سمعت مرة حكمة تقول: «الأشجار العملاقة تحجب رؤية الزهور الجميلة».
هذا ما حدث، بشكل أو آخر، مع قراءة الأدب الروسي في البلدان العربية، حيث توجهت معظم القراءات إلى كتابات تولستوي ودوستويفسكي، وقد يأتي بعدهما تشيخوف وقوركي، ثم تقل الوتيرة مع بقية الكتاب تدريجيًا.
الشهرة الساحقة لهذين الكاتبين لها أسبابها الوجيهة بالطبع، وإذا قارنا معظم الكتَّاب الروس من حيث مجمل مشروعهم الأدبي بمشروعي تولستوي ودوستويفسكي فقد ترجح كفتهما حقًا. لكن هاتين الشجرتين العملاقتين حالتا دون رؤية زهور جميلة، بل في أحيان أخرى حالتا دون رؤية أشجار أخرى ضخمة لها جذور عميقة في الأدب الروسي.
هذا التركيز العربي في الكاتبين حدث لعدة عوامل، من أهمها أن ترجمة الأدب الروسي إلى العربية اعتمدت لوقت طويل على الترجمة من لغتين وسيطتين (الإنقليزية والفرنسية)، ومن ثَم فنحن نترجم ما يختاره الغرب في الأساس. دعونا نتخيل مثلًا أنَّ الترجمات الغربية كثَّفت ترجمات كتَّاب آخرين، أو على الأقل وجَّهت إليهم الاهتمام ذاته الذي وجهته إلى كتابات تولستوي ودوستويفسكي، أظن كانت ستحذو الترجمة العربية حذوهما؛ لأن مترجم الأدب الروسي يعرف هذا الأدب عبر ترجمات نظيره الفرنسي والإنقليزي والأمريكي.
ويكمن العامل الآخر في أنَّ المشروع الأكبر لترجمة الأدب الروسي إلى العربية تمثَّل في مشروعات دور النشر السوفييتية مثل «رادوقا» و«التقدم». وركزت هذه الدور في أعمال كتّاب بعينهم إما لقيمتها الفنية، وإما بسبب توجهها الأيديولوجي في بعض الأحيان لمّا ترجمت أعمالًا ضئيلة الأهمية نسبيًا.
وعلى رغم مرور الأدب الروسي بمراحل كثيرة ومختلفة، فقد ركزت حركة الترجمة إلى العربية في العصر الذهبي (بين عامي 1831 – 1880). لكن حتى في ذلك العصر ظهرت أسماء أخرى عملاقة أهملتها الترجمة العربية نسبيًا مثل: نيقولاي ليسكوف الحكَّاء الروسي الأعظم، وسالتيكوف شيدرين الساخر الروسي العملاق، ولكل منهما أعمال لا تقل في أهميتها عن بعض أعمال تولستوي ودوستويفسكي. وأهملت الترجمة أيضًا أعمال ديمتري قريقوروفيتش.
يمتاز العصر الذهبي للأدب الروسي بوحدة عضوية كبيرة، حيث أثرت عوامل بعينها في مجمل إنتاج هذه الفترة، أهمها عدم حل التناقضات الاجتماعية في روسيا، لا سيما قضية تحرير الأقنان، وكل ما يتعلق بالقنانة من مآسٍ. والعامل الآخر الفراغ الروحي والحياة الطفيلية التي كان يحياها مجتمع النبلاء والإقطاعيين.
حاولت أعمال هذه الفترة في مجملها أن تجيب عن أسئلة كبرى من قبيل: من المذنب؟ ما العمل؟ لكن بمرور الوقت تتغير الظروف. يُغتال القيصر الروسي على يد الحركات الثورية وتعود يد القمع الخانقة بقوة على المجتمع بعد الانفراجة النسبية في بداية ستينيات القرن التاسع عشر وإلغاء قانون القنانة. ويشعر الجيل الجديد بعدم جدوى الإجابات التي قدَّمتها الأعمال العظيمة في هذه الفترة، ويُضاف إلى ذلك وفاة معظم كُتّاب هذه الفترة، باستثناء تولستوي الذي عمَّر طويلًا، لكن تغيرت وجهات نظره الفنية.
ومنذ بداية ثمانينيات القرن التاسع عشر حتى انقضاء الربع الأول من القرن العشرين ظهرت مرحلة في غاية الأهمية في الأدب الروسي: العصر الفضي. وما تُرجم من أعمال هذه الفترة ضئيل للغاية على رغم أنها تتسم بأدباء في غاية الأهمية والروعة، كتبوا أعمالًا حداثية فريدة بأسلوب مغاير تمامًا لتقاليد الأدب الروسي الكلاسيكية.
من أهم أعلام هذه الفترة: أرتزيباشيف ويوري أوليشا وميخائيل بولقاكوف وميخائيل زوشينكو ويفقيني زامياتين وإسحاق بابل وإيفان شميليوف وغيرهم، علاوة على شعراء روسيا العظام: ألكسندر بلوك وفليمير خليبنكوف وفيتشسلاف إيفانوف وبوريس باسترناك ونيقولاي قوميليوف وأوسيب ماندلشتام وآنا أخماتوفا وفاليري بريوسف ومارينا تسفيتايفا.
بدخول الأدب الروسي العصر السوفييتي تكاد الترجمات العربية تنمحي تقريبًا، على رغم نشر طوفان من الأعمال الممنوعة في روسيا إبان هذه الفترة بعد حركة «البيريسترويكا» وتلاشي اليد القمعية إلى حد كبير.
أما الأدب الروسي المعاصر فترجماته قليلة جدًا، وهي مقصورة على مجهودات بعض المترجمين الرائعين مثل د. تحسين رزاق عزيز وإبراهيم إستنبولي ود. فؤاد المرعي وغيرهم، لكن عددها الإجمالي قليل جدًا؛ لأنها مجهودات فردية غير مؤسسية.
يُضاف إلى كل ذلك عملية الاستسهال التي تجعل بعض النقاد والمترجمين يصرون على تكرار مقولات غير دقيقة بتاتًا عن أن الأدب الروسي الحديث والمعاصر لا يتضمن أعمالًا عظيمة مثل العصر الذهبي ومن بعده الفضي. وهي بالطبع وجهات نظر قاصرة للغاية. إذ لم يكفّ الأدباء الروس عن إبداع أعمال عظيمة، حتى في ظل واحد من أشد النظم قمعية في العالم. ففي العصر السوفييتي ظهرت أسماء إبداعية من الطراز الأول، لكن يد الرقابة حجبت معظم أعمالها، وظهرت هذه الأعمال لاحقًا بعد «البيريسترويكا».
عندما نطّلع مثلًا على أعمال فالنتين راسبوتين نجد مستوى من الكتابة النفسية والروحية رفيعًا يمكننا بالتأكيد مقارنته بأعظم الأعمال الروسية. حتى في الوقت الراهن الذي يحلو فيه للبعض ترديد مقولات سطحية عن أن الأدب الروسي فقد كل قوّته نجد أعمالًا شديدة القوة مثل بعض روايات فودولازكين وأعمال جوزيل ياخينا وغيرهما من الكتاب.
حتى في أصعب الأوقات وأحلك الأزمنة، لم يكفّ الأدب الروسي يومًا عن إنتاج أعمال إبداعية. وسواء أنَظرنا في زمن النظم القمعية أم زمن سيطرة المزاج الاستهلاكي، فإننا نجد أعمالًا أدبية روسية عظيمة، لكنها للأسف محجوبة عن القرَّاء العرب.