كقارئة أدب أعيش احتمالات وحيوات أخرى يستحيل تحقيقها في الواقع، وتُراوح هذه المعايشة بين التربص والانغماس. فإن وجدْتُ بين الواقع والخيال ممرًّا سالمًا وواضحًا سلكتُه، وإن استشفّيتُ من العمل صعوبة التوافق بل استحالته تركتُه مع الأخذ بحكمته ومعناه.
ربما يملك الأدب هذه القوة المجيدة التي تستفز أذهان القراء ويتفاعلون معها ثم يحللونها ويؤولونها وفق احتياجاتهم وتفضيلاتهم. ولست هنا أؤكد دور الأدب أو أثني ثناءً حسَنًا على مهارة التلقّي وخصائصها، بل أصف حميمية صادقة تجمع القارئ، أيًّا كان تصنيفه، بعمل أدبي يبعث فيه الحياة متى أمسك بأوراقه بين يديه.
لهذا فالشخصيات الأدبية التي نصادفها شعرًا أو مسرحًا، وخصوصًا في عالم الرواية، نألف وجودها وعشرتها، نصاحبها وتصاحبنا، نحادثها وكأنها ترانا وتسمعنا، نفكر بمعيتها ونناقشها. فالقراءة في جوهرها تفاعل حسي وذهني كامل يثري مخيلتنا ويلهمنا تواصلًا دائمًا نحو الخارج، عكس ما يُرَوِّج بعضهم من أن القراءة فعل انعزالي تام.
إن كل شخصية أدبية، بغض النظر عن تفاصيل تشكلها ضمن العمل الأدبي أو جنسه أو رمزيته، هي صورة مستنسخة من شخصيات حية وحقيقية بالواقع. إذ يتوحد أبطال الروايات مع البقية في التجربة المشتركة للجنس البشري، كما تقدم لنا تمثلات الشخصيات المتنوعة أبوابًا مواربة لشخصياتنا أمام مواقف عشناها سلفًا أو اختيارات وقفنا أمامها حيارى وتركنا معظمها قصدًا أو مواقف مستقبلية سنقف عندها يومًا ما. هكذا تمنحنا الشخصية الافتراضية سبقًا نحو فهم أنفسنا أمام تجارب راهنة أو تنمّي حدسنا فيما يخص الآتي منها.
نرافق هذه الشخصيات في رحلاتها المختلفة الدوافع والأهداف، ونحن نتوقع منها أن تذهب إلى أقصى أعماق ذواتها، تلك العتبات التي نخشى الوصول إليها خوفًا من الإخفاق أو مما قد تفضحه من أهواء وتنيره من مناطق معتمة من أنفسنا، إنها تشبه تلك الأحلام التي تحتل ليالينا؛ فنستيقظ ونحن وجلون مما رأينا أو نستيقظ ونحن مستبشرون خيرًا بما فعلناه ونحن نيام، الشخصية الأدبية تمنحنا هذا النوع من الانفلات المنضبط الذي نملك مفاتيحه.
عادةً ما يقف الآخر أمامنا صورة ضبابية ومعتمة، لا نستطيع كأفراد عاديين أن ننتهك حرمته ونغامر باكتشافه، أو أن نستجلي ما يفكر فيه، ونكتفي في مواجهته بالاستنتاجات والانطباعات. هذا التواصل المقيَّد ينفتح مع الشخصية الأدبية، وهو انفتاح ليس ممكنًا إلا إذا توفر لدينا قدر من الفهم والوعي اللذين يمنحنا إياهما الوقت والاحتكاك المتواصل بالأدب والإلمام بخيوطه.
ومع هذه الخبرة المكتسبة تصبح تلك الشخصيات بمثابة شمعدان نحمله بأيدينا لنضيء عتمة الآخر، تلك التي هي في العالم الحقيقي أساس كل عزلة وتعصّب كما يؤكد فانسان جوف؛ فالأدب يؤهلنا للاكتشاف ويدفعنا إلى المغامرة دون خوف من نتائجهما، وهذا يساعدنا في مرحلة لاحقة على التكيف مع المتاريس التي يضعها لنا الأفراد في الواقع.
يقول ألبيرتو مانقويل في كتابه «شخصيات مذهلة من عالم الأدب»:
ليس كل شخصية أدبية تصلح لأن تكون الرفيق المختار لأي قارئ، إذ إن الشخصيات التي نعشقها فقط هي التي ترافقنا طوال حياتنا.
لا يكفي المقام لتعداد تلك الشخصيات الأدبية التي أحببناها وألفنا حضورها مذ كنا صغارًا ورافقتنا مع اختلاف أعمارنا، لطالما شعرت بالرغبة أن أقرص وجنتي «تختخ» الممتلئتين وهو غارق في حل ألغازه، وانفعلت مع انتصارات «رجل المستحيل» وغرائب «الدكتور رفعت»، ثم حاربت طواحين الهواء مع «دون كيشوت»، ودعوت كلًّا من «إيما بوفاري» و«آنا كارنينا» على فنجان شاي محاولةً تغيير قراراتهما، وصفعت «ستونر» ألف مرة لعله يتحرك وينفعل مع كل ما يحدث له.
كل شخصية، وإنْ بدت صغيرة وسطحية أو قديرة وعميقة، كان لها دور وجذر يؤسس داخلنا هرمًا للاحتياجات نرتب على رفوفه هذه الشخصيات ونخرجها متى استدعت الحاجة.
لكنّ علاقتنا بهذا العالم المتخيل وشخصياته ليست دائمًا ممتعة ومثيرة وبناءة، بل قد تتخللها أحيانًا مغالطات تمنح الشخصية الأدبية سلطة استلاب تُنحِّي شخصيتنا الحقيقية وقد تؤذينا كما حدث مع بعض قراء رواية الكاتب الألماني قوته «آلام فارتر» الذين قلّدوا ملبس فارتر وسلوكه، وانتهى بهم الأمر محاولين الانتحار للّحاق به. وهذا ما دفع السلطات إلى منع الرواية خوفًا من تفشّي ظاهرة «الفارتريين».
وقد وضعَت دراسة أجرتها جامعة ولاية أوهايو اسمًا لهذا التفاعل: «Experience Taking» (أي الاستيلاء على تجارب الشخصيات وجعلها تجاربنا نحن). ووضّحَت أن القارئ أحيانًا يميل إلى تبنِّي خبرات الشخصيات ومعتقداتها وأفكارها، خصوصًا تلك التي تَرِد بضمير المتكلم؛ لقدرة هذا الأخير على غزو النفسيات أشدَّ من ضمير الغائب أو مِن لسان الراوي العليم.
هذه الرغبة في التماهي مع الشخصيات والاستعانة بها في أشدِّ لحظاتنا حرجًا تغذيها رغبتنا في الهرب من الوحدة. فلو كنا كائنات وحيدة بالفطرة، كما يذكرنا قابرييل قارسيا ماركيز، لتحايَلْنا على هذه الوحدة بالتقرب من شخصيات ليست حقيقية، لكنها تمنحنا شعورًا حقيقيًا. هكذا نستطيع أن نشعر بالانتماء، وندرك أن ما يعتلج في صدورنا وأذهاننا ما هو إلا مشاعر وأفكار لها نظائر، وليست شاذة، ومن الممكن إشراك غيرنا معنا فيها، ومن شأن هذا تنمية الشعور بالثقة، والسعي إلى الانفتاح على عوالم ظلت موازية لحياتنا طويلًا. مع الأدب وشخصياته تنهار تلك الحدود، وتمتدُّ من جديد جسور التواصل، ونستطيع إيجاد روابط أشدَّ حكمة وذكاء.