هل ينتهي مهرجان «كان» قريبًا؟

السؤال عن مستقبل المهرجانات السينمائية هو أحد الهموم التي تشغل الصناعة حاليًّا، بوضوح تعاظَمَ بعد جائحة «كورونا» وما أسفرت عنه من حلول.

لقطة للمصوّرين الصحافيين في مهرجان «كان» السينمائي / Getty Images

أهلًا بك صديقًا لنا،

وصلتك الآن رسالتنا الأولى على بريدك الإلكتروني.

إذا لم تجدها ابحث في رسائل السبام وتأكد من اتباع الخطوات التالية في حسابك على خدمة بريد «Gmail» حتى تُحررها من التراكم في فيض الرسائل المزعجة.

* تعبّر النشرات البريدية عن آراء كتّابها، ولا تمثل رأي ثمانية.
18 مايو، 2023

روى لي ناقد من جيل الرواد طريقة عمله عندما بدأ تغطية مهرجان «كان» قبل عقود. كان الناقد الكبير يصل إلى المدينة الفرنسية قبل عدة أيام من المهرجان، يشتري ثلاث نسخ من المجلات المتاحة كافة، يرسل اثنتين منها بالبريد السريع إلى صحيفته ويُبقي الثالثة معه. ومع بدء المهرجان، يُملي مقالته اليومية هاتفيًا على موظف في الجريدة (تحوّل لاحقًا إلى إرسال المقالة عبر الفاكس عند ظهوره)، ثُم يحدد الصور المرافقة للمقالة من المجلات التي أرسلها، وهنا يكمن سر إرسال نسختين؛ تحسبًا لضرورة استخدام صورة طُبعت على ظهر صورةٍ سبق استخدامها!

تعكس تلك الآلية صعوبة عمل الصحافي في عصر ما قبل الإنترنت، فكل هذه العملية اللوجستية يؤديها الكمبيوتر الآن في ثوانٍ. لكنها تُعبّر في الوقت نفسه عن أهمية الأمر لوسيلة الإعلام. هذه صحيفة تتحمل تكاليف سفر الصحافي وإقامته وأجره، وتتكبد عناء كل هذه الخطوات لقناعتها بأن وجود مراسل مباشر سيضمن لها تغطية خاصة تُميزها مِن منافسيها في أهم مهرجانات السينما في العالم.

اليوم لم يعد الأمر بالأهمية نفسها لوسائل الإعلام. لا يزال المهرجان مهمًّا لكن ليس إلى درجة تحمل كل تلك التعقيدات. الوكالات والمواقع العالمية ومنصات التواصل الاجتماعي تأتي بأدق التفاصيل لحظة بلحظة بوفرة تتجاوز قدرات أي صحافي ولو بلغت مهارته على التغطية ما بلغت، والرحلة ذاتها صارت مكلفة بما يفوق ناتجها، ولاسيما في عصر تقويم المواد بعدد النقرات لا بقيمة المحتوى.

النتيجة الآتي: عندما زرت مهرجان «كان» لأغطيه صحافيًا لأول مرة عام 2016 كنت أحد أصغر الصحافيين سنًّا، واليوم بعد قرابة عقد لا أزال مِن أصغرهم على رغم مناهزتي الأربعين. كثير من وسائل الإعلام صارت تُحجِم عن إرسال مندوبيها إلى «كان»، ومعظم الحاضرين من الأجيال الجديدة يتحملون معظم تكاليف الرحلة، إما أملًا في إرساء صورة مهنية أفضل عن أنفسهم، وإما بجمع التكاليف عبر نشر مقالات متناثرة في وسائل إعلام عدّة يُقبض أجرها بـ«القطعة»، أو تلبية حلم قديم بحضور المهرجان، يتحول بمجرد تحقيقه إلى فعل إدماني نكرره ولو اضطر بعضنا إلى الاقتراض من أجله.

لاحِظ أننا نتحدث عن عصر تغيرت فيه آلية الوصول إلى الأفلام؛ فإذا كانت الأعمال التي تُعرض في «كان» خلال القرن العشرين امتيازًا يحتفظ به الحضور أشهرًا طويلة حتى حين عرض الفِلم في بلادهم، وأحيانًا يغدو أبديًّا مع الأفلام التي يصعب عرضها محليًّا، فإن هذه «الحصرية» صارت اليوم ضربًا من الخيال؛ فلا تمر أسابيع من ختام المهرجان إلا يجد الجميع بعدها الأفلام متوافرة على المنصات الرقمية والمهرجانات السينمائية المحلية، حتى بالطرائق غير المشروعة لمن يرتضي استخدامها.

وإذا غابت قيمة حضور المهرجان الإعلامية، وتضاءل امتياز مشاهدة أفلامٍ لا يراها سوى الحضور، وتغيرت أشكال العرض بما يلائم سلوك مستهلكي عصر «اللوقاريثم» ورغباتهم، فما جدوى استمرار مهرجان مثل «كان»؟ وهل يأتي يوم قريب تختفي فيه مهرجانات السينما أو تغدو نشاطًا غرائبيًا يُمارس لأغراض الحنين إلى الماضي، كـ«سينما السيارات» و«أكشاك الموسيقى» وغيرها من أشكال العرض التي تجاوزها الزمن؟

السؤال عن مستقبل المهرجانات السينمائية هو أحد الهموم التي تشغل الصناعة حاليًّا، بوضوح تعاظَمَ بعد جائحة «كورونا» وما أسفرت عنه من حلول أُجبرت عليها المهرجانات، كإقامة نسخ افتراضية ونسخ هجينة وقياس مدى تفاعل الجمهور ومقارنته بالنمط الكلاسيكي. في العام الحالي كان «مستقبل المهرجانات» موضوعًا لجلسات نقاشية حافلة نظّمتها مهرجانات مثل «روتردام» في هولندا و«ساوث باي ساوثويست» في الولايات المتحدة، كما كان موضوعًا لدراسة استطلاعية أجراها معهد الفنون الكندي وأطلقها ضمن مهرجان «ويستلر» عام 2021.

الدراسة تخرج بنتائج تُثني على إقامة المهرجانات افتراضيًا، أو بنسخ هجينة تجمع بين تنظيم عروض جماهيرية وإتاحة الأفلام إلكترونيًا، وتضع صعوبة التفاعل الإنساني عائقًا أكبر لهذا الاتجاه، سواءٌ أتمثّل في صعوبة اندماج الجمهور في مناقشات الأفلام أم في قلة الفرص المتاحة للمواهب الشابة لـ«التشبيك» مع الأسماء المؤثرة من منتجين وموزعين. 71% من المشاركين في الدراسة ثمّنوا ما تتيحه التجربة من وصول أسهل للأفلام.

قد تختلف النتائج إذا أعيدت الدراسة بعد انجلاء الجائحة، لكن الشاهد أن التقنية تقود العالم بتسارع نحو تيسير تجربة الاستهلاك الفردي للمنتجات الإبداعية أكثر من المشاهدة الجماعية بأشكالها، ومنها المهرجانات القائمة بالأساس على اجتماع آلاف البشر عدة أيام وتعليقهم معظم أنشطة حياتهم من أجل الأفلام، وهذا أمر يصبح يومًا بعد يوم رفاهية يصعب أن يمارسها قطاع عريض من البشر، بمن فيهم الصحافيون والشبّان من صنّاع الأفلام. فالعالم الذي أقيم فيه أول مهرجان سينمائي في البندقية عام 1932 يختلف كليًّا عن عالم المنصات الرقمية والهواتف الفائقة الذكاء.

إلى أن تحين اللحظة، ويسفر الحراك العالمي عن شكل جديد للمهرجانات السينمائية، سيستمر المحظوظون منّا، ممن طاولتهم تجربة مهرجان «كان» الإدمانية، في توفير المال على مدار العام، من أجل الانغماس مدة أسبوعين في أكبر حدث عرفه الفن السابع.

الوسوم: الأفلام . السينما .

اقرأ المزيد في السينما
مقال . السينما

«سطّار» فلم تجاري ناجح بقصة ضعيفة

سلك «سطّار» طريق المتعارف عليه بـ«فلم فشار»: فلم دون محتوى درامي جاد أو رسالة ذات معنى (رمزيات) أو عمق فكري، بل مجرد محتوى ترفيهي.
رياض القدهي
مقال . السينما

ما الفلم الذي يستحق الترقُّب في موسم «الهالوين»؟

من منتصف سبتمبر لنهاية أكتوبر من كل عام تتكتل أفلام الرعب من مختلف تصنيفاتها الفرعية لتقديم سهرات لائقة لجموع المحتفلين.
محمود مهدي
مقال . السينما

هل فشل مسلسل «ون بيس» الواقعي؟

عوائق العالم الواقعي ستجعل عالمنا أقل تفاعلًا مما شاهدنا في الأنمي والمانقا، وذلك لمحدودية العالم الواقعي مقارنة بعالم الأنمي.
رياض القدهي
مقال . السينما

الجنون كله يصب في «بذيخة»

إن فلم «راس براس» محاولة ممتازة وناجحة من مالك نجر لتجسيد شخصيات كأنها كرتونية أو مقتبسة من القصص المصورة، بكتابة جيدة وممتعة جدًا.
رياض القدهي
مقال . السينما

«أغنية الغراب».. عن «إيجاد النفس» وسط الزحام

كنت متخوفًا من إخفاق الفِلم في تصوير مدينة الرياض في حقبة بداية الألفية، ولكن المخرج محمد السلمان استطاع النجاح في هذه المهمة بشكل ذكي.
عبيد التميمي
مقال . السينما

سينما بلا رقابة هي السينما الحقيقية

كل ما أخشاه أنَّ أسلوب المنع والحذف سوف يقودنا إلى طريقة مألوفة لا نتمنى أن تعود، وهي زيارة بعض الدول بغرض زيارة السينما فقط.
أحمد العيّاد