أين يذهب ما نقرؤه وننساه

إن ما ننساه لا يذهب هباءً، ولكنه جزء من نسيج حياتنا، كامن في سلوكنا. يظهر في مفردات جديدة، وفي تحليل نقديّ لم نخطّط للحصول عليه.

امرأة تختار كتابًا من أحد الأرفف في مكتبة قطر الوطنية / Getty Images

أهلًا بك صديقًا لنا،

وصلتك الآن رسالتنا الأولى على بريدك الإلكتروني.

إذا لم تجدها ابحث في رسائل السبام وتأكد من اتباع الخطوات التالية في حسابك على خدمة بريد «Gmail» حتى تُحررها من التراكم في فيض الرسائل المزعجة.

* تعبّر النشرات البريدية عن آراء كتّابها، ولا تمثل رأي ثمانية.
24 مايو، 2023

لا أذكر عدد المرات التي حاكمت فيها نفسي عندما أدرك أني أنسى ما أقرؤه: هل أحب القراءة حقًّا؟ هل يوجد خلل في ذاكرتي للدرجة التي يتسرب منها جُلّ ما أقرأ؟ ويتجدّد هذا السؤال مع كل نقاش أخوضه مع الأصدقاء والزملاء، وأجد أني غير قادرة على استرجاع ما قرأته في هذه الكتب التي تملأ مكتبتي. 

أسأل نفسي: ما نفع كل هذه الصفحات إذا كنت أنسى ما كتب فيها، ولا أستطيع استرجاع خلاصتها؟ ما فائدة أن أقرأ في موضوع يهمّني، وحين حاجتي للاستشهاد بوجهة نظر من كتاب ما أجدني عاجزة عن التذكر، وكأن كل ما قرأته من الجمل والكلمات حبات غبار نثرتها الرياح. 

هل نحن فعلًا ننسى ما نقرأ أم أن هذا الأمر من صميم عمل الذاكرة؟ أين يذهب ما نقرؤه وننساه؟ لطالما شغلتني هذه الأسئلة واعتقدت أني بالبحث عن أجوبتها سأتغلب تماماً على نسيان ما أقرؤه، ولكني أدركت ما ينطوي عليه هذا الأمر أكثر من قبل. 

7
منحنى النسيان / هيرمان إبنقهاوس

مثّل عالم النفس الألماني هيرمان إبنقهاوس (Hermann Ebbinghaus) عملية النسيان في منحنى رسومي سمّاه منحنى النسيان في كتابه «الذاكرة: إسهام في علم النفس التجريبي» (Memory: A Contribution to Experimental Psychology) يوضح المنحنى الأسي مدى السرعة التي نميل بها إلى نسيان المعلومات التي تعّمناها إذا لم نبذُل جهدًا لتذكرها. 

وجد إبنقهاوس أن منحنى النسيان يكون أكثر حدة خلال الساعات الأربع والعشرين الأولى بعد تعلّم شيء ما أو قراءته. وبعد يوم أو يومين، عادة ما ننسى نحو 75% مما تعلمناه. إن نسيان ما قرأناه لا يعني بالضرورة أن المعلومات لم تكن مفيدة، أو أن ذاكرتنا سيئة، ولكن أدمغتنا ببساطة لم تُصمَّم لتذكر كل ما نقرؤه ونتعلمه، وإلا لكنا جميعنا عباقرة وموسوعات. وإذا كان هذا المعدّل في القرن التاسع عشر قبل ثورة تدفق المعلومات وتركيز السمكة الحمراء وتخمة المحتوى المقروء والمسموع فكيف سيكون الآن؟ 

إن للذاكرة العاملة سعة محدودة، وإذا تجاوزنا هذه السعة فإن الدماغ يحاول تفريغ بعض هذا الفائض إلى خارجها. وإذا توقعنا أن تكون المعلومات دائمًا في متناول أيدينا (أي أن تكون مكتوبة أو موجودة في محركات البحث)، فإن أدمغتنا لن تعمل على تخزين المعلومات في أذهاننا بعناية شديدة. يقول جاريد هورفاث عالم الأعصاب التربوي: إن الطريقة التي يستهلك بها الناس الآن المعلومات غيّرت نوع الذاكرة. ففي عصر الإنترنت، أصبحت ذاكرة الاسترجاع،القدرة على استدعاء المعلومات تلقائيًا، غير حتمية. فما دمتَ تعرف مكان هذه المعلومات وكيفية الوصول إليها ، فلن تحتاج حقًا إلى تذكّرها. أصبح الإنترنت يعمل كنوع من الذاكرة الخارجية. فما الحاجة إلى تذكر اقتباس من كتاب إذا كان بإمكانك البحث عنه فقط؟

النسيان كجزء من ماهية القراءة

يتحدث خالد بلقاسم في كتابه: «ظلال القراءة واختطاف المعنى» عن نسيان المقروء قائلًا:

إن النسيان في القراءة ليس فجوةً أو نقصًا في إنجازها، بل هو محدِّد من محدّداتها. إنه ملازم لها، إذ لا يمكنها أن تتحقق إلا باحتفاظ النسيان دوماً على حصته فيها. إن حصة النسيان مصونة في كل قراءة.

إن نسيان ما نقرأ هو شكل جديد لمعالجة النص، وانتقاله من نص مكتوب إلى جمل ومفاهيم تتطاير في الذاكرة العاملة باحثة عن خلية تستقبلها لوقت قصير أو للأبد. من أجل ذلك كان النسيان مكوّنًا أساسيًّا ومحدّدًا لعملية القراءة. 

لقد تخفّفتُ من عبء التذكّر وجلد ذاتي على نسيان ما أقرؤه، وأدركت أن كل ما نقرؤه لا يذهب عبثاً. إن مجرد التعرف إلى الكلمات والمفاهيم في ما نقرأ من شأنه أن ينشّط شبكات كاملة من مجموعات عصبية محددة في القشرة البصرية، التي بدورها تتفاعل مع شبكات كاملة أخرى من الإدراك، فينشط الدماغ القارئ بكامله.

إن معرفة الجانب الفسيولوجي وآراء الكُتّاب مريحان لتقبّل هذا النسيان ومشاهدته من جانب آخر، جانب ليس معيبًا، بل هو طبيعيّ ووارد جداً، خصوصا لشخص مثلي يقرأ لمجرد القراءة. لقد فهمت بعد كل هذا البحث والتقصي أنه قد يكون علينا أن نعيد توجيه نهم القراءة في كتب جديدة إلى إعادة قراءة الكتب التي تهمّنا حقًّا إذا رغبنا في تذكّر ما نقرأ؛ وهذا ما جعل رولان بارت يؤمن أن على القراءة أن تكون متعددة، وأن إعادة القراءة هي ما يحيي النص من جديد ويحمّله مسؤولية التصدي للنزعة الاستهلاكية في القراءة. لقد وجدتُ أن التدوين والتحدث عن الكتب باستمرار والتقاط ما يعجبنا وتقييده أمور تُساعِد كثيراً على الاحتفاظ بها في الذاكرة الطويلة الأمد. 

يظل ما نقرؤه معنا، حتى لو لم نكن قادرين على تذكّره، إن الأفكار والمفاهيم ستبقى معك وستستمر في التأثير في طريقة تفكيرك ورؤيتك للأشياء. إن ما ننساه لا يذهب هباءً، ولكنه جزء من نسيج حياتنا، كامن في سلوكنا. يظهر في مفردات جديدة، وفي تحليل نقديّ لم نخطّط للحصول عليه. إنه موجود في حياتنا اليومية وفي أحاديثنا مع الأصدقاء وفي العمل وفي نظرتنا إلى الأمور. في تعقّلنا حين يكون الجنون أسهل، وفي تعاطفنا مع من حولنا حين يكون الحكم عليهم أقرب. إنه يظهر كمواساة وعزاء في عصيب أوقاتنا، وعلى شكل قصيدة تهنئة في سرور أيامنا. في التماهي مع المتعة الخالصة في استكشاف الكتب والغوص في الروايات والتعرض إلى عوالم وآراء جديدة لم نكن لنعرفها لولا فعل القراءة نفسه. إن المتعة التي نتحصّل عليها عندما نقرأ كفيلة بقلب العلاقة مع النسيان دون انتظار منفعة آنيّة أو شهادة مصدّقة لإنهاء كتاب واستذكاره .إن جوهر القراءة هو اكتشاف حكمتنا الخاصة عبر ما نقرأ، وليس بالضرورة حفظه. يقول الكاتب الأمريكي رالف إميرسون:

لا أستطيع تذكّر كل الكتب التي قرأتها، ولا الوجبات التي تناولتها، ومع ذلك فقد شكلّت ما أنا عليه اليوم.


اقرأ المزيد في الكتب
مقال . الكتب

كيف أثّرت نتفلكس في كتابة الرواية

لن ندّعي أنّ المؤلِّفَين قد كَتبا روايتيهما رغبةً في أن تتحوّل إلى مسلسلات. لكن ذلك لا يمنع من أنّها خرجت جاهزةً ليقتبسها صنّاع نتفلكس.
محمد آيت حنا
مقال . الكتب

الأدب الروسي ليس دوستوفيسكي فقط

لم يكفّ الأدب الروسي يومًا عن إنتاج أعمال إبداعية، سواء أنَظرنا في زمن النظم القمعية أم زمن سيطرة المزاج الاستهلاكي.
يوسف نبيل
مقال . الكتب

المبالغة في علامات الترقيم مضيعة للوقت

أقدم في هذه العجالة ثلاثَ عشرة طريقة لإقناع الروائيين والروائيات العرب بالتخلي عن استخدام علامات الترقيم غير الضرورية ما أمكن.
علي المجنوني
مقال . الكتب

الناشر المتباكي لا يحترم القارئ

يتعمَّد الناشر وضع القارئ في موقف لا يستطيع فيه المساس بالكتب العظيمة، مما يعوق تطوير الحسّ النقدي لديه.
حسين الضو
مقال . الكتب

كرة القدم في ملعب الأدب

إن أردنا أن نتحدث عن العلاقة بين الأدب وكرة القدم، فثمة أمثلة كثيرة تجمع بين هذين الضدين الظاهريين، وأشكال مختلفة من تمازجهما معًا.
محمد الفولي
مقال . الكتب

فنجان شاي رفقة إيما بوفاري وآنا كارنينا

الشخصيات الأدبية التي نصادفها، نألف وجودها وعشرتها، نصاحبها وتصاحبنا، نحادثها وكأنها ترانا وتسمعنا، نفكر بمعيتها ونناقشها.
إيمان العزوزي