علّموا الأطفال البرمجة في المدرسة
يُعد تعليم الأطفال البرمجة في المدرسة أحد الأهداف الطموحة التي يجب على الدول تبنيها، إذا كانت تملك الرغبة في مواكبة التطور التقني المتزايد كل يوم.
في بداية عام 2012، قرر محافظ مدينة نيويورك مايكل بلومبيرق أن يضيف تعلّم البرمجة إلى لائحة أهداف عامِه. وقد تستغرب أن يقرر شخصٌ في مجالٍ كمجال بلومبيرق أن يتعلّم البرمجة في عمرٍ يتجاوز السبعين، لكنّ قراره كان ذا حكمةٍ بالغة.
فكّر فيما تفعله كلّ يومٍ باستخدام الأجهزة الإلكترونية، تتصفّح الشبكة بحثًا عن مواقع تهمك، وتستعمل تطبيقات التواصل الاجتماعي، وتلعب بالألعاب الإلكترونية. المشترك فيها الفعل الأوّل في كلّ جملة: تتصفّح، وتستعمل، وتلعب. فتعاملك إذن مع الأجهزة الإلكترونية لا يتعدّى الاستهلاك.
البرمجة فعل سحري لا يستطيع تنفيذه إلا قلّة مختارة
عندما تفكّر في الجيل الجديد، فأنت غالبًا تربطه مع الأجهزة التقنية، وتعتبره جيلًا تقنيًّا وُلِد عالمًا بهذه الأجهزة، لكنّ الواقع مناف لهذا، فالجيل الجديد أيضًا لا يتعدّى أغلبه حاجز الاستهلاك. أما التصنيع، فتغلب فكرة أنّه أمر شبه مستحيل، التصوّر العام عن البرمجة أنّها فعل سحري لا يستطيع تنفيذه إلّا قلّة مختارة.
ثمة فرق واضح بين أن تتمكّن من استعمال التقنية وأن تصنع واحدةً، إنّ استماعك للكثير من الموسيقى لا يجعلك موسيقيًّا ولا عالمًا بالضرورة بأساسيات تأليفها وصناعتها. ورغم أنّ التمكّن من صناعة التقنية بمستوًى يوازي مستوى استعمالها أمر بالغ الضرورة، إلّا أنّ الكثير من الإهمال موجّه نحوها.
فكّر بالبرمجة كما تفكّر باللّغة، حينما كنت طفلًا رضيعًا لم تتمكّن من التعبير عن احتياجاتك بغير البكاء. وقد تتنوّع حاجتك، إلّا أنّ الأداة الوحيدة المتوفّرة لك حينها كانت البكاء. كان تعلّمك للغتك فارقًا كبيرًا في حياتك، فقد تمكّنت بعده من التعبير عما تحتاجه بتفصيل وتحديد أكثر. والبرمجة شبيهة شبهًا واضحًا بهذا، فعندما نستعمل التطبيقات دون أن نصنعها، نكون قد تجاهلنا فجوةً ضخمةً كان ملؤها ليساعد في تطوّرنا لا شكّ.
هي أسلوب لحلّ المشكلات، وتصحيح الأخطاء، وتصميم الحلول، وتطوير المشاريع
يحتاج بناء جيل يستطيع أن يصنع تقنيات لا تقلّ عن عدد التي يستعملها إلى البدء في ذلك من الصفر. وليس تعليم البرمجة للكبار أو الشباب بمستحيل، لكنّ البرمجة لا تتوقّف عند فهم طريقة الكتابة ومكوّنات اللغة، بل هي أيضًا أسلوب لحلّ المشكلات، وتصحيح الأخطاء، وتصميم الحلول، وتطوير المشاريع، وهذه مهارات قد تربو صعوبة تعليمها للكبار عن الصغار.
ليندا لوكاس (Linda Liukas) مبرمجةٌ مهتمةٌ بتعليم الأطفال البرمجة، ورأيها في سبب أهمية ذلك هو أنّ المستقبل سيتكوّن من برامج (Software) أكثر وعتادٍ (Hardware) أقل. ويظهر ذلك جليًّا في حركات الشركات التقنية الكبرى، فقد استغنينا عن الأقراص المدمجة وبدأنا باستعمال خدمات التخزين السحابي. كما أنّنا بدأنا بالتخلّي عن البطاقات الائتمانية والاعتماد أكثر على الدفع بالهاتف أو بالعملات الرقمية. ومستقبلٌ كهذا يحتاج حسب رأي ليندا إلى أن يُبنَى بأيدي الجميع، وليس ثلّةً من المبرمجين الذين لا يفهم أحدٌ عملهم.
تحدّثت ليندا عبر TED عن طريقةٍ ذكيةٍ لتعليم الأطفال البرمجة، أي تستبدل الكلمات المعقّدة والجمل الطويلة بقصصٍ بسيطةٍ ميسرةٍ تخيل اللغات والتقنيات البرمجية شخصياتٍ من عمر الأطفال تتفاعل معهم وتحكي تفاصيل حياتهم. كتبت ليندا كتابًا بعنوان «مرحبًا روبي» (Hello Ruby) يصوّر شخصية روبي (Ruby)، فتاةٌ في السادسة، لا ترى في التجارب خطأً، تحب التخيل، متسلّطةٌ بعض الشيء، وأهم ما فيها هي أنّها لا تخاف من الوحوش أسفل سريرها المتمثّلة بالأخطاء البرمجية، فالأخطاء في عالم روبي تقربها إلى الحلول وتظهر لها مواطن الضعف فحسب.
تساعد ليندا الأطفال على أن يفهموا أكثر معنى الحواسيب وكيفية عملها،
وتعرفهم على مفهوم إنترنت الأشياء (IoT) الذي رغم أنّه قد لا يكون جلي الانتشار في جيل ليندا، ولكنّه سيسود حسب المتوقّع جيلهم. عرضت ليندا في أحد نشاطاتها مع مجموعةٍ من الأطفال رسوماتٍ لسيارةٍ وكلبٍ وبقالةٍ ومرحاض وطلبت منهم أن يشيروا إلى الرسم الذي يحتوي حاسوبًا. فردّوا بأن لا حاسب فيما عرضته، لكنّها أوضحت لهم كيف أنّ نظام تحديد المواقع في السيارة حاسب، وطوق الكلب قد يحتوي حاسبًا، والمحاسب في البقالة يستعمل حواسيب لحساب المشتريات وتسجيلها، وفي اليابان صارت الكثير من المراحيض حواسيبًا بل إنّ بعض المخترقين يخترقون المراحيض اليابانية!
لغة سكراتش (Scratch) للبرمجة
ميتشل ريزينك Mitch Resnick عالم حواسيب آخر مهتمٌّ باهتماماتٍ مشابهةٍ لاهتمامات ليندا، فهو قائد فريقٍ من معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) يهدف إلى تعليم الأطفال من مختلف الأعمار كيفية تصميم المشاريع، وإيجاد الحلول، والتفكير البرمجي. هو وفريقه صانعو لغة سكراتش (Scratch) للبرمجة، لكنّها لغةٌ برمجيةٌ أبعد عما تتصوّر، لا تحتوي كلماتٍ معقّدةٍ وسطورًا مكتظّةً، بل تحتوي على مكعّباتٍ تشبه مكعّبات الألعاب لا عليك سوى حملها وإفلاتها (Drag&Drop) لتصنع برنامجًا تفاعليًّا أو رسمًا متحركًا.
يشرح ريزينك في حديثٍ له على منصّة TED قصّةً تبين الفرق بين تعليم أمرٍ عاديٍّ لا يفهمه الطفل بالطريقة التقليدية وبالطريقة البرمجية، حيث طلب منه أحد الأطفال أثناء تعليمه البرمجة بلغة سكراتش أن يشرح له كيف يعرض في لعبةٍ مبرمجةٍ بلغة سكراتش نتيجة اللاعب. شرح ريزينك للطفل المحتار مفهوم المتغيرات في البرمجة وأراه كيف يستطيع إضافة متغيرٍ إلى المصدر البرمجي للعبته، ولم يحتج الطفل إلى الكثير من المساعدة بعد أن تعرف على المتغيرات، فقد أضاف عنصر المتغير بنفسه إلى المكان الصحيح في لعبته وشاهد كيف أنّ تفكيره البرمجي حلّ مشكلته. شكر الطفل ريزينك شكرًا جزيلًا والفرح يغمره، فتساءل ريزينك عن عدد الأساتذة الذين شكرهم الطلّاب بهذه الطريقة بعد تعليمهم المتغيرات في حصّةٍ تقليدية.
تبقى السيارة في مكانها، فتموت أنت!
أريدك أن تعود الآن إلى كلام ليندا الآنف ذكره عن وجوب وجود المزيد من المبرمجين ليتحكّموا في العالم كي تفكّر في المثال التالي: في المستقبل، يتوقّع أن تكون السيارات والدراجات والمركبات عمومًا ذاتية القيادة. فماذا لو خرجت في صباح يومٍ ربيعيٍّ بسيارتك إلى متنزهٍ ما وقررت الذهاب إلى هناك عبر المرور بالطريق السريع، وصادف أن كانت السيارة التي أمامك محملةً بحمولةٍ من قضبان الحديد الخطرة، وعن يمينك كان هنالك سائق دراجةٍ ناريةٍ متهوّرٍ لا يلبس أدوات السلامة، وعن يسارك كانت سيارةٌ فيها عائلةٌ تلتزم بحزام الأمان وتعليمات السلامة عمومًا، فجأةً انفكّ برغيٌّ في سيارة الأسياخ الحديدية أمامك عن طريق الخطأ وبدأت الأسياخ بالسقوط، المفترض أنّ السيارة مبرمجةٌ على فعلٍ ما ستتّخذه بنفسها في لحظات.
مبرمج اليوم قائد المستقبل
إما أن تبقى السيارة في مكانها فتموت أنت، أو تنعطف إلى اليمين لتتسبب بقتل السائق المتهوّر، أو تنعطف إلى اليسار لتتسبب بجروحٍ خطيرةٍ لبعض أفراد العائلة الملتزمة. قد نقرر الانعطاف إلى اليمين لنقتل المتهوّر لأنّه يستحقّ ذلك، ولكنّ الانعطاف إلى اليسار أفضل من جهةٍ أخرى فهو يكلّف أقلّ الأضرار! لكنّ الانعطاف إلى اليسار يعني أنّ الأفضل لك في المستقبل أن تكون متهوّرًا كيلا تضحّي الآلات بك، وهذا خطأ!
الأمر معقّد، لكنّ مَن سيحسمه معروف: المبرمجون، وتحديدًا قليلٍ من المبرمجين الذين لا تعرف عنهم سوى مقدراتهم السحرية على كتابة مئات الأسطر المعقّدة. مستقبل العالم أمرٌ مقلق، لهذا كان قرار بلومبيرج بأن يتعلّم البرمجة في هذا السنّ حكيمًا، لأنّ مبرمج اليوم قائد المستقبل.