هل يستحق «أوبنهايمر» كل هذه الضجة؟
«أوبنهايمر» فلم كبير لأنه كبير، شكلًا وموضوعًا وطرحًا، ولأنه مثْل شخصيته الرئيسة: مليء بالمساحات الرمادية ومناطق الخلاف.
أفعالنا في هذه الحياة يتردد صداها إلى الأبد.
هل يستحق «أوبنهايمر» كل هذه الضجة؟
أحمد شوقي
تمثل حالة الترقُّب التي عشناها الأشهر الماضية عقبة في سبيل تقييم فلم مثل «أوبنهايمر» بتجرد، فشبح الإحباط لعدم موافقة الفلم للتوقعات الكبيرة، أو الاستسلام المُسبق للرغبة في الانبهار به أيًا كان مستواه، يظل حاضرًا.
غير أنَّ التحدي الأهم للناقد عند مشاهدة فلم كـ«أوبنهايمر» لا يقتصر على التوقعات المُسبقة، وإنما يكمن بالأساس في كون الفلم أصبح بالفعل، قبل أن يشاهده إنسان سوى صنّاعه، جزءًا من الثقافة الشعبية (pop culture)؛ ومن ثم لا فكاك من أن يرتبط تقييمه بموقف المُشاهد من الثقافة الشائعة بشكلٍ عام.
وإذا كانت إحدى مهمات النقد الجوهرية وضع الفلم في سياقه، كمُنتَجٍ إبداعي من صُنع فنانٍ يعيش في زمانٍ ومكانٍ وله أعمال سابقة، فإن هذا السياق يصير هنا أشد تعقيدًا، تارةً لما يملكه الفلم من تأثير كونيّ النطاق، يشتبك في الجدل حوله فئات عدة من البشر المختلفي المشارب، وتارةً لأن نولان نفسه صانع أفلام خلافيّ، من نوعٍ نادر، يمكن أن ترصد من يقدّسه ويراه فنان هذا العصر ومن يزدريه ويصنفه كمُحتال. وتجد أن الرأي في الحالتين له وجاهة وقدرة على الإقناع!
حتى ما فعله نولان عندما اختار نوع شاشات بعينها يزكِّيها، بل مقاعد مفضلة يرشح للجمهور مشاهدة فلمه منها، هذا أمر يمكن تفسيره على وجهين: إن وجدته رغبة في إتقان التجربة بأدق تفاصيلها فستكون منطقيًا، وإن رأيته مجرد تزيُّدٍ غرضه زيادة الدعاية والجدل فلن تكون مخطئًا كذلك.
إذا حاولنا تحييد كل هذه التأثيرات قدر المستطاع، والنظر إلى «أوبنهايمر» بتجرد، فسنجد أنفسنا أمام فلمٍ كبيرٍ بحق، سرديًا وبصريًا وأدائيًا، يحاول فيه المخرج كعادته تحقيق أهدافٍ عدةٍ في آن، فينجح هذه المرة في معظمها، دون أن ينزلق في الاستعراضية التي شابت بعض أفلامه السابقة. بل يمكن القول إن سر تميُّز الفلم هو اختلافه عن معظم أعماله السابقة.
نولان مهووس بالزمن، اختبره من قبل في أفلامه بصورٍ عدّة، سواء بكون مفهوم الزمن موضوعًا لفلم «إنترستِلر» (Interstellar)، أو أداةً للسرد في «ميمنتو» (Memento). ثم اختبره بالتجريب في شكل الزمن الفلمي في «دنكِرك» (Dunkirk) وهو العمل الذي يبدو بسيطًا ولا يثير لعاب عشاق نولان، مع أنه امتلك تجربةً مدهشةً تتعلق بالزمن: سرد الحكاية بالتقاطع بين ثلاثةِ خطوطٍ درامية: زمن أحدها أسبوع، والثاني يوم، والثالث ساعة.
يميل «أوبنهايمر» إلى صف «دنكِرك» بانتهاج تجربة سردية جادة، لكنها خالية من البهرجة التي يُثمّنها عُشاق «إنسبشن» (Inception) و«إنترستِلر». تتلخص التجربة في أنه على رغم كونه فلمَ سيرةٍ ذاتيةٍ يدور إجمالًا في ثلاثة مستويات زمنية (شباب أوبنهايمر وصولًا إلى مشروع مانهاتن، وجلسة الاستماع الخاصة به، وجلسة الاستماع للسيناتور شتراوس)، إلا أن المُحدِّد السردي الذي يختاره المخرج ليس الزمن بل وجهة النظر، حيث يوظِّف نص نولان لأول مرة، منذ عدة أفلام، وجهة نظر الشخصية (first person)، بدلًا من اعتياده السرد المحايد (الراوي العليم).
في كل مرة تُروى الأحداث فيها من منظور أوبنهايمر تكون الصورة بالألوان، وفي كل مرة تتغير الزاوية فيها إلى وجهة نظر شتراوس تتحول إلى الأبيض والأسود. أي إنه على رغم تحرك الأحداث بحريةٍ زمنية، قافزةً من المستقبل إلى الماضي والعكس، فإن مدخل المُخرِج السردي لم يكن زمنيًا، بل يتعلق بالرؤية التي تُترجَم إلى اختيارات بصرية.
ثمّة نضج كبير في هذا القرار، ليس لما يضفيه من ثراءٍ بصري (سنعود إلى معضلة نولان والصورة لاحقًا)، بل لأنه يُعبر عن فلسفة الفلم وموقف صانعه تجاه موضوعه، واختياره ما يمكن أن نسميه مجازًا «الانحياز المحايد».
نولان ينحاز بشكلٍ واضحٍ إلى شخصيته الرئيسة، روبرت أوبنهايمر أبي القنبلة الذرّية، سواء عبر مركزية الشخصية التي توحي بأن الرجل هو مُخترع القنبلة وليس مدير المشروع الذي شاركت فيه أنبغ عقول العالم، أو بتبني رؤية تُظهره في أشد الأشكال براءة. فهو طفلٌ حالمٌ وجد أكبر دولة في العالم تمنحه تصريحًا مفتوحًا بتحقيق أحلامه العلمية. هنُاك رؤى تاريخية أخرى عدة للرجل اختار الفلم تجاهلها.
لكن الفلم في سبيل هذا الانحياز لا يتردد في عرض الموضوع من زوايا مختلفة شيّقة، منها العلاقة بين العلم والسياسة، فالعالِم لا يمكن أن يتظاهر بالبراءة إلى الأبد ويظل محتميًا بالمختبر ما دامت أبحاثه تتُرجم إلى قراراتٍ سياسيةٍ تمس ملايين البشر. الرئيس ترومان يقول لأوبنهايمر النادم ساخرًا: «أنت لم ترم تلك القنبلة، أنا فعلت». هل كان بإمكان ترومان أن يفعلها لو لم يعمل العِلم لمصلحته؟ لا أعتقد.
هناك أيضًا سؤال أخلاقية العلم، وإلى أي مدى يُمكن أن تُمد خطوطها على استقامتها. البطل تحرك انطلاقًا من ثقته بتطور يحدث في كل مكان، وأن توازن التسلّح بين الدول العظمى سيكون الضمان الوحيد لسلامٍ دائمٍ، قبل أن يغيّر رأيه عندما تنبئه التجربة بالحقيقة التي غابت عنه: عندما يصير السلاحُ الافتراضي حقيقةً فلن يطول الزمن قبل أن ينفد صبر أحدهم ويقرر استخدامه.
لعبة الألوان ووجهات النظر أسهمت في التعبير عن تلك الطروحات، ووجهة نظر السيناتور شتراوس بالأبيض والأسود، بكل ما فيها من قتامة، هي تجسيد عملي لفكرة «محامي الشيطان». نولان ينحاز إلى أوبنهايمر، لكنه لا يجزم بأنه يمثل الخير، ولا يزعم أن شتراوس ينتمي إلى معسكر الشر، هو فقط يرى العالم من زاوية أخرى، قد تكون أشد برقماتية، لكنها -شئنا أم أبينا- لها وجاهتها.
تتبقى الإشارة إلى ما يحبه عشاق المخرج المتحمسون، أي تفاصيل الصورة وقراره الدائم بالتصوير الفعلي وعدم استخدام الصورة المخلقة رقميًا. هذا أمر أضحى مثارَ تندّرٍ ومزاحٍ حول المُشاهد الذي تحترق القاعة به وهو يمتدح واقعية نولان. وهذا مزاح لو نحَّيْنا ما فيه هو الآخر من ارتباط بالثقافة الشعبية والتنافس بين معسكرين فسنجده يطرح سؤالًا جوهريًا: في ظل الطفرات التقنية الهائلة، هل يوجد فرق حقيقي بين التصوير الفعلي وتخليق الصورة رقميًا؟
رأيي المتواضع أنه، بعيدًا عن مستوى الاحتراف، لم يعد هناك فرق يُذكر. معظم جمهور السينما لا يمكنهم التمييز بين نوعي الصورة ما لم يُلَقَّنوا المعلومة سلفًا. أحب أن يُحرِّك الفلم مشاعري ويدفعني إلى التفكير في العالم ويمتع عينيّ بصورة جميلة مناسبة للموضوع، سواء صوَّر لقطاته باستخدام قنابل حقيقية أم خلّقها بشاشة حاسوب. فماذا يفيد تفجير ألف قنبلة إذا كانت لمصلحة فلم رديء؟
باختصار: «أوبنهايمر» فلم كبير لأنه كبير، شكلًا وموضوعًا وطرحًا، ولأنه مثْل شخصيته الرئيسة: مليء بالمساحات الرمادية ومناطق الخلاف. صانعه ليس معصومًا ولا موصومًا، هو مجرد فنان آخر يحاول بدأب فيُخطئ ويُصيب، وقد أصاب هذه المرة إجمالًا، بغض النظر عمّا يثيره عشاقه وكارهوه من ضجة لا تنتهي.
ملاحظة أخيرة:
في السعودية ومصر والإمارات، عُرضت النسخة نفسها من الفلم التي تُترجِم كلمة (Jewish) «يهودي» في كل مرة تُقال فيها إلى «غريب»، في تصرف بعيد عن أخلاقيات الترجمة واحترام عقول المشاهدين. يصعب عليّ إيجاد تفسير للأمر. لعل على الموزعين إدراك أنَّ وعي جمهور السينما العربي صار أكبر من معاملته بتلك الصورة.
أخبار سينمائية
الفلم التونسي «وراء الجبل» للمخرج التونسي محمد بن عطية ممثل وحيد للعرب في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي. الفلم يشارك في قسم «آفاق»، وهو مدعوم من مهرجان البحر الأحمر السينمائي .
يذكر أن المخرج التونسي يملك مسيرة سينمائية مميزة، إذ اكتسب شهرة واسعة منذ طرح عمله الروائي الأول «نحبك هادي»، المتوَّج بجائزتين في الدورة السابعة والستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي. ثم بعد ذلك كانت تجربته السينمائية الثانية من خلال فلم «ولدي» الذي عرض في قسم «نصف شهر المخرجين» بمهرجان «كان» السينمائي في دورته الحادية والسبعين. لذا فالترقب والحماس كبيران لعرضه ومشاهدته، بخاصة عند عرضه في المهرجانات السينمائية العربية.
توصيات سينمائية
أفلام السيرة الذاتية
حديث الساعة هذه الأيام فلم «أوبنهايمر» الذي يروي سيرة العالم الأمريكي، وقد أعاد إلى المشاهدين السينمائيين متعة مشاهدة الأفلام التي تروي سيرًا ذاتية سواء أكانت لعلماء أو مشاهير رياضة أو زعماء سياسيين. في هذه التوصيات نستعرض أبرز هذه التجارب السينمائية:
«غاندي» (Gandhi) 1982
الفلم الذي تدور أحداثه حول قصة الزعيم الهندي الشهير غاندي منذ طرده في عام 1893 من جنوب إفريقيا حتى يعود إلى الهند ويصبح بطلًا قوميًاـ ليبدأ حملة أخرى في موطنه للحصول على الاستقلال.
«مالكوم إكس» (Malcolm X) 1992
يروي حكاية الداعية الإسلامي والزعيم الإفريقي الأمريكي المدافع عن حقوق الإنسان مالكوم إكس، حين كان مجرمًا وجرى حبسه، ثم تحول إلى الإسلام وأصبح واحدًا من أهم الشخصيات في التاريخ الأمريكي.
«التواصل الاجتماعي» (The Social Network) 2010
الفلم يروي قصة مشروع من خلال حكاية كواليس وبدايات انطلاق إمبراطورية «فيسبوك»، إلى جانب التعريف بقصة مارك زكروبيرق مؤسس «فيسبوك» منذ أن كان طالبًا في الجامعة، مرورًا بعمله مع صديقه إدواردو سافرين على تطوير الموقع، والتقلبات النفسية والاجتماعية التي مر بها زوكربيرق بعد تطور الموقع.
«لينكون» (Lincoln) 2012
تدور الأحداث حول حدث أساسي في حياة الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن وجهوده للفوز بالحرب الأهلية اﻷمريكية التي استمرت ربع سنوات، وتمرير التعديل الثالث عشر للدستور الأمريكي الذي يمنع العبودية بجميع أشكالها، والصعوبات التي واجهها من خصومه السياسيين داخل مجلس النواب.
«إسكندرية..ليه» 1978
فلم«إسكندرية.. ليه» للمخرج يوسف شاهين هو أول أفلامه في رباعيته التي تتناول سيرته الذاتية (إسكندرية.. ليه وحدوتة مصرية وإسكندرية كمان وكمان وإسكندرية نيويورك). الفلم، على غير المعتاد عربيًا، يروي حياة المخرج بشفافية تامة بانكساراته وأخطائه، وعلاقاته مع أسرته وعلاقاته الشخصية ودخوله للفن. كما يواكب مجتمع الإسكندرية في سنوات شبابه.
يعرض الآن
يعرض هذا الأسبوع في صالات السينما فلم ديزني الجديد «Haunted Mansion» عن أم تستعين بكاهن وطبيب ليساعداها على طرد الأشباح التي اكتشفت أنها تملأ قصرها الذي اشترته حديثًا. الفلم من بطولة جيمي لي كروتيز ووينونا رايدر وجاريد.
يعرض هذا الأسبوع في صالات السينما فلم الرعب «Talk to Me» عن مجموعة من الأصدقاء يكتشفون طريقة لاستحضار الأرواح من خلال يد محنطة، لتبدأ رحلتهم مع القوى الخارقة.
يعرض على منصة ديزني فلم «ستان لي» (Stan Lee)، وهو وثائقي بحكي قصة حياة الأسطورة ستان لي من بداية دخوله عالم «الكوميكس» مرورًا بقصته مع ابتكار الشخصيات الشهيرة مثل «سبايدر مان» و«أيرون مان» و«إكس مين».
مقالات ومراجعات سينمائية أبسط من فلسفة النقّاد وأعمق من سوالف اليوتيوبرز. وتوصيات موزونة لا تخضع لتحيّز الخوارزميات، مع جديد المنصات والسينما، وأخبار الصناعة محلّيًا وعالميًا.. في نشرة تبدأ بها عطلتك كل خميس.