عندما تبيع روحك للجمهور
كثيرًا من الناس اليوم أبَوا إلا أن يعطوا أمام الجمهور، فحتى العطاء لا قيمة له اليوم دون كاميرا، نبيع معها جزءً من الروح مع كل ظهور.
قبل أكثر من عشر سنوات، في مناسبة جمعت العديد من رجال الأعمال وأعيان المدينة، يقوم أحد أكبر التُجّار -وسط التهليل والتصفيق- بكتابة شيك بالملايين متبرعًا به لإحدى الجهات الخيرية. كان ذلك التبرّع بعد أن أثار أحد الحاضرين موضوع نقص فاعلي الخير تجاه تلك الجهة لسببٍ ما، ليأتي هذا الرجل محاولًا سد الفجوة، ومحاولًا إثبات عكس السمعة التي خرجت عنه منذ سنين بأنه تاجر «شديد الثراء، قليل العطاء».
يتصل مكتبه في اليوم التالي على البنك الذي أودع فيه الشيك، ومن سوء الحظ، كان مُستقبِل الاتصال أحد الأشخاص المُلمين بحال هذا الرجل، علِم عن ظروف الجلسة التي أسمعت القاصي والداني بما فعله السيد الكريم، كان الهدف من الاتصال «تعطيل صرف الشيك حتى إشعار آخر». فهِم ذلك الموظف، إلا أنه قرر تحمّل مسؤولية الظهور أمام الملأ نيابةً عن كاتب الشيك، فيرد: «مع الأسف، أودِع الشيك ولا مجال للرجوع» ومع أن الأمر فيه سعة للعدول عنه، إلا أن الموظف أراد -رغم التحفّظ على عدم أمانة تصرّفه- تلقين هذا التاجر درسًا لا ينساه.
يظهر بعدها بسنوات أحد مشاهير وسائل التواصل في محل مجوهرات غالٍ، يستشير متابعيه، إن كان يجب أن يشتري لزوجته القطعة الأولى أم الثانية؟ ثم أخبرهم فيما بعد أنه حسم قرار الشراء. وبعد بضعة أيام يعود إلى منزله وقد نسي المتابعون موضوع الاستشارة مكتفين بحفظ الانطباع عن كرمه مع أهل بيته، تنتظره زوجته مع حقائبه وإحدى القطعتين، فتكتشف أن «حَسم القرار» كان بعدم شراء أيٍ منها. لم تكن الاستشارة أمام جمهوره -بالنسبة له- التزامًا أخلاقيًا، بقدر ما هي رغبة عارمة في الحصول على بعض الإثارة والتقدير.
هذه القصتان ليستا من وحي الخيال، بل حصلت على أرض الواقع مع اختلاف بعض التفاصيل التي لا نرى كواليسها؛ لأننا نجلس في مقاعد الجمهور الذين يعطون المتفاعلين حق الشُهرة.
وفي مجتمعٍ آخر يظهر أحد أشهر اليوتيوبرز (Nikocado Avocado) وهو شاب لطيف ووسيم، تعدّى مشتركو قناته الثلاث ملايين، يصوّر نفسه وهو يأكل بشراهة لا يمكن أن يفعلها إنسان طبيعي. يسمن «نيكولاس بيري» قليلًا مع كل فيديو ينشره، ويتحول من ذلك الشاب الوسيم إلى إنسان مترهّل شديد البدانة، وسيء التأثير على كل متابعيه من خلال تصرّفاته الصادمة في أكل الوجبات السريعة. وصل به الحال أن أكل عشرة آلاف كالوري في يومٍ واحد أمام الكاميرا استجابة لتحدٍ أحمق، نقله مع كثير من التحديات المشابهة ليتحول إلى إنسانًا مريض في هيئته وبتحدياته وتفاعله؛ حتى بالنسبة لمتابعيه القدماء.
هذا الإدمان على الحصول على انتباه أعلى من المتابعين قد يكون صادمًا للإنسان البسيط الذي اعتاد التعرّف على الإدمان بأشكاله المعروفة؛ إدمان لا نقدِّر تأثيره وخطورته يتمثّل في نتيجة واحدة: الشهرة مقابل بيع الروح. Click To Tweet
في مارس 2023 أكمل عاميَ العاشر في مشوار كتابة المقالات والكُتب، أتذكر مع كتابة هذا السطر عشرة أشخاص على الأقل في مواقف مختلفة نصحوني أن أوزِع جهودي بين الكتابة ومحاولة اجتذاب الشهرة، لأن الكتابة حسب وصفهم «ما تأكل عيش» ولأنني أملك جرأة لا بأس بها بالتحدث أمام الكاميرا فقد يساعد هذا الأمر. كل ما أحتاجه -حسب وصفهم- ظهورًا منتظم أدردش خلاله عن يومياتي وقصصي مع المتابعين، تظهر بعدها عصا الإعلانات السحرية التي ستغير كل شيء. أذكر زميلًا صرف يومًا كاملًا كان فيه برفقتي محاولًا اقناعي بأن المشاهير ليسوا أفضل مني، وأنه لا ينبغي أن أركز جهودي على نصوص كتابية لا تصنع ثروةً في عالم الشهرة، مكررًا «خلْ عنك الكتابة.. الزمن زمن المشاهير.»
أخبر نفسي من وقتها أن أبيع الكرامة، أو بيع الصحة.. أو بيعٌ الروح؛ تجارة تقتل الكثير في إنسانيتنا.
وعندما يتحول الشخص ضحية لجلب المزيد من المتابعين، سيبتعد أكثر عن السلام الداخلي؛ تتبدل القناعة والرضا إلى الجشع، ينظر في المرآة ويسأل نفسه: «ما الذي يعجب الآخرين ويثيرهم؟» بدل أن يسأل: «ما الذي يعجبني ويريحني ويخلق لي قيمة أكبر؟»
حاجة «الأنا» إلى شفقة المتابعين
في خريف عام 1990، كانت فرقة الميتال «وارنت» (Warrant) على وشك إصدار ألبومها الجديد (Uncle Tom’s Cabin) عندما تلقى «جين لين» -مغني الفرقة وكاتب أغانيها الرئيس- مكالمةً من أحد مديري شركة «سوني» المنتجة لأغانيهم، طالبًا منه أن يُضيف أغنية «حب عاطفية» واحدة على الأقل في الألبوم، لأن متطلبات النجاح التجاري تستوجب ذلك. كان «لين» يعي هذا الأمر تمامًا، استجاب رغم تحفّظاته وكتب أغنيةً أصبحت -فيما بعد- إحدى أشهر أغاني الميتل في التاريخ وهي (Cherry Pie) أو «فطيرة الكرز».
ذُهِل الجميع من نجاح هذه الأغنية التي كانت العاشرة ضمن أفضل أغاني بِلبورد المئة.
وفي مقابلة مع (VH1)، أخبر «لين» المذيع: أنه «يكره تلك الأغنية» بل وأخبره عن التفاصيل مع منتج شركة سوني حيث قال: «في تلك الليلة كتبت “Cherry Pie”، ثم أرسلتها إليه. فقرأها خلال عطلة نهاية الأسبوع، وفجأة تحول اسم الألبوم إلى “Cherry Pie” بدلًا من الاسم الذي اخترناه. وأصبح هناك رقم قياسي يسمى “Cherry Pie”، وأُجري مسابقات لتناول فطيرة الكرز، وإرثي اليوم هو “فطيرة الكرز”، كل شيء عني هو “فطيرة الكرز”، أنا رجل “فطيرة الكرز”، يمكن أن أطلق النار على رأسي لكتابة تلك الأغنية!»
بعدها بفترة بسيطة، انتحر في غرفته في إحدى الفنادق بشربه جرعةً زائدةً من الكحول.
أصاب البؤس «لين» من هذا النجاح الاستثنائي غير المتوقع لأغنية لم يكن يريدها في حياته، ربما كان «لين» مريضًا نفسيًا، وربما لم يتحمل هذا الإرث، وربما كان يشعر مع كل مديح على أغنيته -التي لم يرد كتاباتها- أنه قد باع روحه من أجل النجاح التجاري، مقابل تضحيته بما يؤمن به.
هذا الأمر الذي يحمل نوعاً آخر من التطرف، يعطينا الحق في التريُث والتفكير عندما نحاول أن نُثبت للآخرين -قبل أنفسنا- أننا نستطيع تحمل قدرًا شاقًا نضحي به من أنفُسنا في وقت لا نكون مستعدين فيه لقبول نتائج بيع الروح مقابل الشهرة.
إحساس الإدمان وأدواته متاحًا أكثر من أي وقتٍ مضى في عالم تقوده لوغاريتمات التواصل الاجتماعي، هذه اللوغاريتمات لم تنفك أن تكون هي الأخرى من خلق إنسان سوي مثلنا، لتصبح هي السهام التي تقتل أرواحنا.
كانت إحدى الدوافع الأسمى التي نشأ عليها ديننا هي «أن تعطي يميننا ما لا تعلمه شِمالنا» في فعل الخير، إلا أن كثيرًا من الناس اليوم أبَوا إلا أن يعطوا أمام الجمهور، فحتى العطاء لا قيمة له اليوم دون كاميرا، نبيع معها جزءً من الروح مع كل ظهور.