دوائري الاجتماعية ليست متشابهة. فزملاء العمل يختلفون عن شباب الديوانية، وهؤلاء يختلفون عن صداقات أيام الدراسة، وجميعهم يختلفون عن المجموعات الثقافية التي أقضي وقتًا معها. لكن لا أحد منهم جميعًا يفهمني باستثناء أصدقاء العمل.
فأنا أعمل في قسم يأتي فيه الجميع من خلفية مشتركة. التحق جميعنا عقب تخرجنا من الثانوية ببرنامج تدريبي مكثف استعدادًا للدراسة الجامعية، من ثم أُرسِلنا لدراسة التخصص ذاته في جامعات غربيّة؛ تحديدًا الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وأستراليا. تجربتنا الحياتية المشتركة هذه هي ما يجعل من التواصل وإيصال الأفكار المتعلقة بالعمل أو خلافه أمرًا في غاية السهولة.
فالأمثلة التي نضربها تعود لتجارب سابقة متشابهة؛ تعبيراتنا، النكت، طرائق الاستدلال، جميعها متشابهة وكأننا نتاج مدرسة حياتية واحدة.
مثلًا، عندما أتحدث عن فكرة أعمل عليها لبرنامج يوتيوبي بشأن كراهيتي لأمور كثيرة، ويرد أحدهم: «أوه مثل بيتر قريفن: (Do you know what grind my gears)»، فأنا أفهم ما يقصده، لأني مثله تابعت مسلسل «فاملي قاي» (Family Guy). أو عندما أشير إلى أنَّ الحقل العلمي كممارسة لا يعني بالضرورة موضوعية كل شيء نقوم به وتجريبيته، فورًا يفهمني زملائي.
ما يسمح بانسيابية التفاهم بيننا هو تشاركنا المعجم الثقافي ذاته (Lexicon)، فاللغة التواصلية في حد ذاتها غير كافية. قد أقول «قِط» ويرتسم في مخيلتك قطٌّ يخرج من قمامة، أو قط بفرو كثيف في حضن مالكه. كل صورة تقفز إلى ذهن صاحبها بحسب تجاربه الحياتية السابقة.
وبالطبع يصبح الأمر أكثر تعقيدًا عندما يتناول شخصان موضوعات أكثر دقة، مثل مواضيع الدين والمجتمع والفلسفة. وليس من المستغرب أن يصل التواصل بينهما إلى حائط مسدود في حال كان المتناقشان يمتلكان معجمَين ثقافيَّين متباعدَين جدًّا!
فكرة فشل اللغة في إيصال المعنى ليست بالجديدة على الإطلاق، فقد تناولها جاك دريدا وغيره من «التفكيكيين» الذين أدركوا أن اللغة مهما كانت دقيقة وتوصيفية، إلا أن هناك فجوة تظل غير مردومة، وبإمكانها أن تكون عائقًا أمام إيصال الصورة المرادة عند قائلها. ولذلك يقال دائمًا: إنَّ في اللغة جانبًا كبيرًا من التواطؤ.
لهذا، عندما أكون مع مجموعة أخرى من الأصدقاء، أحاول إبقاء حيز اللغة في منطقة التجارب الحياتية المشتركة وكل ما تحمله من معجم ثقافي. فأتجنب استخدام أمثلة أو مفردات أكاديمية عندما أتحدث مع من لم يلتحق بالجامعة قط. وكذلك أتوقع ألا يستخدم الطرف الآخر لغة ناتجة عن تجارب حياتية لا أفهمها.
لكن أظل أسأل نفسي: هل ذلك ممكن أساسًا؟ هل أستطيع أن أقصي جزءًا من ذاتي، أو أتقمص ذات أخرى ليست نتاج تاريخي الشخصي؟ هل كنت سأستطيع كتابة هذه التدوينة دون أن أتشارك معك معجمي الثقافي؟
مقالات أخرى من نشرة أها!
لماذا أكترث لقارئ القودريدز؟
تجربتي مع قودريدز تعود لسنوات دخولي عالم الترجمة الروائية. ودائمًا الشهر الأول هو الأصعب، حيث يسلِّط القارئ الأول سيفه عليك.
إيمان أسعدصُنع في الذاكرة
لا يمر يوم دون التقاطنا صور توثق لحظاتنا بأدق التفاصيل خوفًا من النسيان. لكن حتى تتشكل الذاكرة عاطفيًّا لدينا نحتاج إلى نسيان التفاصيل.
إيمان أسعدكيف نتعامل مع أخبار الكوارث المفجعة
حتى نلتقط أنفاسنا من دوامة الأخبار السلبية، ينبغي لنا أولًا أن نقنن من تعرضنا لها ونطبق ما يُعرف بـ«حمية منصات التواصل».
أنس الرتوعيالشغف لا ينتهي عند التخصص الجامعي
لا شيء يدعونا لاكتشاف الذات سوى كثرة التجارب والخبرات المتراكمة، التي لا تأتي إلا من خلال الانخراط في مهام عملية يومية مع فريقٍ داعم.
أحمد مشرفلماذا علينا التحرّر من الكيس البلاستيكي؟
بعد عدة أشهر من قراري التحرّر من الكيس البلاستيكي، بدأت أتكيف على أسلوب حياتي الجديد بالحفاظ على البيئة من خلال البدائل المتاحة لي.
بثينة الهذلولشارك رأيك ولا تكشف اسمك
يصوّر واقعك أنَّ استخدام الأسماء المستعارة هروبٌ من إبداء رأيك ومواجهة رد الآخرين عليه، لكنها ببساطة تعني أنَّك قررت الاحتفاظ بخصوصيتك.
ثمود بن محفوظ