حرروا الرواية العربية من قبضة النازيين
يوجد احتقان ضد اللهجات المحكيّة في الأدب، ودعاوى بأنها ليست كفئًا لأن تكون لغة أدبية. وكلما ظهر عمل جديد باللهجة المحكية برز معه الاحتقان.
عود ليش نتعلم العربية الفصحى واحنا ما نحچي ولا نحب ولا نحلم بيها؟!
لم ترد هذه العبارة في فِلم، بل في رواية «بلبل السيد» للروائي العراقي حسن بلاسم، وهي الوحيدة من بين أعماله التي نشرها باللهجة العراقية المحكية، بعد نشره أعمالًا بالفصحى وصلت إلى العالمية مِن حيث التلقّي والترجمات. فقرار الكتابة باللهجة الدارجة لا علاقة له البتّة بإتقان الفصحى أو عدمه، بل بالأدبيّة الشاملة لكل اللغات واللهجات.
ففي «بلبل السيد»، يوظّف بلاسم اللهجة العراقية شكلًا وموضوعًا في الرواية. إذ يتطرق بطل الرواية إلى سبب كتابته باللغة الدارجة، ويضيف إلى ذلك تورية بعضِ الكلمات، فيقول: «انهزمت من العراق»، وهي بالعراقيّ تعني «تركت العراق»، في إيحاء بأن كل تاركٍ للعراق مهزوم.
يوجد احتقان غير مبرّر ضد اللهجات المحكيّة في الأدب، ودعاوى بأنها ليست كفئًا لأن تكون لغة أدبية. وكلما ظهر عمل جديد باللهجة المحكية برز معه هذا الاحتقان، وثارت ثائرة حماة اللغة وصائني الأخلاق من هذا الصنيع «الفاحش».
لا يخطر ببال هؤلاء النازيّين أن تصوّرهم للأدب قد لا يوافق حقيقته، أنَّ الأدب ليس تنطُّعًا في اللفظ وتقعُّرًا في النطق، بل أبعد من هذا. فها هو ذا دوستويفسكي يقول على لسان مارميلادوف، أحد أبطال روايته «الجريمة والعقاب»: «هل تدرك يا سيدي ما معنى ألاّ يكون للمرء مكان يلجأ إليه؟»
ليس في هذه العبارة أي كلمة متكلفة أو غريبة، فلا توجد «ألق» أو «رونق» أو غيرها مما يطيب لبعضهم استخدامها في بَوحهم وخواطرهم، إذ تكمن أدبيّة العبارة هنا في تأثيرها في نفس القارئ.
ومما يُستغرب مِن استنكار هؤلاء النازيّين للّهجة المحكية: قبولهم الشعر النبَطي وطربهم بمعانيه العميقة وألفاظه وصوَره الشعرية، رغم اعتدادهم بالشعر الفصيح -قديمه وحديثه- دون افتعال صراع بين الصنفين. فهل للعادة دور في ذلك؟ أي: لو ظلّت الرواية تُكتَب بالدارجة قرنًا من الزمن، فهل ذلك كفيل بتطبيعها؟
يقول بعضهم إن روايات اللهجة العامية رديئة. وهم مُحِقّون، لكن لا علاقة للهجة بتلك الرداءة. فتلك الروايات رديئة لأنها لا تستوفي شروط العمل الأدبي الرصين، من حيث الحبكة وتشظّي المعاني وغيرها من عناصر الرواية، إضافة إلى قلة الكتابة وممارسة التجريب فيها. إذ لا يوجد تراكم معرفي وخبرة يصبّان في تطوير الكتابة باللهجة المحكية، ولا يمكن إنتاج عمل فني رصين دون ممارسة متواصلة وإخفاقات.
«الأدب لغته سامية وعالية»، ذلك أيضًا مما يتوهمه كثيرٌ من هؤلاء النازيّين. ولأن أكثرهم لا يتقن سوى لغة واحدة، يصعب عليه أن يتخيل أن كثيرًا من هذا الأدب مكتوب بالدارجة دون أن يؤثّر ذلك في أدبية العمل. بل يتجاوز بعض المترجمين النازيّين هذه الخصوصية اللغوية ويحوّل مقطعًا على لسان إنسانٍ عادي، بكلمات سهلة تناسب النص، إلى خطبة عصماء؛ ظنًّا منه أنه يُسْهم بذلك في تحقيق«أدبية» النص.
للموضوع أبعاد أخرى، ويمكن مقاربته مع موضوعات تاريخية ذات صلة كاللغة اللاتينية وموقعها بأوربا في القرون الماضية بصفتها لغة علم وأدب، وكيف تغير الأمر، وما كان يُنظر إليه على أنه لهجة متدنية، مثل اللغة الفرنسية، تحولت إلى لغة رصينة تُستخدم في الأدب وغيره من الكتابات الرسمية. إلا أن هؤلاء النازيّين، بحكم نازيّتهم، يرفضون مجرد الحديث في الموضوع ودراسته بذكاء أشدّ.
نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.