لا يوجد عمل تلفزيوني أكثر سوداوية من المسلسل الأمريكي «بوجاك هورسمان» (BoJack Horseman)، ليس لأنه لاذع في نقده للمجتمع الأمريكي، وإنما لصدقه الجارح الذي يخترق كل من يشاهده. قد يبدو المسلسل عملًا كوميديًّا مشابهًا لـ«ذ سمسونز» (The Simpsons)، إلا أنه ليس كذلك مطلقًا؛ بوجاك عمل درامي مؤذٍ ويسبب الكآبة.
الشخصية الرئيسة، بوجاك، خمسيني سطع نجمه في التسعينيات، يهمه مصلحة نفسه، ولا يتعاطف مع الآخرين، غير مسؤول، ذو استحقاق عالٍ، مدمن كحولي، وقح، محتقر لذاته.. ومع ذلك يشعر المشاهد أن شيئًا ما يجمعه به.
يقول بوجاك لـ«آنا»، إحدى الشخصيات، إنه لا يستمتع بشيء، وكل مرة يظن أن شيئًا ما سيسعده، لا يحصل ذلك، فتجيبه آنا: «توقف عن التلذذ والتشبث بحزنك!». تصبح هذه الفكرة ثيمة رئيسة للمسلسل، بعد أن لفتت العبارة انتباه كل متابعيه لما تحمله من أبعاد كاشفة لدواخلنا.
ما يجعل التلذذ بالحزن ممكنًا، هو التزامُنا وولاؤنا له؛ أن نعرّف ذواتنا أو جزءًا منها بالحزن، أن يكون جزءًا من هويتنا ومحتومًا في قدرنا. لكن ما الدافع وراء ذلك؟
نعلم أن «رمسنة» القيم والصفات غير الحميدة أو العلات النفسية أمر واقع، كارتباط اضطرابات الشخصية الانطوائية بالجاذبية، وقد يكون لثقافة التلفاز والأفلام دور في ذلك، إلا أن الحزن يبدو حالة مختلفة. قد نسوّغ ذلك بالمازوخية، ولكن في حالات أخرى تكون حيلًا نفسية لمكاسب شخصية.
عودًا على بوجاك الذي تتقاطع بعض خصاله المدمرة مع بعضنا، هؤلاء ليسوا ضعفاء أو مازوخيين في العالم الخارجي وديناميكيات قوته، إذ يستطيعون بحسب مواقعهم الاجتماعية المختلفة أن يطوّعوا موقفًا ما لصالحهم، أو استغلال الأفراد من حولهم. إلا أن الجانب الداخلي والنفسي يظل يوبخهم، فتأتي هذه الحيلة لتحويل مشاعرهم السيئة بسبب أفعالهم التي لا يستطيعون تغييرها إلى «حزن محتوم عليهم»، وهذا ما يفعله بوجاك تمامًا.
إذ يستغلّ بوجاك كل من حوله، يتحصَّل على ما يريد ويؤذي المقربين منه. وعوض تحمُّل مسؤولية أفعاله، يتهم الآخرين في جعله ما هو عليه. فتارة يوقع المشكلة على والدته التي كرهته، وتارة على قدَرِه، فينتهي به الأمر بانحرافه عن لب المشكلة -عن أفعاله وقيمه- ويركّز على خواء غير موجود يسميه «حزنه المحتوم» وقدره السيئ الذي لا مفر منه.
وحيث يبدو أنه حزين إلا أنه يتلذذ بكل هذه المشاعر. فهو لا يريد أن يغير أي شيء، وإنما يبحث عن تذكرة إعفاء لتصرفاته، وهذا الحزن يعمل عمل المسوِّغ، ويوفر له ما يشبه «الخاتمية» (closure).
الخاتمية هي ما يقفل هذه الدائرة اللامنتهية على من يتلذذ بحزنه ويرمسنه ويلتزمه، هي ذلك الشعور بالاطمئنان. فبوجاك وأشباهه لا يملكون أسبابًا أو رغبة لتغيير أفعالهم وأنفسهم التي لا ينوون تغييرها فعلًا، ولذلك التزامهم بحزنهم يجمع لذة تعاطف الناس معهم، وبالشعور الآمن بعدم الحاجة لمحاسبة النفس وتقويمها.
التلذذ بالحزن سلوك نفسي ضعيف، ويميل أصحابه للتسلط على الآخرين. لذا في كل مرة ترى نفسك تتلذذ بحزنك، توقف.. وفكر بأنك تملك زمام حياتك وأنك مسؤول عنها، وأن ما تشعر به قد يقودك إلى دوامة لامنتهية من التذمر والغضب والإحباط، تمامًا مثل بوجاك هورسمان.
مقالات أخرى من نشرة أها!
مهووسة بالأخبار السلبية
الإلمام بالعالم حولنا نعمة، الا أنّ هوس تصفّح الأخبار السلبية والانغماس في المحزن منها لا يساعدنا على التعامل مع واقعنا بصورةٍ أفضل.
رويحة عبدالربتويتر ليس مساحة للهشاشة النفسية
مشاركة التجارب الشخصية النفسية في وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورًا في الانفتاح المجتمعي على النقاش، وشجعتنا على تقبل فكرة العلاج النفسي.
إيمان أسعدالملكة شارلوت تحذرنا من كليوباترا
نعيش اليوم في زمن تُشكِّل فيه منصات المحتوى الصورة الذهنية لملايين المشاهدين حول العالم، فتشوّش بتحريفها التاريخ ذاكرتنا الجمعيّة وهويتنا.
ياسمين عبداللهالإعلان الأكبر يراقبك!
قد تتخلل مسلسلات المستقبل إعلاناتٌ موجهةٌ لنا شخصيًا ونُجبَر على مشاهدتها بسبب وقوع أعيننا صدفةً على غرضٍ ما في البرنامج الذي كنا نتابعه.
حسين الإسماعيلقتلني غياب الرصيف
غياب الرصيف عن مدننا لم يكن هجومًا على صحتنا البدنية والنفسية فقط، وإنما هجومًا يفتك بعلاقة الفرد بأرضه وطبيعتها، وبنسيج مجتمعنا.
حسين الضوكيف سنعيش في قرية إيلون مسك بلا حظر؟
زر الحظر حق كل مستخدم ضمن مساحته الافتراضية، وفي حال طبق مسك رغبته بإزالة الخاصية ستكون السلامة النفسية لأي فرد في المنصة مهددة بالانتهاك.
سحر الهاشمي