يقول أحد شعراء العرضة الجنوبية في قصيدة قديمة سارت بها الركبان: «ليتنا وقت الحدث كنّا نصيّف في ضواحي لندن، كان صلينا على الفايد وشيعنا جنازته». وهو هنا يتمنى أمنيتين متلاصقتين كمولودين سياميين، الأولى أن يكون ممن يستطيع قضاء الصيف في ضواحي لندن، لأن ذلك سيمكنه من الأمنية الثانية، وهي الصلاة على صديق ديانا وتشييع جنازته.
وقد يسأل سائل هنا: ما الذي دفع شاعر عرضة في الباحة إلى تمني مثل هذه الأمنية؟ وهو سؤال لا يخلو من وجاهة. والشاعر أوضح السبب في مطلع قصيدته العصماء حين قال: «من نهار السبت لا يوم الأحد عدى ثمان أيام، والصحافة والمحطات الذي عبر الفضا منشورة، ما تناقل غير قصة موت أميرة ويلز في باريس.»
أي أن الضغط الإعلامي حينها جعله يشعر بالتقصير لعدم مشاركته في تشييع جنازة «دودي»، ووضع إكليل من الزهور على قبر الراحلة ديانا. ولو كان الحدث في هذه الأيام مع وجود وسائل التواصل، فلربما تحدث في قصيدته عن حقه في الميراث، وطالب بكفالة اليتيمين ويليام وهاري.

وهذا الذي شعرت به بعد موت الملكة إليزابيث. كنت أتابع الأخبار فانهمرت عليّ الرسائل عن الخبر نفسه، حتى وجدتني دون إدراك أنظر إلى هاتفي منتظرًا اتصال الأمير ويليام يعاتبني فيه على عدم حضوري. أو رسالة واتساب من كاميلا دوقة كورنوال -التي أصبحت ملكة- تذكرني فيها بأذكار الصباح والمساء.
وفي اليوم التالي وجدت أنه من المعيب أن أتحدث في أي أمر آخر، وشعرت بالاستياء من نفسي لأنني لم أحزن كما ينبغي.
والحق أن مما زاد الطين بلة، وجعل أسفي على نفسي أكبر أني أحاول أن أكون مثقفًا، وأن أصير يومًا في زمرة المثقفين التنويريين الذين يحملون مشاعل النور في دياجير الظلام. لكن أسى هؤلاء كبير وحزنهم عميق خفت من النزول إلى قاعه الذي لا قرار له. ولأنهم كائنات «عالمية»، فإن حزنهم في مثل هذه الأحداث أعمق وأكبر وأكثر وجعاً من حزنهم لو كان المتوفى أحد أقاربهم. ومن أوجب الواجبات التي يجب أكون لائقًا بها -إن أردت أن أصبح مثقفًا عالميًا- أن أتجاهل الأمور والأحداث القريبة، وأن أصرف اهتماماتي إلى قضايا ما وراء البحار. فلا يصبح المرء تنويريًًا حتى يصبح الآخر أحب إليه من بنيه، وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه.
حين تتوفر بين الحين والآخر أحزان فاخرة ذات طابع عالمي، فمن غير اللائق أن أنصرف إلى أحزان تافهة تخص مهمشًا مات فقيرًًا، أو مجهولًا قضى نحبه مسحوقًا مقهورًا لا يعرفه أحد. وواحد هؤلاء مثل ألفهم، يموت عشرة أو عشرون أو مليون، فهم ليسوا سوى أرقام لملء ساعات البث في نشرات الأخبار.
إذا كان استيراد حلول جاهزة من الخارج لمشاكل غير موجودة، ثم العمل على استيراد المشاكل لاحقًا قاعدة للمثقف التنويري -وهو الشيء الذي أريد أن أكونه- فإنه يمكن تطبيق هذه القاعدة على الأحزان. يمكنني استيراد حزن مستعمل لا يخصني، والترويج له ثم مهاجمة الظلاميين الذين لا يشاركونني أحزاني المستوردة.
المطمئن في الأمر أني لم أفكر في الحج عن الملكة الراحلة حتى الآن، ومصدر الطمأنينة أن فكرة الحج والعبادات لا تليق بالمفكرين. وهذا يعني أني في الطريق الصحيح، أما الذين يتصدقون ويعتمرون عنها، ويحفرون الآبار صدقة جارية لروحها الملكية فهم في الغالب فئة تريد أن تلبس «الدجة» لباسًا دينيًا .
والأمر بالطبع لا يخلو من عقبات، فحين كنت أردد في ألم وحسرة: بانت «إليزابيث» فقلبي اليوم متبول، قال لي من كنت أحسبه صديقًا: سأحترم إجلالك للموت لو كنت تنكسر عند كل وفاة، ويخيفك كل رحيل. لكن حين تكون أحزانك انتقائية، فالاحترام لا يليق بك ولا بحزنك.
ورغم هذا فإني ماضٍ في طريق التنوير، لا شك عندي في ذلك، ولن ألتفت لمثل هذه الآراء الظلامية المحبطة التي يروج لها المحليون أعداء النجاح والعالمية.