ضللت طريقي للفندق في إسطنبول، ووجدتني أتجول ساعات في طرقات المدينة لأكتشف بنفسي عشرات الأماكن الجميلة التي كانت تسكن خيالي، كأني في فلم أو رواية. وتذوقت أطباقًا لذيذة من الشاورما والكباب التركي في مطاعم شعبية لم تظهر لي أبدًا بترشيحات التواصل الاجتماعي التي اتبعتها منذ بداية الرحلة، لينتهي اليوم بكونه الأروع على الإطلاق.
ما ذكَّرني بيومي ذاك في إسطنبول ظهور مقطع فيديو أثناء تصفحي اليومي لتطبيق تك توك، بعنوان «أفضل 5 أماكن للزيارة في إسطنبول». لم يتضمن الفيديو أي مكان زرته في ذاك اليوم، لكن تضمَّن كل الأماكن الشهيرة التي زرتها مثل الآخرين. ولك أن تتخيَّل احتشاد السيّاح في تلك الأماكن، وما يتأتى عن الحشود من احتكاك وضيق وضغط على العاملين والخدمات، لنجد أنفسنا بدل الاستجمام نعاني من «الاكتظاظ السياحي»!
تتكاثر هذه النوعيَّة من فيديوهات الترشيحات السياحية على شاكلة «أفضل خمسة مطاعم دجاج في جدة» و«كيف تقضي يومك في الإسكندرية» و«أفضل مقاهي الرياض» في تك توك وإنستقرام ويوتيوب. وأصبح الأمر أقرب إلى وجود «كتالوج» خاص بكل بلد، وعلى جميع المسافرين اتباعه وإلا أضاعوا على أنفسهم الرحلة المثالية. وبالطبع أدى ذلك إلى اكتظاظ أماكن بعينها بالسائحين، مما أفقدها رونقها.
ففي عام 2019 مثلًا، أغلق متحف اللوفر أبوابه لفترة وجيزة بعد الإضراب الذي نظمه موظفوه احتجاجًا على تدفق حشود من الزوار على المتحف تجاوزت الطاقة الاستيعابية. وكثير من هذه الحشود قد لا يكون مهتمًّا حقًّا بما هو معروض في المتحف، ومع ذلك يزوره لأنه معلم سياحي يعتقد أنَّ عليه زيارته وإلا لن تكتمل رحلته وفق مقاطع الترشيحات.
قد تعترض عليَّ هنا وتقول إنَّ اللوفر أشهر من احتياجه إلى فيديوهات الترشيحات، لذا سأعطيك مثالًا آخر. على بُعد أمتار من منزلي مطعم لا تخلو قائمة ترشيحات سياحة الطعام في مصر منه، حيث يؤكد الجميع عبر منصات التواصل الاجتماعي أنه يقدم أشهى الأطباق في القاهرة. ولأنني زبون قديم أعرف جيدًا أن المطعم لا يقدم أي طعام استثنائي، لكنه يملك باحة واسعة مثالية لالتقاط الصور.
هكذا تحوِّل الترشيحات رحلاتنا إلى فلك واحد ندور جميعنا فيه، نأكل الطعام نفسه ونتنزه في الأماكن نفسها بل نقضي اليوم نفسه، دون أن يترك أحدنا فرصة لنشوء ذكريات فريدة عن الرحلة.
لكنْ لأننا نعيش في عالم تك توك، فقد بدأت تظهر موجة جديدة مضادة من مقاطع فيديو السياحة بعنوان «تك توك في مواجهة الواقع». في هذا المقطع تحديدًا تظهر في البداية لقطة مثالية لجزيرة سانتوريني اليونانية بمحاذاة البحر خالية من البشر وكأنها الجنة، ثم فجأة يتحول المشهد لكادر واقعي من الجزيرة مكتظ برؤوس السيّاح.
لذا اسمع نصيحتي: ابتعد عن المعالم الشهيرة إن لم تكن مهتمًا بها حقًّا، وإذا وجدتَ معلمًا جميلًا لم تصله رؤوس السيّاح بعد فإياك تشاركه في مقاطع الترشيحات، حتى يتسنى لك الاستمتاع به مرة أخرى بعيدًا عن الزحمة!
مقالات أخرى من نشرة أها!
ستوثق أنت التاريخ كما تشاء
قد لا نحتاج مستقبلًا لوساطة الكتّاب الوثائقيين، ونترك الأمر للذكاء الاصطناعي يأخذ منا المعلومات، ويمنحنا كل الطرق التي ربما أدت إلى الحدث.
أنس الرتوعيست وعشرون كلمة صنعت الإنترنت
«يمكن لمنصات الإنترنت أن تنشر وتعدل محتوًى منشورًا من أطراف ثالثة، دون أن تتحمل المسؤولية القانونية عن ذلك.»
سفر عيّادالسّتْر من فضائح الإنترنت
يلجأ العديد إلى خدمات تنظيف «البروفايل» لأسباب عديدة، أهمها أنَّه لا يعكس حقيقة صاحبه (أو لعله الخوف من الإقصاء).
ثمود بن محفوظازدواجية «الألمان في خبر كـان»
يجب ألا نتخلى عن حقيقة وجود أوجه متعددة اليوم لفرض حضور الثقافات وتباينها، دون الارتكان لمنظور الغرب الشمولي وتعريفاته عن الحياة الفاضلة.
حسين الإسماعيل«إكس» يحولنا إلى سُرَّاق الدراجة
إيلون مسك قد ينجح أخيرًا في تحويل مجتمع تويتر من ساحة تبادل للأفكار والآراء إلى مجتمع من «سرّاق الانتباه» تحقِّق له مبتغاه.
إيمان أسعدأخبار العالم في قوقعة تويتر
بدأتُ التفكّر في المحتوى الذي ترشّحه خوارزميات تويتر لي، وأدركتُ أنها لا تعطيني ما أرغب في رؤيته فحسب، بل تتأقلم مع تغيّر رغباتي أيضًا.
رويحة عبدالرب