زافيه دولان.. اعتزال «الطفل المعجزة»

لا يصدق دولان أن يعمل سنتين لصنع فلم ثم يكتشف أن فلمه لن يُخْتارَ بسهولة لمسابقة مهرجان كان، وأن العالم مشغول بالصراع بين باربي وأوبنهايمر.

صانع الأفلام الكندي زافيه دولان في مهرجان «كان» السينمائي / Getty Images

أهلًا بك صديقًا لنا،

وصلتك الآن رسالتنا الأولى على بريدك الإلكتروني.

إذا لم تجدها ابحث في رسائل السبام وتأكد من اتباع الخطوات التالية في حسابك على خدمة بريد «Gmail» حتى تُحررها من التراكم في فيض الرسائل المزعجة.

* تعبّر النشرات البريدية عن آراء كتّابها، ولا تمثل رأي ثمانية.
24 أغسطس، 2023

بينما كان العالم يترقب صدور «أوبنهايمر» و«باربي» كأكبر حدثين في الصيف السينمائي، خرج المخرج الكندي زافيه دولان مُعلنًا اعتزاله صناعة الأفلام، ومُعددًا الأسباب التي دفعته إلى ذلك، من مخاوف اقتراب حرب سببها عدم تقبّل الآخر، وانعدام قيمة الفن في زمن يتهاوى فيه كل شيء. تلك آراء قد يتفق معها بعض هواة شكوى الزمن والحنين إلى الماضي، ولا يعيبها سوى أن عمر قائلها لا يتجاوز 34 عامًا، وأن قمة نجاحه وإيمانه العميق بأثر الفن جاءت في الزمن نفسه الذي يهجوه!

أسباب الاعتزال أخذت منحى أكثر شخصية عندما قال:

لا أشعر بضرورة صناعة أفلام مرتبطة بي، أريد أن أقضي وقتًا أطول مع أصدقائي وعائلتي، أن أصور دعايات وأبني لنفسي منزلًا عندما أجمع المال الكافي.

سبب الرغبة في تغيير المسار كما صرح «الطفل المعجزة» هو:

لا أريد أن أرتبط مدة عامين بمشروع لا يشاهده أحد تقريبًا. لا أريد أن أضع كل هذا الشغف لأحصد في النهاية الإحباط. يجعلني ذلك أسأل: هل صنع الأفلام سيئ؟ وأنا أعلم أنه ليس كذلك.

«الطفل المعجزة» لقب ظل مقترنًا بزافيه دولان لسنوات، كيف لا وهو المخرج الذي ذهب بفلمه الأول «قتلت أمي» (I Killed My Mother) إلى مهرجان كان عام 2009 وعمره لا يتجاوز العشرين، لينال ثلاث جوائز ويتحدث عنه الجميع بأنه الموهبة التي ستُغير شكل السينما.

احتضن «كان» معظم أفلام دولان التالية، ونال الشاب لحظة مجده الكبرى عام 2014 عندما قررت لجنة التحكيم منح جائزتها الخاصة مناصفةً بين فلمه «مامي» (Mommy) وفلم أيقونة السينما الفرنسية جان لوك قودار «وداعًا للغة» (Goodbye to Language). وقتها كتبت الصحافة كثيرًا عن دلالة الجائزة التي اقتسمها أكبر وأصغر مشاركَين في المهرجان، فعمر قودار آنذاك كان 84 عامًا، على حين لم يتجاوز دولان الخامسة والعشرين.

نال الموهوب الشاب كل ما يحلم به فنان سينمائي؛ فأفلامه تضمن مكانها مسبقًا في أكبر مهرجانات العالم، والجميع يتنافسون على خطب ودِّه ودعوته إلى أكبر الأحداث، ومشروعه المُقبل يوضع في كل قوائم الأفلام الأكثر ترقبًا، وتستعين به مغنية بحجم أديل ليخرج لها فيديو أغنيتها الشهيرة «هالو» (Hello)، الفيديو الذي أحرز اليوم على «يوتيوب» مشاهدات تفوق ثلاثة مليارات.

فكيف يمكن أن ينتهي الحال، خلال أقل من عقد واحد، بدولان إلى هذا الغضب والإحباط؟

الإجابة تكمن في مصطلح «الطفل المعجزة» (Child Prodigy) نفسه، الذي يطلقه علماء النفس على الأطفال الذين يحققون في عمر مبكر إنجازات في مجالات مخصصة لكبار السن، ونموذجه الأبرز في تاريخ الفن الموسيقار النمساوي موتسارت، الذي قيل إنه بدأ تأليف الموسيقا في عمر الخامسة.

الخامسة تختلف بالتأكيد عن العشرين في عمر البشر، لكن صناعة الأفلام ترشدنا إلى الأنماط المتكررة تاريخيًا. إن النصف الثاني من الثلاثينيات هو مرحلة النضج التي يصنع عندها معظم المخرجين أول فلم مهم ومكتمل في مسيرتهم، وهو عمر منطقي إذا نظرنا إلى ما تحتاجه صناعة الأفلام الكبيرة من تكامل بين المعرفة التقنية والخبرة الحياتية وامتلاك وجهة نظر وأسلوب فني خاص، ناهيك عن القدرة على إدارة فريق كبير والسيطرة عليه بما يحقق المنفعة العامة للفلم.

لذا فإن أي نظرة إلى تراث السينما تبين أن معظم أساطير السينما، من ألفريد هيتشكوك إلى ستانلي كوبريك إلى مارتن سكورسيزي، وصولًا إلى يوسف شاهين وصلاح أبو سيف في السينما العربية، كلهم بدؤوا مسيرتهم بصنع أفلام متفاوتة المستوى والنجاح، وكوّنوا من خلالها خبرة مكنتهم لاحقًا من تقديم أشهر أفلامهم وأهمها، وتحوّلوا إلى أساتذة سينمائيين (Masters).

يحدث بطبيعة الحال أن يظهر موهوب استثنائي في عمر مبكر يخالف المعادلة، وهذا حدث في الثمانينيات مع الصربي إمير كوستوريتسا الذي فاجأ الجميع بفلم «هل تتذكر دولي بيل» (Do You Remember Dolly Bell?) عام 1981 لينال «أسد فينيسا الفضي» وعمره يقل عن 27 عامًا. وتكرر هذا في التسعينيات مع الأمريكي بول توماس أندرسون الذي كان اكتشاف مهرجان صندانس 1993 في عمر يقل عن 23 عامًا، عندما عرض فلمه القصير البارع «سجائر وقهوة» (Cigarettes & Coffee)، لتفتح له هوليوود أبوابها، فلم يُتِم السابعة والعشرين حتى رُشِّح فلمه الطويل «بوقي نايتس» (Boogie Nights) لثلاث جوائز أوسكار.

كوستوريتسا وأندرسون تمكنا بمرور السنوات من تجاوز مرحلة الطفل المعجزة، واستوعبا حقيقة أن العالم لن يظل يحتفي بك إلى الأبد، وأن عليك بمرور الزمن أن تنضج وتتعامل مع الوضع الجديد، وتقدم ما يكفل نقل اسمك إلى قائمة الأساتذة، عليك أن تتحمل الإخفاق والإحباط وتتجاوز فرضية أن كل ما تفعله يُقابل بالترحاب لأنه يحمل توقيعك فحسب.

كان من المفترض أن يُكمل زافيه دولان السلسلة ليكون اكتشاف العقد الأول من الألفية، لكن تصريحاته الأخيرة وما سبقها من أعمال خلال السنوات الخمس الماضية تشير -ويا للأسف- إلى أنه قد لا يبلغ هذه الغاية.

يبدو المخرج الذي يكاد يدخل عالم الكهولة كأنه مراهق غاضب يصرخ طالبًا الاهتمام. لا يصدق دولان أن يعمل سنتين لصنع فلم ثم يكتشف أن فلمه لن يُخْتارَ بسهولة لمسابقة مهرجان كان، وأن العالم مشغول بصراع الكبار بين «باربي» و«أوبنهايمر» ولا يكترث لمعاناة طفل السينما المدلل. 

باختصار، لا يصدّق دولان أن يعيش الوضع الذي يعيشه معظم صنّاع السينما في العالم، الذين تبدو فترة السنتين لمعظمهم مثالية، ولو تمكنوا خلالها من إنجاز فلم لعدّوا أنفسهم من الناجحين!

المرجّح أن زافيه دولان سيتراجع عن تصريحاته، فمن العسير أن نتصور توقّف مسيرته في هذا العمر المبكر. لكن يبقى السؤال حول قدرته على مواكبة وضعه الجديد مخرجًا ناضجًا لا طفلًا معجزة. تبقى كذلك المعضلة التي يطرحها الموقف على النقد السينمائي والمهرجانات وكل من يهتم بالفنون: إذا ظهر فنان استثنائي في عمر الطفولة فهل يكون الاحتفاء المبالغ فيه انتصارًا للموهبة أم إضرارًا بصاحبها؟


اقرأ المزيد في السينما
مقال . السينما

«آير» (Air).. «كُنْ مثل جوردان»!

يعد «آير» (Air) عودة موفقة لأفليك مخرجًا، إذ استطاع إخراج فلمً ممتع يستحق المشاهدة بعدد من الخيارات الفنية التي جاءت في مصلحة الحكاية.
رشا حسني
مقال . السينما

أفلام مارفل «برقر» الفن السابع؟

لا تهتم «مارفل» بالأسلوب أو بكسر أي قواعد كما يفعل الفن، بل تعيد صياغة الخطوط العريضة نفسها للحبكة، والمرئيات والقصص نفسها في كل مرة.
شفيق طبارة
مقال . السينما

محمد كردفاني: أول مخرج سوداني في مهرجان كان

حاورنا محمد كردفاني، مخرج ومؤلف «وداعًا جوليا»، لمعرفة المزيد عن تجربته الروائية الأولى، وعن شعوره بوصول فلمه الأول إلى «كان».
أحمد العيّاد
مقال . السينما

«سطّار» فلم تجاري ناجح بقصة ضعيفة

سلك «سطّار» طريق المتعارف عليه بـ«فلم فشار»: فلم دون محتوى درامي جاد أو رسالة ذات معنى (رمزيات) أو عمق فكري، بل مجرد محتوى ترفيهي.
رياض القدهي
مقال . السينما

فلم «Past Lives» لا يشبه قصص الحب

هذا العمل يختلف تمامًا عن قصص الحب التي تخرج من قعر حلق الظروف المتعسرة، كخِطبة ولي العهد الياباني آخيتو لفتاة من عامة الشعب.
علي حمدون
مقال . السينما

هل فشل مسلسل «ون بيس» الواقعي؟

عوائق العالم الواقعي ستجعل عالمنا أقل تفاعلًا مما شاهدنا في الأنمي والمانقا، وذلك لمحدودية العالم الواقعي مقارنة بعالم الأنمي.
رياض القدهي