هل تخشى صحبة الصمت؟

الآن، وفي هذا الشهر الفضيل، أستحضر فضيلة السكينة، وأجدها فرصة مناسبة لتوطيد العلاقة بالنفس والتعوّد على إمضاء الوقت معها.

أنت والصمت / عمران

أهلًا بك صديقًا لنا،

وصلتك الآن رسالتنا الأولى على بريدك الإلكتروني.

إذا لم تجدها ابحث في رسائل السبام وتأكد من اتباع الخطوات التالية في حسابك على خدمة بريد «Gmail» حتى تُحررها من التراكم في فيض الرسائل المزعجة.

* تعبّر النشرات البريدية عن آراء كتّابها، ولا تمثل رأي ثمانية.
5 أبريل، 2023

تُقابل أحدهم للمرة الأولى على كوب قهوة، قد يكون صديقًا إنترنتيًا قديمًا، لكنها المرة الأولى التي تتقابلان فيها. تسير الأمور بشكل مثالي من حيث التناغم في الحديث؛ لوجود أرضية واهتمامات مشتركة بينكما. ولكن قد تشعر بأن هناك خوفًا من نفاد «السوالف»، أو توقفها لبرهة، وقد يكون التوتر أشدّ لو كان الصديق من الجنس الآخر، فالصمت، لسبب ما، يجعل اللحظة محرجة للبعض.

أستنكر هذا الشعور بالحماقة أو الخجل، ولا أشعر به في لحظات الصمت، وأسعى إلى تطبيع حدوثه. فمن غير الطبيعي أن أقضي ساعتين من الزمن مع أحدهم دون لحظات أو دقائق صمت. فأنا لا أمتلك تلك الرئة ولا الطاقة على التركيز والمداورة بين الحديث والإنصات طوال تلك الفترة. ومن علامات العلاقة الصحية في ظني قدرتك على الصمت مع من تحبّ، تمامًا مثل قدرتك على الكلام معه.

يبدو أن علاقتنا كبشر بالصمت متوترة على أكثر من صعيد، وتعود إلى أزمان بعيدة. فثمة مقولة شهيرة تنسب إلى بليز باسكال، منشورة في خواطره، تقول:

تنبع جميع مشكلات البشرية من عدم قدرة الإنسان على الجلوس هادئًا في غرفة بمفرده. 

لا أعلم ما خيارات فرد القرن السابع عشر في أوربا كي لا يكون وحيدًا في غرفته بالمقارنة مع توافر شتى سبل المشتِّتات اليوم. لكني أحسب أن هناك رغبة عارمة لدى الإنسان إلى ملء ذرات الهواء حين يعم المكانَ الصمت، كما لو كان الصمت نذير شؤم، أو ثغرة تتسرب من خلالها هواجسنا السوداوية وأصوات رؤوسنا المعتلة. ولا أزال أتذكّر كيف في السابق، عندما كانت تحلّ لحظة الصمت تلك في جماعة يقول أحدهم «مرّتْ ملَك»، لكن يبدو أنه لا أحد يرغب اليوم بمرور «الملك» ولو لثانية!

وبينما بعض المشتِّتات مفروضة علينا، ففي المقابل كثيرٌ منها اختياريّ ومقصود. مثلًا، يندر أن تدخل مقهىً أو مطعمًا اليوم وتجده هادئًا دون أغانٍ في الخلفية. نعلل ذلك أحيانًا بالحاجة إلى الخصوصية، كي تستطيع كل جماعة الحديث بأريحية فيما بينها دون الخوف من تطفل الزبائن الآخرين. لكني ارتدت مختلف المقاهي في أوقات الظهيرة حيث لا وجود إلا لعدد قليل جدًا من الزبائن المنهمكين على حواسيبهم، وصوت الأغاني الخليجية كان يصدح عاليًا! 

والأمر نفسه ينسحب حتى على مسلسلات الدراما العربية، ولا أعلم إن كان ثمة ارتباط بين الأمرين. إذ يندر أو يستحيل أن تطالع عملًا فنيًا ويكون هناك ذاك المشهد الطويل الصامت أو الهادئ، هناك دائمًا الموسيقى التصويرية الصاخبة طوال الحلقة، تتغير وتتبدل، ولكن لا تنقطع. وبغض النظر عن الأخطاء الفنية أو السينمائية المتعلقة بهذا الفعل، تشعر أن هناك فئة كبيرة جدًا لا تريدك أن تستكين ولو لبرهة.

الآن، وفي هذا الشهر الفضيل، أستحضر فضيلة السكينة، وأجدها فرصة مناسبة لتوطيد العلاقة بالنفس والتعوّد على إمضاء الوقت معها. فالكثير منا يقضي في هذا الشهر وقتًا طويلًا في ممارسة العبادات والفرائض والمستحبات، التي تتقاطع مع صفة السكينة والهدوء ورفع مستوى الطمأنينة. ولذلك قد يكون مناسبًا أيضًا أن يقضي الفرد وقتًا مع نفسه في هدوء تام، وأن يبتعد عن صخب التلفاز والهاتف والمجتمع وكل شيء تقريبًا، ولو لبرهة قصيرة، في وقتٍ لمراجعة النفس ومجادلتها وتهذيب سلوكها. 

فأنجع الحلول أمام ما نخشاه هو مجابهته، ومع الوقت ستصبح صحبة النفس أمرًا محبّبًا لا شيئًا نهرب منه، وتصبح أصوات رؤوسنا أفكارًا قابلة للنقاش والتعليل والفهم، ومِن ثَم القبول والرفض. ستعزّز لدينا ملكة النقد الذاتي والثقة بالنفس، وتخفّ الانفعالات الهوجاء، وقد نصل إلى مرحلة عالية من الاكتفاء الذاتي. 

ما أقوله قد لا يكون جديدًا على الانطوائيين الذين يمارسون الصمت وصحبة النفس هذه بشكل دائم، ولكنه كذلك لهؤلاء الذين يسعون دائمًا إلى ملء الفضاء وإلهاء العقل بشتى المُلهيات، وقد يكون فتحًا مبينًا بالنسبة إليهم في هذا الشهر الكريم.

الوسوم: رعاية الذات . رمضان .

مقالات أخرى من نشرة أها!
8 ديسمبر، 2022

تويتر ليس مساحة للهشاشة النفسية

مشاركة التجارب الشخصية النفسية في وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورًا في الانفتاح المجتمعي على النقاش، وشجعتنا على تقبل فكرة العلاج النفسي.

إيمان أسعد
5 مارس، 2023

التسويف ليس كسلًا، بل مشكلة عقلية

حل التسويف يكمن في مواجهة الخوف الذي يثيره، وذلك من خلال التدوين عن المشاعر السلبية ومواجهتها بدلًا من التهرّب منها.

رويحة عبدالرب
27 أكتوبر، 2022

رصيدي البنكي يحوّلني للقراءة الإلكترو-ورقيّة

أنا نشأت على الطريقة التقليدية في التعلُّم الورقيّ، ولم تفلح محاولاتي في إقناع دماغي بأنَّ القراءة من على الشاشة ليست مؤقتة وسريعة. 

حسين الإسماعيل
19 مايو، 2022

«إيرتاق» والوجه المظلم للتقنية

أصبح من واجبنا -نحن الأفراد- إدراكُ الاحتمالية الدائمة بتضمُّن كل تقنية جديدة تخدمنا أبعادًا قد تغيب عن أغراضها المباشرة.

حسين الإسماعيل
19 أبريل، 2022

ما يتمناه المثقف من إيلون ماسك

إن كان إيلون ماسك مصرًا على تركيب الشرائح في أدمغتنا، أتمنى أن تكون الترجمة الفورية سمعًا وبصرًا وكلامًا هي التطور التقني القادم.

حسين الإسماعيل
10 يوليو، 2023

عش رحلتك بعيدًا عن الاكتظاظ السياحي!

إذا وجدتَ معلمًا جميلًا لم تصله رؤوس السيّاح بعد فإياك تشاركه في مقاطع الترشيحات، حتى يتسنى لك الاستمتاع به مرة أخرى بعيدًا عن الزحمة! 

محمود عصام