسات الشرق الأوسط متفشية في مختلف أرجاء أميركا. لا يعني ذلك أن البرامج خرجت تمامًا من نطاق سياسيتها أو حتى دينيتها التي نشأت عليها.
هناك من الباحثين من يعرّف نقاط الانعطاف في تشكيل برامج الشرق الأوسط من خلال الأحداث السياسية بالمنطقة. على سبيل المثال، يشير بونين لدور الصراع العربي-الإسرائيلي عام 1967 في صياغة محتوى البرامج. ونجد كيلي أيضًا يشير إلى محورية الخطر السوڤييتي وعقيدة ترومان في تحديد مباحث الدراسات.
وبالإضافة لذلك، بحكم اعتبار صعود الإسلام السياسي تهديدًا لمصالح الولايات المتحدة بالمنطقة، انتشرت الدراسات حول هذا الأمر كالهشيم. بل أن محورية الإسلام السياسي وتهديد الحركات الأصولية بالشرق الأوسط للمصالح الأميركية ومصالح الحضارة الغربية المزعومة شكلا أساسًا للعديد من أطروحات الباحثين والمؤرخين لفترة طويلة نسبيًا، وليست مقالة سامويل هتنغتون “صراع الحضارات” والجزئية حول الإسلام الأصولي في كتاب فوكوياما “نهاية التاريخ” سوى مثالين على ذلك.
تسييس العالم الأكاديمي
كان التسييس الجوهري لدراسات الشرق الأوسط جليًا حتى لدى بعض الباحثين. في عام 1983، نشر تاكر مقالةً يقول فيها أن تاريخ الشرق الأوسط ظل إلى حد كبير حبيس إطار المؤسسات السياسية والأحداث الدبلوماسية برغم توجه الجامعات إلى دراسة التواريخ الشعبوية والاجتماعية والثقافية وغيرها.
وعبر بِل عام 1996 عن فكرةٍ شبيهة حين قال بأن نصف القرن الممتد من عام 1946 حتى 1996 لم يُثر فهم منطقة الشرق الأوسط بشكلٍ حقيقي، وقد علل هذا العجز إلى اعتبار المقاربة السياسية للشرق الأوسط أساسًا تنطلق منه بقية المجالات بدل جعله مقاربة إلى جوار الأخريات.
وبالإضافة لذلك، في معرض تأمله للدور الذي يلعبه الباحثون بالنسبة للعامة، استنتج لوكمان في بحثه المنشور عام 2005 أن أحد الأهداف الرئيسية لباحثي الشرق الأوسط هو التأثير على صناع القرار أكثر من كونه محاولةً حقيقية لفهم ما يجري بالمنطقة.
ولم تكن دراسات الشرق الأوسط وحدها المتأثرة بالمناخ السياسي بطبيعة الحال، إذ كانت جزءًا من عملية تبلور أكبر فيما يتعلق بالدور الذي تلعبه الحكومة الأميركية في التأثير على العالم الأكاديمي. ولكنها تتجلى في دراسات الشرق الأوسط بشكلٍ واضح عطفًا على أصول المجال السياسية.
هذا ما يجعلنا نجد تبعاتها مثلًا في انفجار عدد الدراسات المنشورة حول المنطقة بعد الأحداث السياسية كحرب 1973 أو الثورة الإيرانية عام 1979. وهذا ما يجعلنا نجدها كذلك في أعمال من قبيل مغامرة الإسلام لهودجسون، حيث كان تحقيب تاريخ المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى متمحورًا حول الأحداث السياسية كما لو أنها الفاعل الرئيسي.
كانت السطور السابقة محاولة لاستكشاف العلاقة بين السياسة الأميركية الخارجية وتبلور دراسات الشرق الأوسط في المؤسسات التعليمية. تهدف المحاولة بشكلٍ رئيسي للبرهنة على أن الأصول السياسية لمفهوم الشرق الأوسط بحد ذاته سببٌ رئيسي في ضعف المقاربات البحثية الأخرى.
بعبارةٍ أخرى، طالما ظلت المظلة السياسية منتهى الأبحاث والصائغ الجذري لها، ستظل الصور المتخيلة المهيمنة تعيد إنتاج نفسها.