في خريف عام 2013، حكى لنا بروفيسوري الأبيض الأنقلو-ساكسونيّ عن موقف واجهه مع زميله الأبيض الأنقلو-ساكسوني. فالزميل سأل بروفسوري إذا كان ينوي إعادة صياغة بعض أجزاء كتابه عن تاريخ الستينيات في الولايات المتحدة ليحمي نفسه من تنامي أثر الصوابية السياسية وثقافة الكنسلة في الأحرام الجامعية، لا سيما وأن الكتاب يتناول فترة حرجة مرتبطة بحراك الحقوق المدنية والنسوية ومناهضة الحرب والهيبيز وغيرها.
وفي حين يقر بروفسوري بحسن نوايا زميله ظاهريًا، فإنه أجاب السؤال بناء على ما تلمح إليه دعوى التنقيح هذه: ولماذا أُبيّض تاريخ أمريكا؟
لنعد إلى الصوابية السياسية، هي فكرة مبنيّة على الاعتقاد بأن للغة دورًا محوريًا في صياغة الفكر، الأمر الذي ينعكس على الواقع وتعاطينا معه. فالصوابية تسعى إلى القضاء على الألفاظ والخطابات العنصرية أو المسيئة أو ما شابهها. ويتحقق ذلك باستخدام لغة تخلو من تلك المضامين، فيتغير فكرنا وتصوراتنا حول الواقع، فيتغيَّر الواقع بحد ذاته.
وتشكل الصوابية أحد أعمدة ثقافة الكنسلة وحملات المقاطعة والتجييش السوشال ميديائي، فضلًا عن إلحاق ضرر مادي بالفرد عبر فصله من وظيفته ونبذه وغيرها من العواقب. فما لم تكن صوابيًا (قولًا وفعلًا وإيمانًا) كما ينبغي، فأنت تستحق أن تتكنسل.
ويزخر «سب-ريدت» (r/byebyejob) بألوف الأمثلة لأفراد فقدوا وظائفهم ومستقبلهم وحرياتهم، بعدما كُنسلوا بسبب تعليق أو موقف غير-صوابي وثَّقته منصات التواصل الاجتماعي وجيَّشت الناس ضده. وكما هو متوقع، سرعان ما اندلعت النقاشات حول العلاقة بين الصوابية والكنسلة وحرية التعبير.
ومن هنا جاءت إجابة بروفيسوري على زميله. فإذا كانت فترة الستينيات الأمريكية حافلةً فعلًا بالتمييز العنصري والجندري وغيرها، فلماذا ينبغي على مؤرخها تخفيف وقعها أو تنميق أحداثها وجدالاتها؟ كيف تصف لغة الصوابية شخصًا يرمي طالبة ثانوية بإصبع ديناميت ضمن محاولات منع إنهاء الفصل العرقي في المدارس؟ بل ما معنى الأبحاث إذا فقد الباحثون حرية تقديم استنتاجاتهم ونتائجهم، دون خشية ضياع مستقبلهم؟
محاولات أمريكا «تبييض» تاريخها بفرض إطار صوابيّ للغة على نفسها وعلى الجميع -من ضمنهم نحن- تطرح أسئلة جوهرية عن العلاقة المفترضة بين اللغة وتصوراتنا عن الواقع.
فإذا كان الخوف من العواقب السوشال ميديائية وتهم «الزندقة» عاملًا رئيسًا في صياغة تعاطينا مع الأمور واستخدامنا لغة «صائبة»، فذلك لا يعني تغيّر الواقع فعلًا بقدر ما يعني نفاقًا جماعيًا، فضلًا عما يعنيه من المحاولة الأمريكية المستمرة في فرض ثقافتها على أنها التحديث الأكثر تطورًا والذي ينبغي على الجميع الالتزام به.
مقالات أخرى من نشرة أها!
لا تكتب بلغة «بطتنا بطّت بطتكم»
كلما زاد مستوى تعليم الشخص، زاد الحشو الذي يستخدمه في الكتابة، ولعل ذلك يفسّر كثرة الزوائد بالأبحاث العلمية.
رويحة عبدالربالبكاء على كتف الاستقالة الصامتة
لا أعرف إن كانت الاستقالة الصامتة حركة ستغيّر سوق العمل، أم توجّهًا إنترنتيًا سيختفي خلال أيام. لكنه يمنحك «هاشتاقًا» تبكي على كتفه.
رويحة عبدالربأين العقول المبتكرة؟
تخيل فقط لأنّك في روسيا، حُرمت البلاي ستيشن وتعطّلت تطبيقات دفعك بأبل باي! لهذا نحتاج إلى مستثمرين كإيلون ماسك يجد لنا العقول المبتكرة.
تركي القحطانيضوضاء المقهى تحفّز تفكيرك الإبداعي
يجد البعض تركيزه وزيادة إنتاجيته بالعمل في مستوى معين من الضوضاء. فإذا كنت تنتمي إلى هؤلاء، فأجواء المقهى هي البيئة الإبداعية الأفضل لك.
بثينة الهذلولمجموعات التنزه في الطبيعة ليست مجرد «ترند»
يندر حل تعقيدات الصحة العقلية من خلال تغيير نمط واحد في الحياة، لكن أظهرت العديد من الدراسات أن رؤية الطبيعة تهدئ أنظمتنا العصبية.
سحر الهاشميما يتمناه المثقف من إيلون ماسك
إن كان إيلون ماسك مصرًا على تركيب الشرائح في أدمغتنا، أتمنى أن تكون الترجمة الفورية سمعًا وبصرًا وكلامًا هي التطور التقني القادم.
حسين الإسماعيل