يحتفظ مهرجان «كان» بطقوس دائمة في تقديم صنَّاع الأفلام على السجادة الحمراء، تصطف الجماهير خارجها لرؤية نجومهم المفضلين في كامل أناقتهم، مستمعين إلى موسيقا «أكواريم» لكامي سان صانز، المستخدمة في أفلام عدة أشهرها «هاري بوتر»، والموحية بغموض وتشويق يليقان بعالم السينما. يعلن صوت المعلق الرخيم الهادئ عن وصول صنَّاع الأفلام إلى مدخل السجادة الحمراء، يقفون في كامل أناقتهم لالتقاط الصور التذكارية قبل دخولهم القاعة حيث ينتظرهم قرابة 2300 شخص ممن حالفهم الحظ لحضور العرض العالمي الأول للفلم.
وبينما يُعِد معظم المخرجين هذه اللحظات مكافأة طال انتظارها، هناك نوع آخر يتعامل بشكل أكثر خفة مع السجادة الحمراء، ومن بين هؤلاء آكي كاوريسماكي، واحد من أعلام السينما الفنلندية والعالمية عمومًا. إذا بحثت عن كاوريسماكي على الإنترنت فقد تلاحظ مدى جرأة شخصيته، لا توجد له مقابلة واحدة لا يدخن فيها، فهو يدخن حتى في المؤتمر الصحافي لمهرجان «كان». يرد بإجابات مرحة مقتضبة على أسئلة الصحافيين، ويحمر وجهه خجلًا كأن تلك المقابلات حمل ضخم عليه.
على السجادة الحمراء أيضًا يشاغب ويشاكس منظمي عملية التصوير والدخول، ينفصل عن فريقه ليقف في أوضاع مضحكة أمام المصورين على الجانبين. يرقص أو يمشي بطريقة غرائبية ويحاول الهرب من لحظات التصوير للدخول إلى الفلم، وبعد دخوله القاعة يحاول إنهاء التصفيق المهول قائلًا لتييري فيرمو في صوت يظهر خلسة في الفيديو إنَّه «لا تصفيق قبل مشاهدة الفلم».
يُعرف كاوريسماكي بقصصه الإنسانية البسيطة وأسلوبه السينمائي المُقِل في حواره وعدد الممثلين وتفاصيل «الكادرات» الخاصة به. تتناول مواضيعه الطبقة العاملة في فنلندا وانتقاده الدائم لظروف العمل غير الآدمية، بأسلوب سينمائي فريد تتكرر عناصره مع كل فلم، ويظل كل فلم جديد له بمثابة متعة لا متناهية لمشاهده. بنظرة إلى أسلوبه نرى أن أبطاله مشاغبون بقدر تصرفاته على السجادة الحمراء، إذ يشعرون دائمًا بالضجر من عملهم الممل ويتخذون قرارات جريئة أكثر حرية.
خذ على سبيل المثال افتتاحية «فتاة مصنع الكبريت» التي تبدأ بعملية صناعة الكبريت «المؤتمتة» للغاية، بدءًا من تقطيع ألواح الخشب، ووصولًا عند بطلة الفلم التي تقف في المصنع ذي الإضاءة الكئيبة ومديرتها تراقبها لتتأكد من أن علب الكبريت صالحة للبيع. تصوير عملية «الأتمتة» تلك ينقل إحساس البطلة بالضجر دون أي أداء تمثيلي أو سطر حوار واحد، إذ نشعر مع كل صوت وكل حركة في سير العملية كأنَّ البطلة ذاتها هي التي تُسحَق تحت آلة الرأسمالية الضخمة.
إلى جانب أماكن العمل المملة، يختار كاوريسماكي عددًا من الأماكن التي تظهر أيضًا في كل أفلامه، بينها البار والسينما والسيارة والميناء، ولكل منها طبيعته في أفلامه سواء من حيث نوع الإضاءة أم الأحداث. ما يلفت الانتباه إلى جانب استخدامه الأماكن هو طريقة الحوار بين الشخصيات، التي تشبه طريقة كلامه هو شخصيًا، حوار بسيط مضحك بعبثيته وبأسلوب التمثيل الخالي من التعبيرات. ربما يأتي ذلك الأسلوب السينمائي من طبيعة فنلندا الواقعة بين روسيا وأوربا والمعروفة بجوها الشمالي البارد وبتأرجحها الأيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية.
هناك نكتة فنلندية تقول «ما الفرق بين معدة فارغة وشخص فنلندي يود طلب شيء من غريب؟ يمكنك سماع المعدة الفارغة». هذه النكتة تصوّر لنا مقدار العزلة الموجود في فنلندا، كما تتيح مدخلًا جيدًا لفهم طبيعة الكوميديا الجافة الخاصة بكاوريسماكي. على رغم كل ذلك فإن أفلامه تمنحك إحساسًا برقة خاصة، سواء من تصرفات بسيطة لشخصيات أم من خلال إضاءة أم تمثيل كلب في الفلم أم لقطة مقربة لتفصيلة صغيرة. يتولد الشعور ناحية أفلامه لا بابتزاز مشاعر المشاهد تجاه الشخصيات، بل من خلال بناء يشبه بناء أفلام شارلي شابلن، تتعاطف مع الأبطال وتحبهم دون أن تشعر بشفقة تجاههم.
يقول كاوريسماكي في لقاء قديم له إنه الأكثر عاطفية أو «سينتمنتالية» على الإطلاق، حتى إن ظهر عكس ذلك، راويًا قصة أنه قد أشفق على عود كبريت ملقى على الأرض فدفَنه!
يمثل كاوريسماكي نوعًا من الفنانين الذي يتلاشى مع الوقت، نوعًا يود صناعة الأفلام والفن لـ«يبقي نفسه بعيدًا عن البار» كما يقول، نوعًا لا يريد الانخراط في جانب الصناعة قدر ما يود التعبير عن مشاغله وهمومه على الشاشة وتقديم تلك الأفلام لجمهور واسع دون أي تفريق بين الجمهور بناء على أهميته في عالم الصناعة. وعلى رغم أن هذا ليس مطالبة بعدم الاهتمام بجانب الصناعة فإن أفلامه وطريقته تمثل سبيلًا مختلفة تنتقد حتى أكبر المهرجانات السينمائية وسجادها الأحمر الذي يشتت الانتباه عن الأفلام وفن السينما بشكلٍ ما.