متعلم وفاهم يا موظف!

كيف يعيش «الدكاترة» في منازلهم، وهل يخاطبهم أبناؤهم وأزواجهم بأسمائهم، أم أن اللقب الأكاديمي هو المسيطر حتى في الغرف المُغلقة.

أعاني -عافانا الله وإياكم- من بضع مشكلات لا أجد لها علاجًا شافيًا، فأنا، إضافة إلى مشاكل القولون العصبي، أعاني من عدم قدرتي على فهم الربط بين المؤهل الأكاديمي والصفات الشخصية، والافتراض «المجتمعي» بأن العلاقة بين الأمرين علاقة طردية، وأن الأخلاق الحميدة ترتفع تلقائيًا بمجرد الحصول على مؤهل دراسي أعلى.

وربما أدى هذا الفهم إلى أن المجتمع في فترة ما أصبح مهووسًا بالحصول على شهادات عليا، ليس من أجل العلم والتعلم، ولكن من أجل التقدير الاجتماعي. وكان من نتائج هذا الهوس أننا -وهذه إحصائية من كيسي- في طريقنا إلى أن نصبح الدولة التي لديها أكبر نسبة من السكان الحاصلين على شهادات الدكتوراه والماجستير، وأقل نسبة من الباحثين. وليس سرًا أيها السيدات والسادة أن نسبة كبيرة من الأبحاث في الجامعات –إن لم تكن كلها– كان الدافع ورائها هو الترقية العلمية، وليس البحث العلمي نفسه.

وأرجو قبل الاسترسال ألا يفهم أني ضد حصول الناس على مؤهلات أعلى، وأن فشلي في الحصول على شهادات عليا دفعني إلى الحقد على هذه الطبقة من الأكاديميين الذين لا يكادون يفقهون حديثًا.

ولست ضد أن يصبح في السعودية أكثر من ثلاثين مليون دكتور، وسأقبل التضحية وأكون وحدي السعودي الذي لم يحصل على تلك الشهادة، وسأكتب قبل اسمي حرفي «غ.د» للدلالة على أني فشلت في أن أصبح دكتورًا. والحرفين هنا يشيران إلى عبارة «غير دكتور»، وليس إلى «غبي دلخ»، مع أن الأمر لن يشكل فارقًا.

لكن الأمر الذي استهجنه هو التقدير الذي لا علاقة له بالتخصص المترتب على هذه الشهادة أو تلك. والافتراض التلقائي للأمانة والنزاهة والكرم والشجاعة والإيثار والصدق في كل حاملي المؤهل العلمي العالي، والافتراض المقابل أن هذه السجايا تقل لدى العامة والدهماء من الناس، الذين لا يضعون حرف الدال أمام أسمائهم. المنطق يقول إن الدكتور متخصص جدًّا في مجال محدد، وأن اللقب يتعلق بهذا المجال فقط، لكنه في قائمة مزايا الخلق ومعارفهم يأخذ مكانه حسب ما يعرفه ويحسنه في تلك المزايا والمعارف. وأن الفهم والتعليم ليسا مرتبطين، فليس كل متعلم يفهم في الحياة وشؤونها، وأحيانًا لا يفهم حتى في الأمور التي تعلمها. لكن المنطق غالبًا لا علاقة له بالواقع، وهذا ربما يكون مجال البحث في رسالتي للدكتوراه التي أفكر في الحصول عليها حتى ينسى الناس اسمي.

فاللص لص والكاذب كاذب أيًّا كان مستوى تعليمه، ربما يكون الفارق أن اللص الأقل تعليمًا يسرق محفظة أو جهاز هاتف، بينما اللص الأكثر تعليمًا ربما يسرق الجامعة أو الوزارة. وهذا الفارق الوحيد الذي تتيحه الحياة للص -على سبيل المثال- عندما يحمل مؤهلًا علميًّا. وقس على ذلك بقية صفات الخلق.

الفكرة المخيفة هي أن تتخلى عن اسمك الحقيقي وربما حياتك الحقيقية لصالح لقب «الدكتور»، لأن يوم حصولك على هذا اللقب سيكون في الغالب هو آخر يوم تسمع فيه اسمك مجردًا كما اختاره والداك.

وعندما تكون –على سبيل المثال– في رحلة برية مع أصدقاء الطفولة تطاردون ضبًا أكاديميًّا -قبل حصوله على الحصانة- فإن هذا لن يغير في الأمر شيئًا، ولن تسمع اسمك الحقيقي ورفاقك ينادونك لمد يد العون في محاصرة الضب المسكين. في المجالس وفي الأفراح وفي الأتراح، لن يناديك أحد باسمك، وهي فكرة مخيفة لأنها أشبه بما يحدث للإنسان في المقبرة بعد وفاته، الناس يتحدثون عن المتوفى والمرحوم والجنازة.  

وحتى ساعة كتابة هذه المدونة فإنه لم يتسن لي معرفة كيف يعيش «الدكاترة» في منازلهم، وهل يخاطبهم أبناؤهم وأزواجهم بأسمائهم، أم أن اللقب الأكاديمي هو المسيطر حتى في الغرف المُغلقة.

Giphy 5
خاطبني بلقبي الأكاديمي / Giphy

والحقيقة أني أعبر عن مخاوفي الممزوجة بالحقد الطبقي، ولا أعني أنهم ليسوا سعداء بهذا الوضع، فكثير منهم حصلوا على الشهادة من أجل التخلي عن أسمائهم والحصول على تقدير مجتمعي.

ومن حقهم الاعتقاد بأنهم أفضل من الآخرين بما أن المجتمع منحهم هذا الحق، وقدمهم في كل مجال حتى في المجالات التي لا يحسنون عملها ولا يفقهون فيها، ولم يدرسوا عنها حرفًا واحدًا في أثناء عبورهم صراط «الدكترة».

ولا أعلم من هو أول شخص حصل على شهادة الدكتوراه، ولم أفكر في البحث عن هذا لأني استهجنت فكرة أن أجري بحثًا لا أحصل بعده على شهادة، ولكني أعلم يقينًا –أو شبه يقين- أن أول دكتور مُنح هذا اللقب من قبل شخص مثلي «غ.د».

وهذا الأمر ينطبق، وإن كان بدرجة أقل على الرتب العسكرية، فالرتبة تسبق الاسم بغض النظر عن مكان تواجد حاملها، مع أن المنطق يفترض أن الرتبة تخص مكان عمله وطبيعته فقط. ولكن المنطق -كما سأكتب في رسالتي للدكتوراه- لا علاقة له بمثل هذه الأمور.

لا أعلم حقيقة مشاعر من يناديه الناس بمسمى العمل الذي يمارسه، وقد حاولت تخيل الأمر ووجدت أني سأشعر بشيء من الامتعاض لو ناداني أحدهم بقوله: يا «موظف»، لن يخطر في ذهني حينها إلا أنه يشتمني بشكل قاس ومؤذ.

الإنسانالتعليمالجامعاتالطبقيةالرأي
نشرة الساخر
نشرة الساخر
منثمانيةثمانية

الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!