التولي يوم الطحن!
لأني معجب، كما تعلمون، بمساحة حرية التعبير في الكويت الحبيبة فقد فاجأني أن هذه المساحة أضيق من أن تستوعب رأيًا في كيس طحين.
استيقظ العالم صبيحة أحد أيام شهر أغسطس من العام الثالث والعشرين من بداية الألفية الثالثة على فاجعة مهلكة وكارثة مدوية، أنستهم مكابدة الطقس والأجواء الحارة التي تكاد تشوي الوجوه وتطبخ الأبدان.
في الليلة التي سبقت هذا الحدث الجلل ذهب الناس إلى مراقدهم مطمئنين، فالعالم بدا هادئًا على غير العادة، والسلام يعم أرجاء الكوكب لدرجة أن الجمادات تكاد تصافح الناس في الطرقات. كثير من الناس كانوا يتمتمون لفرط السعادة التي تغمر العالم ويدعون الله أن يكفيهم شر القادم. فهذا الكمال الذي يجتاح الكوكب لم يعد بعده إلا النفخ في الصور وقيام القيامة وبدء الحساب. بعضهم اعتاد أن يقوم الليل يسأل الله من فضله، طالبًا رحمته سبحانه وإعانته على تحقيق الأحلام المتعثرة، ولكن كثيرًا من أولئك البعض قرروا النوم في تلك الليلة لأنهم لم يجدوا أحلامًا إضافية يدعون ربهم أن يحققها لهم.
لكنها الدنيا التي «لا يدوم على حال لها شانُ» فلم تدم تلك الطمأنينة وسرعان ما تبددت السعادة التي نام الناس وهم يظنون أنها أبدية، فقد استيقظ العالم مفجوعًا وهو يشاهد أحد السعوديين يصف الطحين الكويتي بأنه غير جيد. هكذا بكل بساطة ودون تقدير للعواقب يقرر هذا السعودي الطائش أن يبدد السلام العالمي وأحلام الناس في الاقتراب من الكمال.
في بداية الأمر حاول الكويتيون أن يبحثوا عن مخارج وأن يفترضوا حسن النية، البعض تمنى أن يكون الأمر مجرد مزحة ثقيلة، وآخرون انتظروا أن يعلن هذا السعودي توبته وأنه قد غُرر به من قِبَل كائنات شريرة، وأنه باع نفسه للشيطان قبل أن يستيقظ ضميره ويبوء بذنبه على رؤوس الأشهاد ويكفر عن تلك الخطيئة. لكن شيئًا من ذلك لم يحدث للأسف، فقد بدا واثقًا ومصرًّا على أقواله التي ستغير مجرى الأحداث في العالم، وسيكون ظهوره في ذلك «البودكاست» مع المقدم الشرير الذي خطط ودبر للأمر واستدرجه ليقول رأيه في الطحين لحظة مفصلية لن يتجاوزها التاريخ، فالعالم قبل اللقاء ليس العالم بعد اللقاء، والسكينة التي ملأت القلوب قبله كأنما انتزعت انتزاعًا من قلوب الخلق بعد نهايته. وبعد أن تكشفت الحقائق وأصبح جليًا أن الأمر ليس زلة لسان ولا خطأ غير مقصود، هب الكويتيون غاضبين يجوبون وسائل التواصل الاجتماعي صارخين في وجه كل من قابلهم: «من هذا الذي يشتم طحيننا؟!»
في الطرف المقابل لم يسكت السعوديون، وهبوا زرافات ووحدانًا يدافعون عن طحينهم الخاص، قبل أن يهاجمه الكويتيون انتقامًا لطحينهم. ووقفوا وقفة رجل واحد شعارهم:
متى ننقل إلى قومٍ رحانا
يكونوا في اللقاء لها طحينا.
أصوات العقل لم تغب عن هذه الواقعة المؤلمة، وكثيرون لم يرغبوا في أن يكونوا طرفًا في هذه النازلة التي ألمت بالشعبين الشقيقين، لكن أصواتهم لم تكن عالية بما يكفي لسماعها، فلا صوت يعلو على الجعجعة في حضور الطحين.
كانت الأصوات الهادئة تقول في أدب جم: لا تؤذونا في طحيننا، وافعلوا ما بدا لكم فيما سواه. لكن المؤسف أنه لم يلتفت أحد لهذه الأصوات، فالعقل في وقت الأزمات والأحداث الكبيرة دليل خيانة وضعف وانهزام، وليس أسوأ من أن توصم بأنك من الذين «تولوا يوم الطحن».
هذا النوع من الصراعات يجذب إليه جماعات متطرفة تقاتل يوميًا في كل الجبهات، وأعني ميليشيات مقاومة الكاربوهيدرات، وجماعات الحمية الغذائية، هؤلاء الذين ينتظرون يومًا تشن فيه حرب على الطحين في كل أرجاء الكوكب، ويأملون رؤية صوامع الدقيق وهي تنهار حتى تصبح أثرًا بعد عين. ولذلك قال قائلهم بعد أنشبت الحرب أظفارها في موقعة ذات المطاحن: ألم نقل لكم إن الكاربوهيدرات لا تأتي بخير؟!
في العالم الموازي يجب أن نحمد الله على صراعات من هذا النوع، فمشاكلنا لم تتعد المعدة إلا إلى القولون، والاختلاف على مكونات المعجنات والفطائر لا يفسد للطحين قضية، فهذه غالبًا مشاكل المترفين. ولأنها كذلك فإني أدعو كافة الأطراف إلى ضبط النفس والجنوح للسلم، وألا يبالغوا في إظهار وطنيتهم حتى في الدفاع عن أكياس الطحين.
ولأني معجب، كما تعلمون، بمساحة حرية التعبير في الكويت الحبيبة فقد فاجأني أن هذه المساحة أضيق من أن تستوعب رأيًا في كيس طحين.
ثم أما بعد:
يا أيها الناس، كلوا واشربوا واحمدوا الله على نعمه الظاهرة والباطنة، التي ليس أقلها أن تكون المشكلة التي تؤرقكم وتقض مضاجعكم وتستنهض حب الوطن في قلوبكم هي أن يشتم بعضكم بعضًا من أجل أن يثبت أن «طحيننا أفضل من طحينكم».
الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!