«أغنية الغراب» هو أحدث أفلام الكاتب والمخرج محمد السلمان، من بطولة عاصم العواد وإبراهيم الخير الله وعبدالله الجفال. يتحدث الفِلم عن «ناصر»، الشاب الهائم على وجهه في شوارع الرياض في عام 2002 بعدما أخفق في التخرج من كلية الملك فهد للبترول والمعادن، وجرى تشخيصه مؤخرًا بورم في الدماغ يستوجب عملية خطيرة لاستئصاله، وبسبب وقت ناصر المحدود قبل العملية، يحاول الفوز بقلب الفتاة المجهولة التي خطفت قلبه من طريق كتابة أغنية لها.
قبل البدء بالحديث عن أي جانب من جوانب الفِلم أعتقد بأنّ من الواجب الإشادة بطريقة كتابة شخصية ناصر المأساوية التي اكتسبت اهتمامي وتعاطفي منذ المشهد الافتتاحي. يعاني كثير من الأفلام السعودية، ولا سيما التي تتصف بالطابع الفلسفي أو التجريبي، من ضعف كتابة شخصية البطل، يرميك المخرج أمام شخصية رمادية لا ترى فيها أي حدة أو عامل جذب، ولا سبب حقيقي لكون هذا الشخص بطلًا للفِلم سوى أنّ المخرج أو الكاتب قرر ذلك. الأمر مختلف تمامًا في أغنية «الغراب»، فمنذ اللحظة التي افتتح فيها الفِلم أول مشاهده كنا أمام شيء مميز مع ناصر، ولا شك أن ملامح وجه الممثل عاصم العواد ساعدت على هذا الأمر، لكن ذلك لا يمنع أنّا وجدنا اهتمامًا حقيقيًا بكتابة هذه الشخصية، وهذا جعَل كل أحداث الفِلم تنبع من قراراتها.
من الممكن أن نعرّف ناصر بأنه شخص رومنسي، كيف لا وهو يقضي ما يعتقد أنها قد تكون آخر أيامه في هذه الحياة وهو يطارد فتاة لا يعرف سوى شكلها. لكن هناك محركٌ رئيسيٌ لهذه الرومنسية المفرطة والقرارات العاطفية غير العقلانية، هذا المحرك هو ضياع ناصر وشعوره بعدم الانتماء. حينما يخبر ناصر طبيبه بأنه طُرد من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، تأتي هذه المعلومة كلمحة كوميدية تلطف جو المشهد، ولكنها في الوقت نفسه تعزز انعدام الثقة الهائل الذي يعاني منه ناصر، وترسّخ من شعوره بعدم الانتماء إلى أي فئة من فئات مجتمع الرياض في ذلك الوقت. إن مأساوية ناصر لا تكمن في كونه شابًّا مشخّصًا بورم في الدماغ، بل تكمن في أنه مهندس أخفق التخرج من كلية الهندسة، في كونه شاعرًا لا يستطيع إنهاء قصيدة عن فتاة يعشقها بكل ما يملكه من أحاسيس، في كونه ابنًا لأب لا يرى فيه من نفسه أي شيء، لا يناديه باسمه أو بمصطلحات مثل “ولدي”، بل يخاطبه بـ«التيس». ليس بمهندس ولا بشاعر ولا حتى ابنًا لوالده، فإلى أين يُفترض أن يذهب ناصر في مدينة بحجم الرياض؟ في كل طريق حاول ناصر أن يسلكه لم يجد سوى الوحدة رفيقًا لدربه.
حتى في المحيط من حوله لا يوجد أحد يواسيه أو يدله على الطريق الصحيح، لم نشاهد له إخوة أو أخوات يساندونه في التعامل مع غضب والده، ووالدته تقف ضعيفة أمام هذا الغضب وخيبة الأمل الصارخة. وعندما يهرب إلى أصدقائه، فهو لا يملك إلا «بو صقر»، الذي، حينما لا يحاول استفزازه، يملي عليه ما يجب فعله يتحكّم فيه. أما في مكان عمله في «فندق الحمامة»، فهو في قمة الوحدة، لا يعرف كيف يتعامل مع غضب النزلاء، وفي حالات أخرى مع جنونهم.
كنت متخوفًا من إخفاق الفِلم في تصوير مدينة الرياض في حقبة بداية الألفية، ولكن المخرج محمد السلمان استطاع النجاح في هذه المهمة بشكل ذكي، فمواقع التصوير المتعددة مشبعة بتفاصيل تلك الحقبة الزمنية، وتحديدًا «فندق الحمامة». في كل لقطة هناك دليل قاطع على عودتنا إلى زمن ماضٍ، من مفاتيح الغرف المعدنية التي سبقت البطاقات الإلكترونية، والدفع النقدي وقدوم الزبائن دون حجز مسبق، حتى أجهزة التلفاز و«الرسيفر» التي كانت تشكل جزءًا مهمًا من التجربة الفندقية، مقارنة بوقتنا الحالي، حيث يمكنك مشاهدة كل ما يحصل في هذا العالم على جهازك المحمول.
كما رصدنا عملًا ملموسًا وواضحًا في تلوين الصورة واختيار زوايا التصوير: إذ تبدو مدينة الرياض مصبوغة باللون الأصفر؛ نظرًا للمساحات الصحراوية الضخمة المحيطة بها والأراضي الشاغرة التي تتخللها قبل أن تنفجر عُمرانيًا في السنوات الماضية. وحينما تظهر معشوقة ناصر فهي تأتي بعباية بيضاء معاكسة تمامًا للسواد الذي كان يغطي كل النساء، ويعترف السلمان بأنه أراد أمرًا مخالفًا للواقعية لتلك الحقبة الزمنية، ليعزز من فكرة تداخل الواقع والحلم والهلوسة التي يعاني منها ناصر.
سرعة السرد ممتازة بالنسبة لقصة «بسيطة»، ولكن امتداد مدة العرض لمدة تقارب ساعتين قد يجعل المشاهد يشعر بالملل في أواخر الفِلم، خصوصًا مع استهلاك خيارات ناصر التي من الممكن أن يأخذ إليها مصيره، ولكن أتفهّم أن المخرج أراد طرح عدد معين من الأسئلة والرمزيات التي شغلت حيزًا كبيرًا من وقت الفِلم.
يمتلك فِلم «أغنية الغراب» القدر الكافي من الفكاهة بحيث لا يغرق في رمزياته وثيماته، ويمتلك العمق الكافي ليجعل من بطله شخصية يرتبط المشاهد ويتعاطف معها. إبراهيم الخير الله كان مفاجأة سارة في شخصية «بو صقر»؛ لأن الانتقال من قالب «السكتشات» الكوميدية إلى تأدية دور في فِلم طويل ليس مهمة سهلة. كما استطاع عاصم العواد خطف الأنظار من كل زملائه، والأداء الممتاز الذي قدمه ناسب كتابة الشخصية، فهو يدخل أي محادثة وهو الطرف المتلقي ولا يفارقه شعور متأصل بالهزيمة والانكسار، لذلك حينما يقع في الحب لا يقع فيه كبقية الناس، بل يغرق فيه غرقًا، ويستهلكه هذا الحب ويبعثر أي أولويات كان يمتلكها.
إن الضياع الذي يعاني منه وعدم الانتماء الذي يشعر به هما ما يقوده إلى أن يحب بكل حواسه؛ لأنه بدأ يشعر أخيرًا بأنه ينتمي، حتى لو كان ذلك الانتماء إلى شخص لا يعرف عنه أي شيء. يبدأ ناصر أخيرًا اتخاذ القرارات ويحاول التحكم بمصيره عوضًا من الانقياد خلف الآخرين، يحاول أن يجد وطنه في هذا الحب، في حبٍّ يبدو بريئًا وطاهرًا في بيئة تعجّ بالمنكرات والرذائل.