لا خصوصيّة في زمن المسحّب
أجد نفسي متسائلًا: متى بلغتُ هذا التساهل في إفشاء بياناتي؟ وما الذي جعلني لا أتردد بتاتًا في مشاركة بعضها؟
لو وصلتني رسالة وتسابية من رقم مجهول يطلب مني إرسال موقعي ويخبرني أنه قادم، لتجاهلته وبلكته دون تردد خوفًا على سلامتي. لكن لو وصلني الطلب نفسه من رقم مجهول يدعي أنه مندوب إحدى شركات التوصيل، لأرسلت له موقعي وأخبرته عن أوقات وجودي بالمنزل، ووصفت له الأبواب المفتوحة من الأبواب المغلقة، بل ولسولفت معه لاحقًا عن وجباتي المفضلة وأوقاتها والكلمات السرية لبطاقات البنك.
أوكى! إخباره بكلمات السر مبالغة 😏 لكن كل ما قبلها سبق أن حدث فعلًا. أجزم أن موقع سكني وبابه الخارجي معلوم عند العشرات من الأشخاص الذين لا أعرف حتى أسماءهم، في حين أنهم يعرفون اسمي ورقمي وتوقيت تناولي لبعض وجباتي وذائقتي في الأكل. فضلًا عن أن سيارتي -المرحومة- ظاهرة في أغلب تلك الصور.
ولكن بحكم اطمئناني نسبيًا لكوني لست مشهورًا يلحقه الباباراتزي، أو موجودًا على «قائمة الموت السوداء» لأحدهم (أو أتمنى أني لست كذلك)، فإني مستمر في ترقيم المناديب وإفشاء خصوصياتي لهم وفق الحاجة. ربما فات الأوان لأخذ خصوصيتي في الحسبان، ولكن ذلك لا يمنعني من حلب الموضوع في تدوينة أو اثنتين.
هنا أجد نفسي متسائلًا: متى بلغتُ هذا التساهل في إفشاء بياناتي؟ وما الذي جعلني لا أتردد بتاتًا في مشاركة بعضها؟ الجواب سهلٌ عندي: بدأ الموضوع حين صارت شركات الشحن وتطبيقات توصيل الأكل جزءًا من أسلوب حياتي. ولقد استخدمتُ صيغة الجمع -للأسف- لأن تساهلي تناسَبَ طرديًا مع عدد الشركات والتطبيقات والراحة (والتكلفة) التي يوفرها تطبيقٌ ما مقارنة بالبقية.
وهكذا فإني فعليًا أشتري راحتي وراحة بالي. ولكنني لا أشتريهما بالمال فقط، بل صرت أدفع جزءًا من خصوصيتي مع كل عملية جديدة. فلم يعد معنى «إن كان الشيء بالمجان، فأنت السلعة الحقيقية» محصورًا في فكرة الإعلانات والتسويق بشكلها القديم وحسب، بل صار مرتبطًا بتتبع كل آثارك الإلكترونية الممكنة في سبيل استخدامها وبيعها.
والحقيقة أن مشاركة المندوب عنواني ليس إلا الحلقة الأضعف في هذه العملية المعقدة، إذ أمتلك في نهاية المطاف حرية اختيار موقع التسليم. لكن الطامة الكبرى هي في البيانات التي أجهل أساسًا أن هذه التطبيقات تجمعها، وجهلي بالآليات التي تستخدمها فيها.
ليظل السؤال، ما القيمة الحقيقية لوصول المسحب ساخنًا إلى باب بيتي؟
نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.