لعل السبب الأهم الذي يجعلني أحلم بالثراء الفاحش، أن يكون لدي عدد من المساعدين أرسلهم بدلًا عني، يجوبون الطرقات ويتبضعون من الأسواق. أمَّا قبل أن تصبح الشوارع مزدحمة بهذا الشكل المقيت، فلم يكن هاجس الثراء يشغل بالي كثيرًا.
ومع أني لم أستطع التعايش مع الزحام المروري، ولا التكيف مع الحياة التي يتساوى فيها عدد البشر مع عدد السيارات؛ فإنني أكبح جماح نفسي الأمّارة بالسوء والامتعاض. وأذّكرها أنني في نعمة يغبطني عليها كثير من الخلق. ولأن نفسي تشبهني في بطء الفهم وقلة الاستيعاب، فإني أحاول ألّا أكتفي بالتأنيب اللفظي، وأحاول أن يكون التأنيب عمليًّا. لذلك أزور الرياض بين الفينة والأخرى، حتى ألقن نفسي درسًا في شكر النعم، وكي أدرك وتدرك نفسي أن من لا يسكن الرياض لا يحق له أن يتحدث عن الزحام المروري.
ومع أن الرياض مترامية الأطراف واسعة فسيحة؛ فإنّها تضيق بالناس ذرعًا. والناس مزدحمون في كل مكان وفي كل وقت، آناء الليل وأطراف النهار، وحين تصبح الشمس وعند مغيبها. وكل مكان تذهب إليه يخيل إليك أنَّ الخلق كلهم يجتمعون فيه، وأن بقية أصقاع الأرض خلت من سكانها. لذلك فإن الأفكار التي أسمعها عن تغيير مواقيت العمل والمدارس وتوزيعها على سائر اليوم والليلة، بدت لي غير مفيدة وعديمة الجدوى؛ فلو كان الأمر يتعلق فقط بالطلاب في مدارسهم وأولياء الأمور في أعمالهم، لما كان الازدحام في كل ساعات الليل والنهار.

كتبت قبل فترة عن مشكلتي المتعلقة بأقساط سيارتي، فالتقط أحد الدهاة هذه المشكلة، ليقول لي إنني وأمثالي من الفقراء سبب الزحام. لأننا نشتري سيارات رغم عدم قدرتنا المالية، ونسبب الزحام في الشوارع، ما يضايق الأخوة المترفين الذين لا يشترون سياراتهم بالأقساط، ونجعل الطرقات تضيق بهم بما رحبت. وأنَّه يجب عليَّ أنا وأمثالي وأشباهي وأقراني من محدودي الدخل أن نستخدم النقل العام بدلًا من ملء الشوارع بسيارات لا نملكها. ولعل هذا سبب آخر يدعوني للتمسك بحلمي في الثراء؛ فقد مللت تنمر الأثرياء عليّ في وسائل التواصل، وتحميلهم إياي مشاكل الكوكب الذي نتشارك الوجود فيه.
والحقيقة أنني وددت المشاركة في الحل لولا مشكلة وحيدة، وهي أنني لست جزءًا من مشكلة زحام الرياض. وقد لا يعلم الأخ الذي يزعجه وجود سيارتي أنني لم أخطط الشوارع، ولم أشارك في رسم وتخطيط الشكل الحضري للمدن عامةً والرياض خاصةً. ولا علاقة لي بالطقس ولا بالمناخ، ولم يسبق لي أن اعترضت على أن تكون أجواؤنا تغري بالمشي واستخدام الدراجات. بل إنني في كل مرة أسافر من الشرقية إلى الجنوب أمر بالرياض مجبرًا، وأتسبب -أنا وأمثالي- في زحام غير مبرر. وأكثر ما يمكنني فعله هو الاعتذار للأخ الكريم الذي يظن أنني السبب، وأتمنى أن يكون نائمًا في الوقت الذي أضطر فيه إلى المرور من الرياض.
رفع أسعار الوقود وزيادة الضريبة على شراء السيارات، لإجبار الناس على استخدام وسائل النقل العام، فكرة يروج لها الذين لن يستخدموا وسائل النقل العام، لا الآن ولا بعد أن يصبح لتر الوقود أغلى من برميل النفط. وأظن -غفر الله لي- أن الحلول التي لا تحتاج إلى مجهود مشكلةٌ في حد ذاتها. إذا لم تكن وسائل النقل العام موفرة للوقت والجهد والمال، فإن الازدحام المروري الناتج عن غيابها أكثر واقعية وقبولًا من استخدامها. وتوفير المال هنا يعني أن تكون أقل تكلفة من الوضع الحالي لاستخدام السيارة، وليس رفع تكلفة استخدامها، وإرغام العربة على أن تجر الحصان. ثم أني لا أستسيغ فكرة التضحيات غير المبررة، ولا أجد أنه من المنطقي أن ترتفع أسعار الوقود على سكان صامطة والخفجي، لأنَّ سكان الرياض يشتكون من الزحام.
وعلى أي حال، وبما أنه لا يبدو في الأفق بوادر لحل هذه المعضلة دون أن يتضرر أحد، فلماذا لا نحوّل المشكلة نفسها إلى بيئة استثمارية وإبداعية؟! يمكن مثلًا أن تنشأ شركات توصيل طلبات باستخدام طائرات الدرون لتوصيل الطلبات إلى العالقين في الزحام، أو توفير الوجبات من المطاعم. يمكن أيضًا أن تتاح الفرصة للراغبين في تطوير أنفسهم الحصول على شهادات ودورات تقدم للمحتجزين في طرقات الرياض، أو أي مدينة أخرى لديها المواصفات نفسها. وهذا ربما يصبح في المستقبل غاية في حد ذاته، فتعمد المدن التي لا تعاني من الزحام إلى إغلاق الطرقات وخلق زحام مفتعل، من أجل جذب الراغبين في العلم والمعرفة. ولماذا لا تفكر إحدى القنوات التلفزيونية في برنامج للموهوبين يسمى مثلًا «مواهب عالقة»، يجري فيها التواصل مع الناس وعرض مواهبهم الفنية التي تنبع من عمق التقاطعات.
يمكن أن تقام مسابقة شعرية نسميها «شاعر الإشارة» يصدح فيها الشعراء بأعذب القصائد عن الزحام، ومآسي الأحبة الذين فرقت بينهم الإغلاقات والصبات، وباعدت التحويلات بين قلوبهم. يجب أن نكف عن الشكوى ونتفاءل، ونحاول الوصول إلى الضوء في آخر النفق. لكن يجب ألَّا نستعجل الوصول إلى ذلك الضوء؛ فالنفق مزدحم هو الآخر.