لو ألقينا نظرة خاطفة على نتائج القبول في الجامعات السعودية فسيتبين أنه لو قدر أن يكون الزميلان نيوتن وأينشتاين من خريجي الثانوية العامة في السعودية هذا العام فإنهما دون شك سيواجهان صعوبات في الالتحاق بالجامعة، وربما يكتفيان ببعض دورات التنمية البشرية أو التوجه إلى تطبيق «تك توك» لتزجية الوقت ومحاولة تحسين مستواهما المعيشي من خلال طرائق التسوّل الحديثة إلى أن يجدا مقعدًا جامعيًا شاغرًا.
والحقيقة أني لم أطلع على دراسة تبين أسباب ارتفاع معدلات الطلاب بهذا الشكل غير المنطقي. سواء في نتائج الثانوية العامة التي أصبح يُنظر إلى الطالب الذي يحصل فيها على نسبة أقل من 95% على أنه كسول ومهمل وغير جدير بمرافقة الآخرين إلى المستقبل. أو نتائج اختبارات القدرات والتحصيلي التي التحقت مؤخرًا بركب درجات الثانوية العامة وأصبح معظم الطلاب يحصلون فيها على درجات تظهر أنهم يمتلكون قدرات خارقة.
ولا تعلم حين تطالع نتائج القبول في الجامعات في الأعوام الأخيرة هل هذه درجات القبول أم نتائج انتخابات في دولة عربية في القرن الماضي؟ فدرجة القبول في تخصصات عادية أصبحت تقريبًا النسبة نفسها التي كان يحصل عليها القائد المُلهم بطل الحرب والسلام في الانتخابات العربية.
أود،مثلكم جميعًا، الاعتقاد بأن الدرجات العالية سببها طفرة جينية أدت إلى نبوغ جميع أفراد المجتمع، ولكني أخشى ألّا تكون هذه الحقيقة.
في اختبارات قياس الذكاء، على سبيل المثال، ارتفعت المعدلات في العالم، ليس لأن الناس أصبحوا أكثر ذكاءً ولكن لأن الاختبارات أصبحت متاحة ويمكن دراستها ومعرفة كيفية الحصول على درجات عالية. أي إن كل ما في الأمر أن الناس «حفظوا» الآلية التي تجعلهم يبدون أكثر ذكاءً مع أنهم ليسوا كذلك.
إضافة إلى أن المعارف التي يعرفها الطالب الآن خارج المدرسة أكثر بكثير من تلك التي تعلمه إياها المدرسة، حتى في المواد الدراسية يمكن للطالب أن يشاهد آلاف الحصص والمحاضرات التي تتكلم عن المنهج الذي يدرسه ويقدمها معلمون ومعلمات بكل لغات العالم الحية والميتة وبأكثر من طريقة.
والسؤال الذي أسأله نفسي: هل لكمية المعلومات التي يعرفها الإنسان علاقة بالذكاء أو الإبداع أم الأمران مختلفان؟ والحقيقة: أيها الناس إني لا أعلم، ولكني أحب بين الفينة والأخرى أن أسأل أسئلة لا أعرف إجاباتها ولا أنتظرها.
والسؤال الآخر وهو سؤال محلي ربما لا يصلح أن يُطرح خارج الحدود، هل يواكب التعليم العام السرعة التي تتطور بها طرائق المعرفة بداية من وجود الإنترنت وانتهاء بالذكاء الاصطناعي؟ أم اكتفى المسؤولون عن التعليم بمطاردة «الترند» في وسائل التواصل والبحث عن كل موضوع يكون الأكثر تفاعلًا من أجل إضافة منهج جديد عنه؟
أظنكم لن تتفاجؤوا حين أخبركم بأني لا أعلم أيضًا، وليس لدي إجابات واضحة، ولعل هذه فرصة للطلب من وزارة التعليم أن تدرس منهجًا جديدًا لطلاب الثانوية للإجابة عن الأسئلة التي تبدو دون إجابات.
ربما تكون لديهم حكمة لا نعرفها، وهذا مخرج جيد تعلمته من جدتي رحمها الله، فحين أسألها عن أمر فعله أحدهم دون أسباب واضحة تقول: «معوه حچمة».
صحيح أن من المنطقي أن الطلاب الذين يتمكنون من الالتحاق بالجامعة ليسوا النسبة الكبرى من خريجي الثانوية، هذا أمر مفهوم ومعروف في كل العالم، لكن ما أعنيه هو أن نسبة المتفوقين يجب أن تتوافق مع نسبة المقبولين في الجامعات؛ لأنه ليس من المنطقي أن يكون كل طلاب الثانوية تقريبًا متفوقين. لا بد أن هناك خللًا ما في مكان ما يؤدي إلى مثل هذه الظاهرة غير المفهومة.
منذ أن اعتُمدت اختبارات القدرات والتحصيلي معيارًا للقبول في الجامعات تغيرت عدة أمور، أبرزها انتشار المعاهد التي تقدم دورات في الاختبارين، وظهور سوق جديدة ومؤلفات وكتب عنهما أصبحت هي الأكثر مبيعًا والأغلى ثمنًا. وهذا أدى إلى التركيز فيهما وفهم خفاياهما على مدار السنوات حتى أصبح من اليسير الحصول على درجات عالية في القدرات لمن ليس لديه أي قدرات سوى حفظ «التجميعات». وتراجع الاعتماد على نتائج الثانوية العامة حتى أصبح وزنها في نسب الموازنة في بعض الجامعات 10% فقط. وهي نسبة من باب رفع العتب ليس إلا، لأنهم ربما لا يزالون يتحرجون من القول صراحة إنها بلا أي وزن على الإطلاق، وثمة جامعات أخرى أتاحت القبول المبكر لمن يحصل على درجة 100 في القدرات حتى قبل أن يعرف نتائج الثانوية العامة.

والسؤال هنا، الذي لا أعرف إجابته، لماذا يختبر الطلاب مواد الثانوية العامة إذا كانت المحصلة النهائية أنها اختبارات عديمة الجدوى؟!
ربما يكون من المناسب أن تُخترع طريقة جديدة. كأن تكون الثانوية العامة بلا اختبارات نهائية، ويحصل الطالب على شهادة بأنه أتم حضور الدراسة فقط دون نسبة ولا نتيجة، ويتم الاعتماد فقط على اختبارات القبول التي تجريها الجامعات من طريق المركز الوطني للقياس.
أرجو ألا تقلقوا من اقتراحاتي، فأنا أتكلم فقط، ومن حسن حظكم أني لست وزيرًا للتعليم، وحتى لو طبّقت فيكم وفي أبنائكم تجربة جديدة خطرت على بالي في لحظة تأمل عميقة في أحد المقاهي فلن يضركم ذلك وستتخطون الأمر؛ لأن هذا ما تفعله بكم وزارة التعليم منذ نشأتها.