التعبير الفني كحالة ثقافية وفردية
إن النقطة التي أريد الوصول إليها هي أن التعبير الفني للفنان حالة ضرورية، بغض النظر عن المعطيات أو الأدوات التي يُعالج فيها تلك ”العوائق الاجتماعية“.
حضرت قبل أيام نقاشًا بين بعض الأصدقاء عن عددٍ من شعراء الجزيرة العربية المعاصرين، وكان لأشعار محمد الثبيتي نصيبها الأكبر من النقاش، بل والاستشهاد أيضًا بأن أغلب الشعر المعاصر مُنسلخ من ثقافته استدلالًا بالصور الفنية في الأشعار المعاصرة التي لم تكن جزءًا من الثقافة العربية. فيمكن أن نقرأ للشاعر:
ألا ديمة زرقاء تكتظ بالدما
فتجلو سواد الماء عن ساحل الظما
ألا قمرًا يحمرُّ في غرة الدجى
ويهمي على الصحراء غيثًا وأنجما
فنكسوه من أحزاننا البيض حُلّة
ونتلو على أبوابه سورة الحِمى
يمكن بوضوح ملاحظة استخدامات الثبيتي للصور البلاغية والفنية في أشعاره بأسلوب مستمد من بيئته التي خالطها؛ الصحراء والغيث والأنجم على سبيل المثال. وعلى النقيض من ذلك، نجد في الكثير من أشعار غيره صورًا بلاغية مستمدة من ثقافات أخرى، مثل البرتقال وغيره من الفواكه التي لا تنبت في الجزيرة العربية، ولهذا عدّها الصديق انسلاخًا من الثقافة على حدّ تعبيره.
وقبل أن نتناول قضية كهذه، وجب الاستهلال بتوضيح أن لمفردة ”الثقافة“ معنيين مختلفين بعض الشيء، فالمعنى الخاص لها يَقصد الأفراد بشكل أكبر وأعني بذلك المطالعة والتعلم، أو كما يشرح قاموس كامبريدج مفردة (Intellectual) بأنها ”القدرة على التفكير وفهم الأشياء المعقدة منها خصوصًا“. ومن ثم هناك المعنى العام للمفردة الذي يقصد به ثقافة الشعوب وجدانيًا، أو بشرح القاموس السابق لمفردة (Cultural) بأنها أكثر تعلقًا ”بالعادات والتقاليد والاعتقادات الخاصة بمجتمع معين“.
الشخص المثقف في الحالة الأولى إذن مختلف عن الآخر، فالمثقف بمعناها الأول هو المطلع على أنواع المعرفة، أما الآخر فهو المتشبع بقراءة المحيط حوله.
معنى المثقف
وعلى سبيل الإيضاح، يمكن أن أضرب مثلًا بأعرابي لا يجيد القراءة ولا الكتابة، لكنه يحفظ الكثير من الأشعار وسير وأقاصيص الشعوب المحيطة بل وحتى أمثالها وأنسابها، ويجب أن يكون عارفًا بعلامات الصحراء مدركًا لمعانيها وتفاصيلها، فهو في هذه الحالة مثقف بالمعنى العام للمفردة. بينما سيكون المثال الآخر للمعنى الخاص المثقفَ الذي يقرأ الكتب باستمرار ويطالع أنواع المعرفة المختلفة، وقد يكون مختصًا في بحر من بحورها.
فالأمر يحتمل أن يكون المرء مثقفًا بمعنيي الكلمة الخاص منها والعام، أو كما يقول عبدالرحمن منيف: ”الثقافة هي الرصيد الروحي لحضارة من الحضارات. هي تراثها وطاقتها على التجدد والمتابعة والإبداع، وهي القدرة على التحدي والاستمرار. أي أن الثقافة تصنع عقل الأمة ووجدانها، وبالتالي فهي التي تحمي هذا العقل وتزيده معرفة وإدراكًا، وهي التي تغني الوجدان وتجعله أكثر ثراء وأسرع استجابة لقيم الحق والعدل والجمال“.
إنسلاخ المثقف عن ثقافته
عودة إلى النقاش الأول، هل يمكن للفن أن ينسلخ من ثقافته؟ أعتقد أنه للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نؤسس لنقطة أخرى وهي أن الفن نتاج حالة من التعبير الذاتي للبشر مهما اختلف نوع هذا التعبير، سواء كان نثرًا أو شعرًا أو حتى لو اتخذ صورة أخرى كالموسيقا أو اللوح الفنية أو النحت.
كل هذه الأشكال وغيرها تعد أشكالًا مختلفة للتعبير، وهي في أغلب الأحيان عملية عاطفية تعتمد بشكل أساسي على طريقة فهم الإنسان واستيعابه وتفاعله مع الأحداث المحيطة به التي تساهم بدورها في تشكيل الإنسان بداية الأمر، فهي حالة شخصية ذاتية حتى وإن اشتد انتماء ذلك الشخص إلى حزب أو جماعة، بالرغم من أنني، شخصيًا، أعتقد بأن ذلك يشوب الحالة الفنية.
وبتعبير د.علاء جواد كاظم ”إن عملية تشكيل المتخيل الجمالي: [النص – الألوان – الموسيقى] في نظام جمالي إبداعي. تمر من هنا بوصفها فعالية فردانية احتجاجية ترفض وتنقض مبهمات المصير مشحونة بدوافع سايكولوجية محضة، لكنها تدعم ويتم تصعيدها بفعاليات سوسيولوجية تظهر إبداعيًا من خلال مواجهة الفرد (المشكِل للنص) للعوائق الاجتماعية التي تضعها قوى التاريخ والمجتمع في طريقه والتي يحاول جاهدًا اجتيازها، القفز والالتفاف عليها في نصوصه الإبداعية من خلال لغته أبطاله، حواراته وتقنيات السرد التي يوظفها في تأسيسه للنص المتضمن بالضرورة على [مجتمع متخيل] يشغله الفرد الذي يصارع تساؤلات المصير فينقض عليه الواقع.
ما يدفعه إلى الالتفاف عليه إبداعيًا.. إن التشابك الأساسي بين البطل والعالم، والإخفاق الناجم عن هذا التشابك وهو شرط أساس لكل شكل روائي إبداعي، أما الانقطاع بينهما فلا يمكن تجاوزه“. وبناءً على ذلك، يمكن أن يُقال إن الثقافة هي الهوية والذاكرة المشتركة بين مجموعة من البشر، ويكون بذلك الفن الخاص بهذه المجموعة هو وسيلة تعبير أفرادها وتفاعلهم مع ”العوائق الاجتماعية التي تضعها قوى التاريخ والمجتمع“ كما عبّر عنها د.علاء جواد مسبقًا.
البشر والزمن والبيئة
ويمكن استعارة نموذج مالك بن نبي للحضارة وإعادة تشكيله إلى مجموع ”العامل البشري والزمن والبيئة“ باعتبار الثقافة هي مجموع تفاعل هذه العناصر الثلاثة، أما مفهوم ”الحضارة“ فأعتقد أن له عاملًا سياسيًا في أغلب الوقت.
وفي ظل الوفرة المعلوماتية والثورة الاتصالية وإمكانية الوصول إلى العديد من مصادر المعلومات ومختلف أشكالها، أجدني متفهمًا لاستخدام صور بلاغية وتراكيب فنية لا تنتمي إلى محيط الفنان. فمن ناحية أولى، يمكن رد القضية إلى عملية التأويل الشخصية للفنان، أي عملية تأويل الشخص للعوائق الاجتماعية والأحداث التي تمرّ في رحلته. فعملية التأويل عند الفيلسوف الألماني فريدريك شلايرماخر تتكون من ”لحظتين متفاعلتين؛ اللحظة اللغوية (لتحديد المعنى وفقًا لقوانين اللغة وموضوعيتها) ولحظة سيكولوجية (تركز على ما هو ذاتي وفردي بالنسبة للمؤلف، أن تفهم النص بوصفه واقعًا في تفكير المؤلف.
بمعنى أن تحاول تشييد الفكر نفسه الخاص بالمؤلف من خلال تأويل نصه)“ أو كما عبّر عنها د. عادل مصطفى في كتابه “فهم الفهم”، فلا يمكن إقصاء جانب التأويل من العامل البشري في المعادلة السابقة.
الأزمة الثقافية في عصر الثورة المعلوماتية
تكمن الأزمة الثقافية مع زمن الثورة الاتصالية في قدرتنا على الوصول إلى مختلف أشكال الفنون والمعارف من شتى الثقافات، ويؤثر هذا بشكل كبير جدًا ليس فقط على المعلومات التي نتلقاها ومصادرها، بل وحتى على عملية التشكيل المعرفي والوجداني والتأويلي أيضًا في الجانب البشري، وهو ما يؤثر في نهاية المطاف على الفن كنتيجة مختلفة ويجعل الارتباط به نادرًا في إطار الظروف المكانية والزمانية فقط، خصوصًا بعد إضافة عامل آخر مهم إلى المعادلة ألا وهو خيال الفنان وتفاعله مع الآخر.
ففي عصور سابقة، كان يمكن القول إن تأثر الثقافة العامة بثقافات أخرى محدودٌ بتفاعل المجتمع مع محيطه، وأقصد أن الثقافة العربية مثلًا تأثرت بشكل ما بالثقافات التي اختلطت بها في التوسع السياسي للدولتين الأموية والعباسية، لكنها لم تختلط بشكل كبير بثقافات بعيدة جغرافيًا كثقافة السكان الأصليين للقارة الأميركية، إلا أن التأثر الأخير أضحى ممكنًا في ظل تأثيره على الأفراد المشكّلين للثقافة العربية الراهنة.
فتأثر ثقافة ما بالثقافات الأخرى بل وذوبان الفروقات بينها بشكل تدريجي أمر حتمي، والثقافة العامة في نهاية المطاف لا تعني بالضرورة التمركز حول الذات أو التعامل بفكر راديكالي مع الثقافة المحلية كضرورة للحفاظ على هوية المجتمع. وعلى العموم، لهذا حديث آخر ومطوّل.
الثقافة وأفرادها
إن العلاقة بين الثقافة وأفرادها علاقة طردية تتقوى إحداهما بقوة الآخر والعكس صحيح، أما محاولة إلغاء أحدهما أو السيطرة عليه فستجعل من الآخر أضحوكة في العصر الحديث أو سيُكتب عليه نصيبه من التيه في وسط كل هذا القدر من المعطيات. والسؤال الأهم لا يتطرق إلى انسلاخ الفن من ثقافته بقدر ما يتناول قدرة الثقافة على الوصول إلى أفرادها، بل والتراكم المعرفي البشري أيضًا.
ففي عصور سابقة قبل الثورة الاتصالية، كان العزل الثقافي وسيلة ناجعة في السيطرة على الفنون ومنتجاتها، لكننا في عصرنا الحالي نجد وسائل كهذه اعتباطية وغير مجدية أبدًا لأسباب بديهية. ولا يُلام فنانٌ على محاولته الشخصية للتعبير بأية طريقة يمكن تلقيها، بل تُلام الثقافة العامة ذاتها وأهلها إذا ما عجزت عن الوصول إلى أفراد مجتمعها أو عجزت عن تشكيل ملامحها بين بقية الثقافات البشرية، وبالتحديد ثقافة العولمة التي تقدم ذاتها كخلاصة فكر الجنس البشري أجمع.
إن النقطة التي أريد الوصول إليها هي أن التعبير للفنان حالة ضرورية، بغض النظر عن المعطيات أو الأدوات التي يُعالج فيها تلك ”العوائق الاجتماعية“. أما خروج أعمال فنية ”منسلخة من ثقافتها“ إن صحّ التعبير، فيرجع أساسًا إلى عدم قدرة تلك الثقافة على الوصول إلى أفرادها بالعمق المطلوب وتأثيرها على المعطيات أو لحظتي التفاعل اللتيْن ذكرهما شلايرماخر في ظل تزاحم واختلاط الثقافات ببعضها.