تك توك تغزو ذائقتنا الشخصية في الطعام

اختيار الأكل يُعد من أكثر الملذات حميمية لدى الإنسان، وتتحول هذه العلاقة إلى علاقة مفتوحة يمكن لأي مؤثر في تك توك أن يقتحمها ويغيِّرها.

إحدى مُتعي الآثمة في الحياة تخصيص خمس عشرة دقيقة يوميًا لتصفُّح مقاطع فيديو أكلات مبتكرة تبدو سهلة الإعداد للوهلة الأولى لكني لا أجرؤ على تقليدها. وحساب عبير الصغير من تلك الحسابات التي تمتعني، إذ جذب انتباهي مقطع تحضير «اليالنجي» على أنغام الدبكة السورية التي نشرَتها. ورغم أني لا أعرف ما «اليالنجي» ولا أشتهي اللحم الأحمر أصلاً، فقد سجَّلت إعجابي بالطبخة التي لو قدِّمت لي على مائدة العائلة أو مطعم مع الصديقات في وقت سابق لما اقتربت منها. 

لا أستغرب حصد منشورات عبير وغيرها من مؤثري الأكل قدرًا هائلًا من التفاعل الإلكتروني، فالطعام حاجة أساسية لدينا وتؤثر في حالتنا الفسيولوجية والعاطفية. فهذه الحاجة الفطرية تؤسس منذ نشأتنا السياقَ الأول الذي نشكِّل فيه علاقتنا العاطفية بأقرب الناس إلينا. وليس غريبًا أن تذكِّرنا مشاركة الآخرين الطعام بمشاعرنا الطفولية، فنحن نتعلَّم منذ سن مبكرة ربط الطعام بالتفاعل المهدئ والمشاركة الاجتماعية لمحيطنا. 

ومنذ الأزل، ارتبط عرض الطعام الذي يعبِّر عن هويتنا وتفضيلاتنا الشخصية وذائقتنا بإظهار المودة والاحترام للأحباء والأقران والضيوف الأغراب.

هذا السياق الحميمي لمشاركة الطعام انحرف وتحوَّل إلى مشاع، وبتنا نتقاسم الأكل مع بقية العالم على منصات التواصل الاجتماعي. وتحول تركيز البعض من فعل المشاركة المجردة للصور الجمالية للطعام الذي بدأ مع إنستقرام، إلى التخصص في صناعة محتوى قصصي من الأطعمة المصورة بإضافة اللمسة الخاصة بصانع المحتوى وتمييز علامته التجارية، مثلما فعلت عبير الصغير.

لو اعتمدت عبير الصغير على الإنتاج التلفازي التقليدي في مطبخ جانبي ضمن برنامج صباحي لما نالت عُشْر الشهرة التي تنالها اليوم. لكن تك توك، بما تمنحه من سهولة في إعداد مقاطع فيديو قصيرة وتحريرها بالمؤثرات الخاصة والموسيقا في بضع دقائق أوجدت فرصة للراغبين في عرض وصفات الطبخ كمادة ترفيهية إبداعية في المقام الأول، مما أكسب المحتوى الغذائي شعبية متزايدة، وزاد في المحصلة من رواج الأطعمة الإقليمية غير المألوفة لدينا.

ولا يقتصر محتوى تك توك في الطعام على مشاركة الأطعمة التقليدية، بل يشمل محتوى «ابتداع وجبات جديدة» مثل «شيبس الباستا» و«معكرونة الفيتا بالفرن» وخليط الآيس كريم والبطاطس المقلية أو «سموذي هايلي بيبر» الصحي.

ففي الشتاء الماضي مثلًا انتشرت لقطات لمؤثرين يغمسون «الكرواسون» في مشروب الشوكولا الساخن من قلب أحد مقاهي باريس. ولأن اللقطات انتشرت عبر المنصات بسرعة لافتة، أصبح المقهى على قائمة كل مسافر متجه إلى باريس لتصوير نسخته الخاصة، بصرف النظر إن كانت ذائقته الشخصية تستسيغ هذا المزج أم لا. وبطبيعة الحال، دفع رواج «الكرواسون المغموس» مئات المقاهي العربية لاستنساخ الطلب وتوفيره لكل الراغبين فيه. 

رغم أنَّ اختيار الأكل يُعد من أكثر الملذات حميمية لدى الإنسان، إلى الحد الذي نصف علاقتنا بالطعام بمفردتي الحب والكره، فإن الذائقة الشخصية باتت مُشرَّعة اليوم أمام سلطة تك توك. لتتحول هذه العلاقة الشخصية الثنائية بيننا وبين الطعام إلى علاقة مفتوحة يمكن لأي مؤثر في تك توك أن يقتحمها ويغيِّرها، ليحوِّل نفوري من اللحم الأحمر إلى إعجاب. 

الرأي
نشرة أها!
نشرة أها!
منثمانيةثمانية

نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.

+400 متابع في آخر 7 أيام