أزعم أن الوعي الجمعي في تزايد فيما يتعلق بسلطة اللغة في تشكيل الخطابات السياسية والاجتماعية، والأمثلة كثيرة. فعبارات مثل حقوق الإنسان والسلام والحرية وغيرها مفردات توجد بشكل طبيعي وموضوعي إلى حد ما في المعاجم، إلا أنَّ استخداماتها السياسية واليومية تأتي محملة بخطابات تستبطن موازين قوى مختلفة، بل وامتيازات فيمن يحق له استخدام هذا الخطاب دون الآخرين.
فاليوم نرى أحقية الرجل الأبيض -وكل من يتبنى خطاب الليبرالية الغربية- في استخدام مفردة «حقوق الإنسان» بأريحية وحرمان الفلسطيني منها. هذا مجرد مثال فقط، ولكن الصراع ذاته يتمظهر في أشكال أخرى كثيرة وربما في موضوعات أقل حساسية، منها «التواضع».
يذكر المفكر السلوفيني سلافوي جيجيك طرفة لكشف زيف التواضع، إذ أنَّ للنكت والكوميديا قوة في إبراز نفاق الكثير من الأفكار والقيم والخطابات التي تشكلها. وتقول النسخة العربية من الطرفة:
نهض أحد رجال الدين ليلقي خطبة في محفل ما، فابتدأ قائلًا إنه مجرد نكرة وغير جدير بتقدير الناس له، ثم أكمل خطبته. نهض بعده أحد التجار الكبار المعروفين وابتدأ حديثه مذكّرًا الناس بعدم أهميته هو الآخر وأنه مجرد نكرة أيضًا ثم أنهى كلمته. نهض بعد ذلك رجل فقير معدم لا يعرفه أحد وابتدأ بالمثل، ذاكرًا إنه مجرد نكرة، فغضب التاجر ووكز الجالس جانبه هامسًا: «من يظن هذا نفسه ليقول إنه مجرد نكرة!»
حين نلتفت للتواضع كخطاب نتداوله بشكل يومي على أرض الواقع وفي مواقع التواصل الاجتماعي، نتنبّه لانسحاب التواضع من خانة القيم العليا واتجاهه ناحية خانة الألعاب السياسية واللغوية. ففي مجتمع تلعب فيه العلاقات الاجتماعية دورًا كبيرًا في جودة حياة الفرد، أصبحت ثنائية «الكبر والتواضع» أسلحة لغوية للإطاحة بمن لا نتقبله بناءً على انطباعاتنا، أو لمن ينافسنا، أو رافعة على هرم السلطة الاجتماعية لمن ينجح بالظفر باستحساننا. فالمتكبر بغيضٌ ومنفر، والمتواضع ودود وجاذب ولا يشكل خطرًا على مشاعرنا.
اللغة بطبيعتها كائنٌ مراوغ، وأداة «عودية» قادرة على تمويه ذاتها ضمن قواعد اللعبة نفسها.، وهذا ما يجعل الكبر قيمة باقية في جميع صراعاتنا الاجتماعية، وهو ذاته ما يجعل التواضع أيضا قابلًا لأن يكون كبرًا متخفيَّا، أو حتى امتيازًا اجتماعيًّا.
إذ من يستطيع أن يقول «ما أنا إلا مجرد موظف بسيط بينكم؟» مدير الشركة أم موظف الدعم التقني البسيط؟ هكذا أصبح التواضع امتيازًا لمن يحق له الكبر، إذ كيف سيتواضع من لا يملك قيمة تجعله متفوقًا على الآخرين؟
أجادل أنَّ التواضع اليوم ليس إلا بديلًا آمنًا للمتكبّر لإظهار كبره، ووسيلة إضافية لمضاعفة رأس المال الاجتماعي. لكن السلوان هو في تقبّلنا لهذا التواطؤ لأنه أهون الشرَّين، ولأن اللغة ليست إلا تواطؤًا في الأساس.
مقالات أخرى من نشرة أها!
رصيدي البنكي يحوّلني للقراءة الإلكترو-ورقيّة
أنا نشأت على الطريقة التقليدية في التعلُّم الورقيّ، ولم تفلح محاولاتي في إقناع دماغي بأنَّ القراءة من على الشاشة ليست مؤقتة وسريعة.
حسين الإسماعيلكل مرة تسأل «جي بي تي» أنت تحرق البيئة
تعريضنا البيئة للحرق لأجل طرح سؤال سخيف على شات جي بي تي يعني أننا حوّلنا الذكاء الاصطناعي من أداة تخفض البصمة الكربونية إلى أداة ترفعها.
ياسمين عبداللهعواقب الإدانة بقطع سويفت
خرج بيان من الاتحاد الأوربي يقضي بإخراج بعض البنوك الروسية من نظام الرسائل البنكية العالمية «سويفت» لتقليل قدرتها على العمل عالميًا.
تركي القحطانيشهادتك الجامعية لا تنفعك
تروِّج الكثير من منصات التعليم التقنية إلى قيمة شهادتها العالية في التوظيف مقارنةً بالشهادة الجامعية، والمشكلة أنَّ ترويجها قد يكون صحيحًا.
ثمود بن محفوظهل الفنون السعودية تستحق الاهتمام؟
الفن لا يلغي أهمية السرد التاريخي وإنما يكمِّله ويشرحه. ومن هنا يأتي قصور الفن الذي لا يمكن سده إلا بالسرد التاريخي والطرح العلمي.
حسن عليلماذا نحتاج إلى بعض الأوهام؟
تمسُّكنا بالأوهام شكلٌ من أشكال استحضار الصبر. نتدرب من خلاله على الإمساك بالطرق الطويلة التي توصلنا إلى نتائج غير متوقعة.
أحمد مشرف